|
القاهرة 19 اغسطس 2025 الساعة 08:55 ص

بقلم: أمل زيادة
سكان كوكبنا الأعزاء..
اسمحوا لي أن أحدثكم هذا الأسبوع عن كاتبي المفضل، كاتب أثّر بي كثيرا، قد أكون لست وحدي بل أن له بصمة مع الأجيال كافة.
سكان كوكبنا الأعزاء..
عندما يرحل مبدع ما، لا أشعر بالحزن عليه؟!
أتدرون لماذا؟!
لأنه ترك أثرًا نهتدي به.
نستأنس به وقت الحزن لا سيما إذا كان صاحب قلم أو ملحن أو صاحب ريشة..!
لكل مبدع لونه المميز وإرثه وأثره الذي تركه للبشرية فتأثرت به.
إرث طبيعي لا دخل للتكنولوجيا به.. إرث أكل من روحه الكثير والكثير...
رحل عن عالمنا المقيت صاحب البصمة الأيقونية لأبناء جيلي الكاتب الكبير" صنع الله إبراهيم".
أسماه والده بهذا الاسم، لأنه عندما رزق به سألته زوجته ماذا نسميه فقال سأفتح المصحف وأول آية تقع عليها عيني سأبحث عن اسم له وقد كان وأصبح صنع الله إبراهيم... صنع الله بيينا.
الذي له مواقف لا تنسى وقناعات واضحة وجرأة لا يشق لها غبار.
ولد صنع الله إبراهيم في القاهرة عام 1937، ودرس بكلية الحقوق قبل أن تُوجّه قلمه نحو السياسة والصحافة، وانخرط في الفكر اليساري، ما عرض حياته لخطر الاعتقال عام 1959، ليقضي خمس سنوات في سجن الواحات، سجن لم يكسر إرادته، بل نحت منها مشروعًا أدبيًا متميّزًا .
عمل بالصحافة ثم بالعمل الإعلامي في برلين وموسكو، قبل أن يعود إلى القاهرة ويكرّس نفسه للكتابة منذ منتصف السبعينيات .
في عام 2003، صدم الوسط الثقافي بموقفه الجريء حين رفض جائزة "ملتقى القاهرة للرواية العربية" على الهواء مباشرة، ليس لرفض التكريم، بل كتصويتٍ صامت بالرفض ضد قمع الحريات والقضايا الإنسانية .
تعد رواياته وثائق أدبية في مواجهة السلطة.
لم “للتسلية” أو الهروب، بل ليبحث، يوثّق، ويقف في مواجهة السلطة... كتب
“تلك الرائحة” (1966) رواية نُقلت من تجربته في السجن، وتُعد من صرخة الحداثة في الرواية المصرية .
“اللجنة” (1981) سخرية كابوسية من السلطة والبيروقراطية في عهد السادات، كما أنها رواية رمزية تكشف عن ماكينة صنع القرار .
بيروت بيروت” (1984) مرآة للحرب الأهلية اللبنانية وعوالم القهر .
شذات” (1992) بانوراما عن حياة امرأة وسط تحولات مصر الاجتماعية، وحققت شهرة واسعة لوقوعها في قبضة التلفزيون لاحقًا .
شرف” (1997) ملف سجني ومقاومة متعددة الأشكال، احتل المرتبة الثالثة في قائمة أفضل مائة رواية عربية .
أعمال أخرى: "أمريكانلي"، "وردّة"، "الجليد"، "1970"، وغيرها من تواصل الزاوية النقدية والوطنية في الكتابة .
ما ميّز رواياته حقًا هو أسلوبه الصحفي الوثائقي، سردٌ جاف، مُقتضب، مأخوذ من الواقع اليومي ، أوراق إخبارية، تقارير، قطع إعلانية ، ليروي التاريخ من خلال تفاصيله المهشّمة وصفه وزير الثقافة بأنه "قامة أدبية استثنائية".
نعاه مثقفو مصر مؤكدين أن برحيله فقدنا جزءًا من رصيد السرد العربي .
أصدقاء الأدب قائلين "فقدنا صوتًا شجاعًا".
ونعاه آخرون بكلمات معبرة عن مكانته الأدبية الكبيرة: "لم يكن مواطنًا.. كان أمة".
وصفه آخرون بأنه "كان شاهدًا عنيدًا على زمن القهر، وكتب بلا مهادنة"
لن نبدأ رحلتنا في وداع الأديب الكبير إلا بصورة هادئة تخلّد رمزية هذا الوداع: صورة صنع الله إبراهيم، الذي رحل بصمت، لكنّه ترك صدى عميقًا ما زالت كلماته تردّد في وجدان الأدب والثقافة.
لم يكن رحيله مجرد رحيل؛ بل كان وداعًا لضميرٍ ثقافي ظل مشتبكًا بقضايا وطنه، غير قابل للطمس أو المهادنة، حتى الرمق الأخير من حياته .
حياةٌ صدحت بـ "لا"
في زمنٍ تجبره فيه المواقف بالتسارع والندية، كان صنع الله إبراهيم حالة مغايرة، كتب الصمت ثم انسحب، ومضى وفاءً لمواقفه وقلمه.
ترك وراءه مكتبة من الروايات التي لم تصمد لسنوات فقط، بل ظلت أدوات انتفاضة داخلية لكل قارئ يوقظ ضميره، رحل الرجل، لكنّه أبقى الواجب بين كلماتنا، أن نكتب حصْنًا، لا نزعةً للتسلية أو التواطؤ؛ أن نكون "لا" عندما يطلبون أعمالًا تروّج، وأن نختم حياتنا كما بدأنها صوتًا خاليًا من الأوهام، تائهًا في التاريخ كضميرٍ لا يخبو.
بصفة خاصة قرأت له عدة روايات لكن أقربهم إلى قلبي 1970 لما بها من أسرار موثقة لتاريخ تم تجاهله عن عمد.
أجاد توثيقه وتوظيفه في الأحداث بمهارة الصحفي المخضرم.
ورواية "امريكانلي" لهذه الرواية ذكرى خاصة وعزيزة لدي، لعل أبرزها عندما نشرت صورتها قائلة أني سوف ابدأ قراءتها، جاءني تعليق لم أستوعبه جيدا حينها.
كتب أحد الأصدقاء بلغي الأستاذ شكري تحياتي.. لم أفهم مقصده...؟!
قرأتها وغرقت في تفاصيلها وقابلت الأستاذ شكري وعشت معه أيامه مغامراته، أوهامه أحلامه، شروده وتأمله للأخر، والغوص في التاريخ وقدرة الآخر على التزييف وقلب الحقائق. أصبحت على موعد مع السعادة، مع مغامرات ويوميات الأستاذ شكري لأجدني أنهي كل ما بيدي لأكمل القراءة، وكم كان حزني عندما وصلت لنهاية الكتاب، وددت ألا ينتهي وهذه هي المرة الأولى التي يحدث لي هذا التعلق.
وفي اليوم التالي في موعد القراءة نفسه وجدتني أفتقد الأستاذ شكري وأتساءل كيف يقضي يومه وماذا يفعل..؟!
إنها عبقرية الكاتب، عبقرية صنع الله في نسج المواقف والكلمات..
بقدر حزني إن الموت والمرض حرمنا من عبقرية سردية نادرة إلا أن عزاءنا أن كتاباته باقية و قابلة للتأويل لتناسب كل عصر وكل جيل.
عزيزي صنع الله إبراهيم ارقد في سلام فلقد أرهقتك الرحلة رغم ما بها من متعة، أتمنى أن تكون قد حققت ما تصبو إليه، وأن تنتظرنا على الجانب الآخر وأنت بكامل بهائك وقلمك برفقتك وحكاياتك وصدقك ودهشتك لا تفارقك.
سكان كوكبنا الأعزاء..
أحب أن أسمع منكم هل قرأتم إحدى رواياته؟ وأي منها تركت فيكم أثرًا لا يُمحى؟
|