|
القاهرة 15 يوليو 2025 الساعة 09:12 ص

بقلم: د. حسن العاصي
الحياد العلمي يعني أن يكون المنهج العلمي صارمًا، لا يخضع للأهواء أو الأيديولوجيا. فالعالِم، حين يجري بحثًا أو يقدم استنتاجًا علميًا، لا ينبغي أن يُلوِّن نتائجه بمعتقداته أو انحيازاته السياسية أو الدينية أو العاطفية. هذا الحياد ضروري لضمان "الموضوعية"، و"المصداقية"، وإمكانية تكرار النتائج.
الحياد العلمي لا يعني الحياد الأخلاقي أو الإنساني، فالعلماء بشر، ويعيشون في مجتمعات تعاني من ظلم أو احتلال أو قمع. وكما أن للمواطن العادي الحق بل الواجب في مناصرة القضايا العادلة، فإن للعالِم أيضًا مسؤولية مضاعفة. صمته في القضايا الكبرى ليس حيادًا، بل صمتهُ تواطؤٌ مقنّع، خصوصًا إن كان لصمته أثر في التمويه أو التبرير أو الشرعنة.
لذا يتكثف النقاش داخل الأوساط الأكاديمية حول مشاركة العلماء في مناصرة قضايا الحريات والعدالة، ومن ضمنها مناصرة القضية الفلسطينية. مع تزايد عدد المشاركين من العلماء والباحثين، وأساتذة وطلبة الجامعات حول العالم، في الفعاليات لدعم فلسطين ومؤازرة الشعب الفلسطيني، وتزايد الدعوات إلى مقاطعة مراكز الأبحاث والجامعات الإسرائيلية من قبل عدد من الجامعات الغربية، ومقاطعة الفعاليات التي يشارك فيها علماء وباحثين إسرائيليين، فإن هذا التوجه يثير انتقاداتٍ داخل بعض الأوساط العلمية، ومن قبل بعض الأكاديميين الذين يخشون من أن تُقوّض المناصرة الحياد العلمي وتُثير مزاعم تحيز العلم وإساءة استخدام السلطة. على الرغم من ذلك، يرى بعض العلماء أن الدفاع عن المظلومين ونصراهم، والتصدي للظلم وفضحه هو واجب عقلي وفطري، تمليه القيم والأخلاق الإنسانية، ودفاعٌ عن مصداقية العلم. توجد مخاوفٌ بشأن استقلالية العلماء ودورهم في المجتمع في كلا طرفي النقاش، مما يُبرز التحديات التي يواجهها العلماء حالياً. وبينما لا يراهن البعض على مدى مقبولية المناصرة، فيما يقترح البعض أن يُشارك العلماء في نقاشاتٍ حول واجباتهم، وأن يُحدّدوا أنواع القيم التي تُعتبر مقبولة للتضمين في التواصل العلمي حول مناصرة القصايا العادلة. لكنني بصفتي باحثاً فلسطينياً فإنني أنحاز بالكامل لفكرة مشاركة العلماء والأكاديميين ـ بالكلمة، والموقف، والممارسة ـ في مناصرة كافة القضايا التي تمس الإنسان ومستقبله في هذا الكون، ومن ضمنها على سبيل المثال: قضية التغير المناخي، البيئة، حقوق الإنسان، السلام والأمن، الفقر والجوع.. الخ، وفي مقدمة هذه القضايا القضية الفلسطينية.
-
المناصرة - دفاع عن العلم أم تدميره؟
تثير الطبيعة المسيسة والمستقطبة للغاية لنقاش المناصرة تساؤلات حول مكانة العلماء والباحثين ودورهم المجتمعي. يؤكد العديد من مؤيدي المناصرة إلى أهمية دور العلماء الحيوي في مناصرة قضايا العدالة في العالم، حيث يساهمون في كشف الظلم وتقديم الحلول، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية العدالة. ويجادلون بأن مشاركة العلماء أمر مبرر لأنهم يعتبرونها مسؤولية اجتماعية أساسية للعلماء في أوقات الأزمات. تماماً مثل مشاركة العلماء في قضايا أخرى تهم البشرية مثل البيئة وتغير المناخ، ويدعون إلى المشاركة علناً وسياسياً، مثل عالمة الجغرافيا البشرية البريطانية "كيرستي هوبسون" Kersty Hobson، وعالم البيئة الأسترالي "سيمون نيماير" Simon Niemeyer، وعالمة المناخ النيوزيلندية "أميليا شارمان" Amelia Sharman. إن العلماء والأكاديميين مواطنين، كغيرهم من الناس، وبالتالي عليهم التزام بالانخراط في النقاش السياسي والسياسات، لأنه إذا لم يفعلوا فإن القرارات تُتخذ من قِبل أولئك الأقل دراية بالمنهج العلمي، والذين لا يملكون فهماً جيداً للحقائق مثل العلماء. ومع ذلك، فقد أثيرت مخاوف بشأن الصراع المحتمل بين الدعوة، والمناصرة، والمشاركة، والسعي إلى علم موضوعي خالٍ من القيم، حيث يُقال إن الانخراط في مناصرة السياسات قد يؤدي إلى تصور أن المعرفة العلمية تتأثر بشكل غير مشروع بالقيم السياسية، أو أن الخبراء يسيئون استخدام مناصبهم الموثوقة لخدمة أجندات سياسية. وبالتالي، يهدد هذا التصور بتقويض المصداقية والموضوعية العلمية.
ومع ذلك لا تزال هناك أسئلة أكثر جوهرية غير مستكشفة، مثل لماذا لدى العلماء هذه المخاوف والأدوار التي يعتقدون أن العلماء يجب أن يلعبوها في المجتمع. هناك بُعدين أساسيين يجب استكشافهما: المخاوف المعرفية المتعلقة بنزاهة المعرفة العلمية وموضوعيتها ومصداقيتها. والمخاوف الوجودية المتعلقة بأدوار ومسؤوليات العلماء في سياق مجتمعي.
يُظهر كثير من العلماء أن لديهم شعورٌ قويٌّ بواجب إيصال نتائجهم إلى الجمهور وصانعي السياسات. كما يؤكد العديد من فلاسفة العلم أنه لا يمكن فصل العلم عن القيم، وبالتالي فإن الدعوة إلى علم خالٍ من القيم غير ممكنة، بل غير مرغوب فيها. ما نحدده على أنه "علم جيد" يتشكل من خلال الأحكام القيمية. القيم جزء من كيفية عمل العلم؛ إنها تشارك ـ بشكل مشروع ـ في الأحكام العلمية التي يصدرها العلماء أنفسهم، وكذلك في فهم وتقييم الدور الذي يلعبه العلم في المجتمع. إن خطاب القيم في العلم ذو صلة في سياق المناصرة، حيث يطبق العلماء المنخرطون في المناصرة أحكاماً قيمة إضافية في كيفية وما يدافعون عنه، مثل نظرتهم السياسية للعالم.
يكمن قلق البعض في أن القيم السياسية المرتبطة بالمناصرة قد تمارس أيضاً تأثيرًا غير مقبول على إنشاء المعرفة العلمية، مما يؤدي إلى علم متحيز أو "المناصرة الخفية". ومع ذلك، فإن مجرد الانخراط في المناصرة السياسية لا يعني تلقائياً أن القيم السياسية قد أثرت بشكل غير مقبول على إنشاء المعرفة العلمية.
"طرحت مؤسسة العلوم والتكنولوجيا" Foundation for the Science and Technology في عام 2020 ـ وهي مؤسسة بحثية بريطانية، تُوفر منصة محايدة لمناقشة قضايا السياسة التي تتضمن عنصراً من العلوم أو التكنولوجيا أو الابتكار ـ سؤالاً مُلِحًاً حول العلم والسياسة: "كيف يُمكن الجمع بينهما والحفاظ على انفصالهما؟".
تمحور النقاش، حول السبل التي يُمكن ـ بل وينبغي ـ من خلالها اتخاذ القرارات السياسية بناءً على المعرفة العلمية. خلال هذه العملية، ناقش المشاركون دور الاستقلال العلمي، وضرورة فصل العلم عن النفوذ السياسي، وإلى أي مدى ينبغي أن يشمل "العلم" الدراسة الأكاديمية الأوسع للمعنى، بما في ذلك العلوم الاجتماعية والفنون والعلوم الإنسانية.
لا شك أن العلم والسياسة يتقاطعان بطرق عميقة ومهمة، هل يمكن فصلهما؟ من منظور التاريخ الثقافي، لطالما كان العلم سياسياً. إن "المعرفة" مفهوم ديناميكي وقابل للاكتشاف. وهو أيضاً مفهوم ذو موقع تاريخي. قبل القرن التاسع عشر، كان الشعر والبلاغة والفلسفة الأخلاقية تُعتبر جميعها بنفس أهمية "العلم"، إذ كانت تُعلّم تقدير الجمال والخير والحقيقة. في أواخر القرن الثامن عشر في ألمانيا، كما جادل الأكاديمي الألماني "باس فان بوميل" Bas van Bommel كانت هذه المواد الإنسانية تُمثّل في الواقع تعليماً إنسانياً من عصر النهضة، وتُفسّر على أنها "العلوم الدقيقة" (schöne Wissenschaften) على عكس العلوم الجامعية (اللاهوت والقانون والطب)، والعلوم العليا (höhere Wissenschaften) التي شملت الرياضيات والفيزياء. وبالتالي، يُمكن اعتبار أي تخصص، مجتمعًاً "علميًا"، شريطة أن يتبع المنهج الاستقرائي الأساسي لاستخلاص النتائج من الأدلة (البيانات).
أما اليوم، فقد أصبح تعريف العلم أضيق بكثير، ويقتصر على مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM). يعكس هذا التحول التغييرات التي طرأت خلال القرن التاسع عشر في تعريف بعض التخصصات وترتيبها هرمياً باعتبارها أكثر قيمة - وأكثر ارتباطاً بالموضوعية و"الحقيقة" - من غيرها. وهكذا، فبينما كان يُنظر إلى الفن في السابق على أنه يكشف عن حقائق جوهرية عن الطبيعة البشرية والوجود الأخلاقي، فقد أصبح، بحلول عهد الفيلسوف الألماني "فيلهلم تراوغوت كروج" Wilhelm Traugott Krug (1770-1842)، مجرد "عرض لما يُرضي الجمال". في المقابل، لم يكن العلم "مهتمًا بذلك قط، بل بإنتاج الحقيقة أو بالأحرى اكتشافها فقط.
لا تزال فكرة العلم كاكتشاف للحقيقة والفن كجماليات محورية في التسلسل الهرمي بين الفنون والعلوم الإنسانية في التعليم الغربي. من المألوف أن يدافع وزراء العلوم في الغرب عن قيمة العلوم الإنسانية. فهذه، في نهاية المطاف، هي "التخصصات ذاتها التي تجعل حياتنا جديرة بالعيش. إنها تُمكّننا من التفكير النقدي والتواصل. إنها تمنحنا بوصلة أخلاقية نحيا بها. إنها تُعزز تقديرنا للجمال، وتساعدنا على فهم أصولنا، بل وإلى أين نتجه. ومع ذلك، فإن العلوم الإنسانية ليست مجرد مرشد للحياة، بل هي أيضاً بالغة الأهمية لفهم كيفية وأسباب اتخاذ الناس لهذه القرارات، وكيف تنشأ وتتطور المعتقدات، وكيف يُفضّل شكل من أشكال الحجج على آخر، ولماذا يُعدّ مبدأ الموضوعية بالغ الأهمية، بل وإشكالياً، لعلم القرن الحادي والعشرين وسياساته.
إن إدراك هذه التفاعلات الحتمية بين العلم والسياسة - بدءًا من تحديد ما هو مهم، وصولاً إلى من يمكنه القيام بالحساب، ومن الاستدامة الاقتصادية للبحث إلى نطاقه الدولي وتطبيقه - أمرٌ بالغ الأهمية. فإذا لم يكن العلم موضوعياً وسياسياً دائماً، فإننا بحاجة إلى التركيز بشكل أكبر على ضمان تكامل القيم العلمية مع القيم الأخلاقية والاجتماعية.
|