|
القاهرة 24 يونيو 2025 الساعة 02:27 م

بقلم: سماء يحيى
لقد آمن أرسطو وأفلاطون بمبدأ أن كل علم وكل فن يمر بمراحل مختلفة، منذ البدء ثم إلى ذروة الازدهار ثم بداية الاضمحلال حتى التلاشي التام، وهذا المفهوم لا يتعارض مطلقاً مع الفلسفة الهندية التقليدية التي تقضي بدوام الخليقة، فالحكمة التي لا تعترف بالعصر ولا تقضى بالدوام المطلق، بل بإعادة التجدد والازدهار ثم الاضمحلال ثم العودة للتجدد من جديد عبر دائرية الزمن وتجدد العصور.
وهذا على عكس ما نادى به القديس أغسطين والذي لم يعرفه الفلاسفة الإغريق، هو أن الحياة الإنسانية هي ظاهرة مميزة غير قابلة للتكرار والتجدد، فتاريخ الكون من وجهة النظر الإغريقية هو آلية طبيعية تعتمد على تكرار نفسها من خلال دوائر زمنية، وهو ما يتفق مع الميثولوجيا الهندوسية في هذا الشأن.
انعكس هذا المفهوم الزمني الدائري والذي يتيح مجالاً لتكرار اللحظة أكثر من مرة على مفهوم الزمان والمكان في الفن، في منطقة وسط أسيا ككل، وفي التصوير بصفة خاصة، فلقد وجد الفنان الهندي متعة كبيرة في تصوير مشاهد لا يحكمها إلا عبقريته الفنية متجاهلاً فيها قوانين الطبيعة الرئيسية وعنصري الزمان والمكان، فقد جمعوا لحظات مختلفة من الزمن مع بعضها في نفس الصورة، بتقسيمها إلى عدة أجزاء كل جزء له زمانه الخاص ومكانه الخاص، أما وحدة اللوحة فتتحقق من خلال استلهامها لنفس الموضوع أو النص الشعري، فتظهر الأمكنة المتعددة كمكان واحد، والأزمنة المختلفة كزمان واحد، حيث أن الهدف ليس تجميد اللحظة ولكن استرجاعها.
لعل أحد أوضح الأمثلة على هذا المفهوم الزمني لقراءة الزمن في فن التصوير هو أحد منمنمات العصر المغولي من الجيتاجوفيندا، وهي منمنمة باشولي راجمالا Basohli Ramala من نهايات القرن السابع عشر على الطراز البهاري، فالمنمنمة التي تعكس قصة من المفترض أنها وقعت في أوائل القرن السادس عشر، تعكس قصة حب لاثنين والعلاقة بينهما في لحظة تواصل تعكس حب كان في الماضي ومستمر إلى المستقبل دون توقف عند لحظة زمنية معينة، وهي تصف انجذاب رجل إلى امرأة ويبدو هنا هو المسيطر لأنه الأكبر حجماً والأغمق بشرة، وتضارب لون بشرته مع ثيابه البيضاء تعكس فكرة استمرار الزمن، ففي هذه الصورة لا يوجد أي إيحاء بانتهاء اللحظة، وكذلك الخلفية الزرقاء التي تعكس سماء صافية لا تدل على أي حالة جوية معينة، وكذلك الأشجار الخضراء تعكس إحساساً بالمستقبل أو باللحظة القادمة بالقدر نفسه الذي تعكسه عن اللحظة الحالية، فجوهرية شكل الشخوص وعلاقتهم بالفراغ المحيط بهم يعكس استمرارية زمانهم، وقد أتاح هذا المفهوم الزمني الذي يعطي المجال للزمن لينغمس خلال الجو العام للوحة لإظهار مفاهيم فلسفية معينة من خلال الأسلوب الفني، ولإدماج العديد من الأفكار والأساليب وأنماط التفكير الدينية في اللوحة الواحدة، كذلك فإن عنصر الزمان المتغير أتاح الفرصة لإعطاء حيوية وتجديد لتمثيل عنصر المكان ولاستغلال الفراغ، كما أنه يمنح لأسلوب التصوير الهندي تميزه وتفرده.
وقد تولد عن هذه الرؤية الدائرية للزمن والتي تعد مبدأً أساسياً من مبادئ الفن الهندي عموماً وفنون النحت والتصوير خصوصاً رؤية مميزة للإيقاع داخل العمل الفني، فالشكل في الفن الهندي لا يصور في حالة سكون من منطلق السكون، وإنما هو شكل مجرد لوضع ثابت Static أخذه جسم في حالة حركة أو هو اقتطاع Sliced off للحظة معينة اتخذها الجسم وهو في حالة الحركة، وهذا المفهوم استُقيَ من عملية الرقص التي توحد عناصر إبداع الوضع، والذي هو عبارة عن بنية من العناصر ساكنة في حالة حركة، فحركة عدة أعضاء معينة وسكنات وإيماءات هذه الأعضاء مثل الأيدي أو الرقبة أو الوسط أو الأقدام في فن النحت أو في فن التصوير عندما يقتطع الفنان وضع معين للجسم من وضع راقص أو متحرك، ومحاولة تصويره تجعل المتلقي يتذكر هذا الوضع من الرقصة الكونية للإله ناريانا Lord Narayana، ووفقًا للميثولوجيا الهندوسية والمأخوذ بها في الديانات الثلاث الهندوسية والبوذية والجاينية فإن هذه الرقصة التي أنتجت حركة إيقاعية نتج عنها الموجات فوق المحيط الكوني، والتي أدت إلى الخلق وبنائه تقابلها على الناحية الأخرى الرقصة الإيقاعية للإله شيفا الراقص Natarja Shiva التي تؤدي إلى الدمار وذوبان الحياة، وهذا ما يفسر الحركة الإيقاعية للحياة من بدء فصعود فذوبان وتلاشي.
والحركة الإيقاعية للحياة ليست مجرد حدث فيزيائي أو خارجي فقط External، بل هي حركة روحية تمثل رغباتنا الروحية وإرادتنا المادية والنابعة من أفكارنا وعقولنا والتي تتمثل في الرضا والحب والكره والانفعال والذكريات، ورغم الجمود الذي تبدو فيه، فهي تعطي المعنى والفهم لحركات أجسادنا وتصرفاتنا المادية، فحياتنا الداخلية Inner life هي التي تعطي مفهوماً لتعبيراتنا وتصرفاتنا الخارجية، وهذه النظرية تنطبق أيضاً على المملكة الحيوانية والنباتية والتي لا تنفصل في الأدب والميثولوجيا عن الحياة بل تتداخل مع الضمير والوعي، فلابد أن تتناغم حياة الإنسان مع الإيقاع الكلي لحياة الطبيعية بما فيها من حيوان ونبات لتتناغم مع الحياة ككل، والدور الرئيسي هنا للفنان والشاعر هو أن يكتشف هذا التناغم والتوافق في الإيقاع ويمثله في فنه وفلسفته.
الخلاصة هي أن فن النحت والتصوير الهندي ما هو إلا مشاهد متقطعة من الإيقاع المتدفق والمتناغم بين الإنسان والطبيعة المحيطة به، ولذلك نادراً ما تظهر أشكال لعظام أو عضلات في حركة الأجسام في اللوحات حيث أنها تفقد أهميتها في تدفق وانصهار المشاعر وفي الحركات المعبرة المتوافقة، ولعل هذه الرؤية تتفق مع رؤية ليوناردو دافنشي في كتابه نظرية التصوير في أن شكل الجسد لا بدّ أن يتوافق مع الغاية أو الغرض المراد التعبير عنه في اللوحة، فإذا كانت الفكرة إظهار الرقة والشجاعة المحببة فلا بدّ للأعضاء من أن تميل إلى الشكل الأسطواني وأن تظهر العضلات بصورة طفيفة جداً للتعبير عن الأخلاق الرفيعة، أما الأذرع فلا بدّ أن يكون فيها ليونة ورقة، وهو ما يؤكد أن دافنشي يوافق على أن تدفق المشاعر الداخلية للإنسان هي التي تحدد شكل تكوين الجسد الخارجي الذي من المفترض أن يقوم المصور بتمثيله، ولكنه يرى أيضاً أن العمليات العقلية التي يقوم بها الإنسان تولد حركة بسيطة وسلسة للجسد لأنها أفعال عقلية، وأن هناك مشاعر عقلية معينة لا يمكن التعبير عنها بأية حركة أو تعبير جسدي، وهو ما اختلف فيه مع التصوير الهندي الذي تغلب على ذلك باعتماده على أسلوب اقتطاع أجزاء من الرقص الإيقاعي في التصوير، وعلى سبيل المثال الشكل الجامد لبوذا يعبر عن التوافق الذهبي مع الطبيعة والكون من خلال شكل الوجه ونمط تصوير الجسد.
كما نجد في الفلسفة الهندية مبدأ آخر مهم إلى جانب مبدأ تدفق موجات مشاعرنا وأحاسيسنا كمؤثر على الأنسجة والعضلات، وهو أن عقلنا الباطن باتحاده مع قوانا البيولوجية قد يعطينا مدخل للمعنى الحقيقي للحياة، فعندما تتحد الحيوات الخارجية للإنسان مع الحركات الداخلية لعقله فإن العقل الكوني وحياته الخارجية أيضاً يتحدان خالقان الكون الملموس أو المحسوس بالنسبة للبشر المايا ولذلك اعتبرت الفلسفة الهندوسية الإنسان جزءًا من الطبيعة وشريكاً لها، ولذلك تحدثت الثقافة الهندية من أدب وشعر عن المثل الإنسانية بل والأجساد الإنسانية على أنها جزء من الطبيعة ينبغي أن يتناغم معها ويسير على إيقاعه.
مفهوم التناغم نفسه يختلف ما بين الفلسفة الهندية والفلسفة الإغريقية، فبينما كان التناغم في الفلسفة اليونانية يتحقق عن طريق أساليب مثل السيمترية ووحدة الإيقاع هي الدلائل الأساسية على التناغم وعلى تحقيق مفهوم الجمال، أما الفنان الهندي فالتناغم والجمال عنده في جعل فنه معبراً وهادفاً ولكنه لم يكن يهدف للتعبير عن كينونته أو شخصيته ولكن للتعبير عن العناصر الكونية والنفسية في الإنسان، والتي تنتقل مع روحه عبر الزمن من جسد لآخر، وحتى المشاعر التي تكون مزروعة بعمق في النفس الإنسانية مثل المشاعر الجنسية أو الخوف أو الغضب وحتى المرح والبطولة والتعجب والسكينة تعتبر مشاعر انتقالية ولها أيضاً جانب كوني، لسببين رئيسين أولهما أنها جزء من الإنسان وعنصر رئيسي من طبيعته، وثانيهما أنها غرائز أساسية تنبثق عنها عدة مشاعر أخرى قد تكون لها صلة بالكون وبالطبيعة الكونية.






|