|
القاهرة 21 يونيو 2025 الساعة 08:11 م

بقلم: د. حسان صبحي حسان
تحتفي إشارات "مارسيل بروست" بذلك الأمان النفسي والراحة والاطمئنان بالعيش في الماضي، واستدعاء أحداث الطفولة واللعب وسعادة الصغار في الاحياء الشعبية، وطاقة استرجاع ذكريات الماضي عبر منافذ متعددة مثل "التفكير العاطفي" الذي يمتلك قدرات تفسير المسترجع وفق أريحية الفرد، لتبوح بذلك النوستالجيا (بالحنين إلى الماضي المثالي وتفاصيله ومكوناته)، ذو الأمان النفسي والراحة، لتفصح الذاكرة عن شريط فيديو مصور يسجل في دقة (ما جرى وما كان)، بما يستثير في النفس مشاعر مختلطة متشابكة ما بين السعادة والفرح والمرح والشجن.
لتشخص عدد من التأليفات الفنية قدراً من الأجواء المناخية التي تدفقت وولجت من مخيلة الفنان للتعبير عن ذكرياته الماضية حول أيام وألعاب الطفولة، والطاقة الجارفة للعالم البريء الملهم، والعودة إلى تلك الأزمان والأماكن والمراحل، والحنين إلى (الأشخاص والألعاب وعهود الطفولة البريئة، والتفاصيل وحياة الزمن الجميل، وبساطة الحياة - وإلى أنفسنا وملامحنا وأعمارنا وأحلامنا في تلك الفترات والشعور بجماليات الأشياء بعد انقضائها) في منظومات عاطفية وتعبيرية مرحة غاية في الرقة والرهافة والإحساس والتجانس اللوني المعبر، والتأثيرات المساحية البليغة، داخل قوالب تشكل العناصر بمنتهى الصدق بعيدا عن أي صخب حكاء وتفصيليات مصطنعة تؤثر على الاستقبال العاطفي الجيد لرسائل العمل الضمنية.
البحث عن الذات في "مسرح الطفولة والبراءة":
ولكونه باحث بصري برنامجي توثيقي يرتكن لإعلاء الفكرة والمضمون في تسجيل تصوراته الفنية ومدفوعا عبر ذلك الإحساس، فقد قدم الفنان "محمد علي نصرة" صياغاته التي تتسم بالألفة والأمان، والانجراف عن صخب وزيف العوالم المصطنعة، وعوالمه الخلابة الصيرورية التي يتحدث فيها عن تلك الذكريات الدقيقة، ويدون خلالها أحداث وألعاب الطفولة بصورة أثيرية محلقة، واسترسال ساحر يحفل بتسجيل لحظات إنخراط الأطفال فى مداعبة ألعابهم، والأوقات المرحة التي يحلقون فيها في سعادة منفردين أو مع غيرهم من الرفقاء في دنيا البراءة مفتوحة الأجواء، وتصوير تلك العلاقات واللحظات السعيدة المرحة.
إن مثل هذه المنهجية الفكرية والحرية التي اصطبغ بها الفنان "محمد علي نصرة" حصنته من الوقوع في براثن النظم والقوالب المألوفة، من خلال فنه الذي يسرد ويقص دون الانزلاق في مدارات الإسهاب السردي بما هو غير ضروري وغير حقيقي، والبسط السردي دون فائدة- لصالح نقل الصور إلى ما وراء المادي الملموس، الذي يتبادل فيها الشكل والمضمون خواصهما ويتوحدان عند البعد العميق والجذري الذي يتأصل في نظرته وبصيرته كفنان، للتعمق داخل عوالم يحل فيها الأطفال والصغار محل الكبار، وتتحرك خلالها الألعاب والكرات والمراجيح والزهر والأزرار والاحجار بمهارة تدهش الأعين.
ولكون (الحقيقة) ذلك الكامن الذي يغلف دواخل الصور الظاهرية، وباعتباره فنان صادق منقب عن أسرار الجمال، ولديه أبعاد عميقة ونظرة شمولية، قادرة على إيصال الصوت والصدح بمضامين تحتاج الإمعان في التفكير فيها، تأتي أعمال الفنان " محمد علي نصرة " لاستدعاء الأحداث واجترار الذكريات والحنين لفعل اللعب والمرح أملا في استعراض شريط سينمائي أمام أعين الجمهور المتلقي، والإطلال على الجمهور من خلال نوافذ فنية ذات محركات تعبيرية تموج بالعاطفة، ورحابة الغنائية اللونية، واللمسة الحالمة الشاعرية المقتضبة التي تنقل المشاهد وتشحذ حالته النفسية، من وإلي البهجة والتفاؤل، ودعوته للتحليق داخل عوالم اثيريه ملئيه بالأحلام، تجعله يعشق تلك الأجواء ويتعالق بها.
ليتعاظم ويتأطر البعد الحالم في أعماله، ويرسم مسارات تسمح بالتجول من خلالها في ذكريات المرح واللعب والتسلية في الشارع والحارة، عبر مخيلة مشبعة بالصور والأفكار والأحلام والخيال وفيض التصورات التي يحاول فيها الفنان التنقيب عن (الذات في مسرح الطفولة والبراءة) (ومحاولات طرح تفسيرات خاصة لفهم العالم المرح الكبير) الذي يعج بالأحداث والمجريات التي يعشقها الصغار ويفهمها الكبار، لما تحمله تلك الأحداث من فيض مشاعري منساب والحنين إلى الذات ودواخلها، وكان الاسترجاع النستولوجي يستعرض البدايات والنهايات ويقود نحو العودة إلى ذكرياتنا، وعاداتنا وجذورنا.
فالفنان "محمد علي نصرة" هو مسافر متجول ومنقب في كل المناطق التي يمارس فيها الأطفال والصغار مرحهم ولعبهم داخل عوالمهم الخاصة وأماكنهم المتشبعة والممتلئة بالتفاصيل والجزئيات، كنوع من التذكير بذلك عبر نبرات عالية نابضة صداحة، إمعانا لعدم تهميش الدوافع الطفولية نحو اللعب والتسلية والمرح، ليبدأ الفنان بتلخيص اختزالي وتنظيمات تعبيرية بغرض شحذ تأليفات فنية بنظرة ذات مرجعية فلسفية متصلة بعوالم الطفولة البريئة النقية وتصوراته للحياة والكائنات والطبيعة والألعاب، وتكشيف ذلك العالم الداخلي بكل إمكاناته الروحية والأسطورية، وتمكين المشاعر والأحاسيس، والألوان الوضاءة باعتبارهما وسائل هامة تساعد على تأطير جوهر الظواهر والعناصر.
نصوص بصرية ذات براءة ونقاء وصدق مشبع بروح الفنان وإحساسه ومخزونه الفكري والمجتمعي وعطائه المتدفق، لينعطف الفنان نحو أطروحاته الفنية التي تتخذ وجوه الأطفال وأجسادهم منحنيات تصاعدية عبر ملامحهم المدججة (بالفرح والسعادة والمرح والتفاؤل والحب والخير والأمل والبهجة والشغف) بسبب الانخراط في مراسم اللعب والوقوف على مسرح المرح والتسلية، ليعبر الفنان بذلك عن هوية وذاكرة جمعية وحالة وجدانية نشطة، خلال أنموذج مغاير في تناول وصياغة المنظر لترجمة انفعالاته وعواطفه وأحاسيسه، عبر حداثة فنية حيوية مفعمة بالرومانسية والشاعرية والعاطفة، بعيدا عن الهيئات البصرية التي ترتكل الي التنظيمات البنائية وإضفاء الصبغة الموسيقية، وتصوير الإنفعالات المختلفة على وجوه الشخصيات، والأضواء العاطفية المعبرة، بهدف تسجيل تعبيره من عالم اللعب والمرح والسعادة.
"النستولوجيا" وتخصيب دراما الحركة واللون:
ولأن هدفه لا يكمن في تفاصيل الأشياء، جاء اللون لدي الفنان "محمد علي نصرة" (وسيلة وغاية) لتؤسس بذلك صياغاته التصميمية وترتكن على تحقيق جمالية اللون، فالمنظر عنده ليس بالمفاهيم الكلاسيكية او التعبيرية أو التلخيصية الاختزالية، بل كل ذلك عبر (جمالية الانفعالات المشبعة بعاطفة وحيوية اللون) (الانطباعي العضوي- مع التجريد العقلاني المنظم- مع الصدح اللوني العاطفي) (مشاعر حارة- شاعرية لونية- لتأسيس البهجة والفرح) والتعبير عن ذلك عبر ضربات لونية حارة قصيرة شديدة التوهج شديدة التعبير، وهو التنوع الجمالي الذي استمده من طبيعة الشرق وروح الحارة والبيئات الشعبية، من حيث وضوح الألوان وصراحتها واشراقها ونورانيتها، وتنوعها ودرجاتها اللونية بتأثير من أشعة الشمس.
كما تشير الحركة في الأطروحاته الفنية للفنان إلى المسار البصري لعين المشاهد داخل المساحة، ويزداد الإحساس بالحركة في التكوينات التي تعتمد على المحاور المائلة، والتكوينات الهرمية، والتدرج في اتجاه الخطوط والاشكال والملامس والدرجات اللونية، والتكرار لعنصر واحد في أوضاع متعددة، واستمرارية الخطوط، حيث تستطيع عين المشاهد التجول بصريا داخل التصميمات من مركز السيادة إلى باقي العناصر المحيطة ومحاورها الإنشائية وملامسها وألوانها وتفصيلاتها والعودة لنقطه البدء.
وقد عدد الفنان من أنواع الحركة، ما بين الحركة الخطية المستقيمة: والتي تعني بانتقال الحركة بين مجموعة من النقاط (جميعها) في خط مستقيم في أزمنه متتالية، (الحركة الرأسية التي تتشكل في اتجاه رأسي، وعكسها في الاتجاه الأفقي). والحركة الإشعاعية: التي تعتمد على نقطة مركزية واحدة ومحددة يختارها الفنان لتنطلق من داخلها الأشكال والعناصر إلى المحيط المجاور (في اتجاه واحد أو في اتجاهات مختلفة) والحركة التجميعية: التي تجمع كافة المفردات من الخارج إلى الداخل لنقطة محددة تسمي نقطه التجميع، ويخضع هذا التجمع لنسق خاص تحدده فلسفة الفنان. والحركة الترددية: التي تعني الإنتقال من نقطه إلى أخرى ذهابا وإيابا من خلال حركة منتظمة تتساوي فيها المسافتين (الذهاب، الإياب) (اتجاهين متضادين) مثل الحركة البندولية، الحركة المستقيمة في الاتجاهين الرأسي والأفقي. والحركة الدائرية: للانتقال عبر مجموعة من النقاط والحركة في مسار دائري حول نقطة ثابتة، فالدائرة ليس لها بداية أو نهاية، ومن أكثر الاشكال الهندسية استقرارا واكتمالا، وتشير الى الحركة الدؤوبة الدوارة والمستمرة والأبدية.





|