القاهرة 10 يونيو 2025 الساعة 01:02 م

بقلم: د. هويدا صالح
سؤال الجمال بين المحلي والمركزي
منذ أن بدأت الحداثة الغربية في فرض أنساقها الثقافية والجمالية على العالم، ظلّت الكتابة العربية، في معظم تجلياتها النقدية والإبداعية، تتأرجح بين التماهي والتجاوز، بين التلقي والتأسيس. لقد ارتبطت الجماليات، بوصفها منظومة قيم وتصورات عن الفن والذوق والتلقي، في العالم العربي بمعايير مستوردة من الغرب، وخاصة تلك التي ارتبطت بحقول الفلسفة الجمالية الألمانية والفرنسية والأنجلو-أمريكية. لكن مع تصاعد الأسئلة النقدية حول المركزية الغربية ومشروعية التمثيل، ظهرت الحاجة الماسّة إلى إعادة النظر في مفهوم "الجماليات" ذاته، ومساءلة بنياته، بحثًا عن إمكانية تأسيس جماليات عربية جديدة تتجاوز هذه المركزيات دون الوقوع في فخ الانغلاق الثقافي أو النوستالجيا التراثية.
أولًا: المركزية الغربية ومآزق التلقي العربي
عبر العقود، تم تصدير النموذج الجمالي الغربي بوصفه معيارًا عالميًا لقراءة الفن والأدب. فكانت نظريات مثل الشكلانية الروسية، البنيوية الفرنسية، أو حتى التفكيكية، تتصدر المشهد النقدي العربي، ويعاد إنتاجها أحيانًا في سياقات عربية لا تشبه سياق نشأتها. أدى هذا التبني إلى هيمنة تصورات "كونية" للجمال، تم إخضاع النصوص العربية لها بوصفها نماذج "ناقصة" أو "قاصرة" عن تحقيق الشرط الجمالي كما تراه النظريات الغربية.
غير أن هذا التلقي لم يكن بريئًا، فقد فرض علاقات قسرية بين النص العربي ومفاتيح قراءته، وأقصى أنساقًا تعبيرية محلية تتجلى في الشعر الشعبي، والزجل، والحكاية، والمراثي، والمواويل، وسرديات النساء، باعتبارها "هوامش" لا تليق بالتأطير الجمالي الحديث. وهكذا تشكّلت فجوة بين الذائقة العربية ومصادرها التاريخية، وبين معايير الحكم الجمالي المستوردة، مما ولّد شعورًا بالاغتراب المعرفي والجمالي في أوساط كثيرة من المنتجين والمستهلكين للخطاب الثقافي.
ثانيًا: ملامح الجماليات العربية الكامنة
بعيدًا عن نماذج الهيمنة، يمكن القول إن هناك "جماليات عربية كامنة"، غير مصاغة نظريًا بالكامل بعد، لكنها تتجلى في الممارسة النصّية والسردية، وفي أشكال التعبير المحلي، وفي التقاليد الفنية الشفوية والمكتوبة، التي تحمل رؤية مختلفة للعالم، وللإنسان، وللعلاقة بين الذات والمجتمع، بين اللغة والواقع، بين الفن والحياة.
إن الشعر العربي، القديم والحديث، يحتكم إلى حساسية جمالية تختلف عن النموذج الغربي الكلاسيكي في بناء الصورة والإيقاع. وتتمثل الجمالية العربية مثلًا في العلاقة المعقدة بين الصوت والمعنى، في هيمنة التكرار لا بوصفه فقرًا بل بوصفه موسيقى للذاكرة. كما تتجلى في النزعة الحكمية والتأملية، وفي تعدد مستويات التلقي من الجماهيري إلى النخبوي. أما في السرد، فثمة حضور لافت لبلاغة الاستطراد، والمونولوج الداخلي، والزمان غير الخطي، وهي خصائص لا تتطابق مع معيار "الوحدة العضوية" أو "البنية المحكمة" التي تعززها نظريات غربية.
وإذا أضفنا إلى ذلك الفنون الشعبية، من الحكاية الشفهية إلى فنون الأداء والإنشاد، فسنكتشف تراثًا تعبيريًا غنيًا قائمًا على تفاعل جماعي بين الراوي والجمهور، وعلى جسدانية التجربة الفنية، وعلى انصهار المقدس واليومي، وهي عناصر تتطلب أدوات تحليلية جديدة تختلف جذريًا عن أدوات التحليل البنيوي أو التفكيكي.
ثالثًا: نحو تأسيس نظرية جمالية عربية
السؤال هنا ليس في نفي أو رفض ما أنتجته الفلسفة الجمالية الغربية، وإنما في مساءلتها من موقع التفاعل والتباين، والسعي لبناء مشروع نقدي عربي يقوم على:
ـ تفكيك المركزيات الغربية، لا عبر الخطاب الإيديولوجي، بل من خلال مقاربة نقدية لمقولاتها وتاريخها وسياقها الخاص، والكشف عن تواطؤها مع سرديات الاستعمار الثقافي والتفوق المعرفي.
ـ إعادة الاعتبار للأنماط التعبيرية المهمشة في الثقافة العربية، من حكايات الجدّات إلى المدائح الصوفية، ومن الملاحم البدوية إلى قصائد النثر، بما هي أدوات لبناء حساسية جمالية مغايرة.
ـ توسيع مفهوم الجمالي ليشمل التداخل بين الفن والحياة، بين الشعر والسياسة، بين السرد والتاريخ، بين اللغة والجسد، وهو ما يفتح المجال لتعددية جمالية تعترف بتنوع الذائقة وتغير الذهنية.
ـ تأصيل مفاهيم نقدية عربية، لا بمعنى استنساخ التراث، بل عبر استعادة المفاهيم الفاعلة في الأدب القديم مثل "الطرب"، "البيان"، "الإعجاز"، "الوجد"، وقراءتها بلغة معاصرة تسمح بتوسيع النظرية الجمالية دون التماهي مع مركزيات خارجية.
ـ جماليات ما بعد المركزية – بين المحلي والعالمي
إن المشروع الجمالي العربي لا يمكن أن ينجح إلا إذا تحرر من ثنائية الأصالة والمعاصرة، وعبر عن نفسه بوصفه جزءًا من "جماليات ما بعد المركزية"، التي تقر بتعدد المراكز، وتفكك الهويات الجمالية الكبرى، وتحتفي بالهجين، بالتعددي، بالهامشي. إن جمالية عربية ما بعد مركزية ليست انغلاقًا على الذات، بل إعادة تعريف للذات في ضوء الآخر، وتجاوز لفكرة التبعية أو القطيعة، لصالح علاقة نقدية واعية، تُعيد رسم الخريطة الجمالية العالمية من جديد.
وقد بدأت ملامح هذا المشروع تتجلى في بعض التجارب الإبداعية العربية الحديثة، سواء في الشعر الجديد الذي يتكئ على تجربة يومية حميمية، أو في الرواية التي تعيد كتابة التاريخ من موقع الضحية، أو في السينما التي تحتفي بالجسد والفراغ واللغة، أو حتى في الفنون التشكيلية التي تستعيد رموزًا بصرية من الموروث الشعبي. هذه كلها محاولات تؤسس لوعي جمالي جديد، ليس تابعًا ولا متعاليًا، بل متجذرًا في الأرض ومتصلًا بالكون.
نحو أفق مفتوح للجماليات
تأسيس جماليات عربية جديدة لا يعني اختراع نظرية مغلقة، بل تحرير الجمال من احتكارات المراكز، ومن استلاب السياقات. هو مشروع طويل ومعقد، يتطلب من النقاد والكتّاب والمفكرين العرب إعادة بناء العلاقة بين المفهوم والممارسة، بين المحلي والعالمي، بين الذاكرة والحداثة. إنه نداء لكتابة الجمال بلغة جديدة، تنبثق من الهامش، وتعيد للهوية العربية مكانها في خارطة الفن العالمي، لا كمستهلك للمعايير، بل كمنتج للدهشة والمعنى.
|