|
القاهرة 03 يونيو 2025 الساعة 10:56 ص

بقلم: د. حسين عبد البصير
في قلب مصر القديمة، وتحديدًا في مدينة منف (التي عُرفت قديمًا باسم "من نفر"، وتقع بالقرب من القاهرة الحديثة)، نشأ معتقد ديني مهم يُعرف باسم "ثالوث منف". كان هذا الثالوث يتكوّن من ثلاثة آلهة رئيسية: بتاح، وسخمت، ونفرتوم، وجميعهم يجسّدون رؤية المصريين القدماء للخلق والشفاء والتجدد. فما هي قصتهم؟ ولماذا كانوا من أبرز رموز الديانة المصرية؟
بتاح: إله الخلق والحرف والفنون
يعتبر بتاح إله الخلق في المعتقدات المصرية القديمة، وكان يُعرف بأنه خالق الكون بالكلمة والتفكير. اعتقد المصريون أن بتاح خلق العالم من خلال نطقه للأفكار و"الكلمة المقدسة"، وهو ما يجعله رمزًا للإبداع والفنون والحرف. كان بتاح أيضًا إله الحرفيين والصناع والمهندسين والنحاتين، وهو ما يفسّر سبب ارتباطه بمدينة منف، التي كانت مركزًا صناعيًا مهمًا. صُوّر بتاح كرجل ملفوف في عباءة ضيقة، يحمل صولجانًا مركبًا يجمع بين رموز القوة والحياة والاستقرار.
سخمت: إلهة الحرب والشفاء
إلى جانب بتاح، تقف سخمت، الإلهة القوية التي تمثل القوة والدمار، ولكنها في الوقت نفسه رمز الشفاء والحماية. كانت سخمت تُعرف بلقب "سيدة الحياة"، فهي كانت قادرة على منح الصحة أو نشر الأوبئة، بحسب رضاها. صُوّرت سخمت كامرأة برأس لبؤة، ترتدي التاج الملكي وتحمل صولجانًا، مما يعكس طبيعتها المزدوجة التي تجمع بين القوة والرحمة. اعتقد المصريون أن سخمت قادرة على شفاء الأمراض، لذا كانوا يكرّمونها ويقدّمون لها القرابين لطلب الصحة والشفاء.
نفرتوم: إله الشباب والجمال والزهور
أما نفرتوم، ابن بتاح وسخمت، فهو يمثل رمز الشباب والجمال والتجدد. ارتبط نفرتوم بزهرة اللوتس، التي كانت رمزًا للحياة والنقاء في الثقافة المصرية القديمة. صُوّر نفرتوم كرجل يرتدي تاجًا مزينًا بزهرة اللوتس، أو كطفل يجسّد البراءة والتجدد. اعتقد المصريون أن نفرتوم يجلب الصحة والجمال ويعزز الخصوبة، لذا كانوا يضعون تماثيله وزهوره في بيوتهم ومعابدهم طلبًا للبركة والنقاء.
معنى الثالوث في فلسفة منف
لم يكن ثالوث منف مجرد مجموعة من الآلهة المتفرقة، بل كان يعكس فلسفة متكاملة ترى الحياة على أنها مزيج من الإبداع (بتاح)، القوة والشفاء (سخمت)، والتجدد والجمال (نفرتوم). هذا التصور الفلسفي جعل من ثالوث منف رمزًا للحياة المستمرة، التي تبدأ بالخلق وتستمر عبر الحماية والتجدد. وقد كان لهذا الثالوث دور بارز في طقوس المصريين اليومية، خاصة في مدينة منف التي كانت تعتبر عاصمة مصر في بداية العصور التاريخية.
منف: العاصمة القديمة لمصر ومركز العبادة
كانت مدينة منف عاصمة مصر خلال فترات مبكرة من تاريخها، ومركزًا للحكم والديانة والاقتصاد. اشتهرت بمعابدها الضخمة المخصصة لعبادة بتاح، ومن أشهرها "معبد حوت كا بتاح"، الذي يعني "بيت روح بتاح"، وهو الذي اشتُق منه لاحقًا اسم مصر باللغات الأجنبية .(Egypt) لعبت منف دورًا محوريًا في تعزيز مكانة بتاح وسخمت ونفرتوم، لتصبح مركزًا دينيًا عظيمًا.
أثر ثالوث منف في الثقافة والحضارة المصرية
امتد تأثير ثالوث منف إلى الأدب والفن والسياسة. فقد كان الحرفيون والفنانون يعتبرون أنفسهم في رعاية بتاح، بينما كانت سخمت تُعبد طلبًا للحماية والشفاء، وكان نفرتوم مصدر إلهام للزينة والجمال. حتى اليوم، نجد في آثار منف تماثيل ضخمة ومعابد عظيمة تروي قصة هذا الثالوث الذي يجمع بين الإبداع والقوة والجمال.
يمثل ثالوث منف تجسيدًا رائعًا للفكر المصري القديم، الذي رأى الحياة كتوازن بين الخلق والقوة والتجدد. يجمع بين بتاح، الحرفي الخالق؛ سخمت، الأم الحامية والشافية؛ ونفرتوم، ابن الشباب والجمال. وحتى اليوم، تظل آثار منف شاهدًا حيًا على عبقرية المصريين القدماء وفلسفتهم العميقة. زيارة آثار منف ليست مجرد رحلة إلى الماضي، بل هي دعوة لفهم كيف رأى المصريون القدماء الحياة والكون بتوازن وانسجام.
|