القاهرة 29 ابريل 2025 الساعة 08:57 ص

عاطف محمد عبد المجيد
منذ أن خُلق الإنسان وتعرف على الكون من حوله شعر بقوى عليا مسيطرة على الطبيعة والوجود، وهو شعور فطري نبع من فطرته الإنسانية بوجود خالق، فكل مظاهر الحياة بدت لعينيه مظهرًا لقوة إلهية، ومن ثم لم يفصل بين معتقداته وملاحظاته أو تجاربه في محاولته لتفسير العالم من حوله.
هذا ما قالته شاهيناز زهران في كتابها "الأخلاق في الفكر المصري القديم"، وفضّل د. محمد إمام صالح أن يبدأ به مقدمته لكتابه "تأملات في التدين الشعبي في مصر الفرعونية" الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وفيه يورد كذلك ما قاله أدولف إرمان: رغم أن المصري لم يرَ هذه القوى إلا أنه آمن بها وأعطاها أسماءً وأشكالًا حسبما تخيلها، جاعلًا من بعضها أخيارًا يساعدونه ومن بعضها الآخر أشرارًا أعداءً له، وبخطواته نحو التحضر أراد أن يجعل له معبودًا، كلما فكر فيه سما بنفسه فوق ما ينتابه من اضطرابات.
صالح يكتب هنا قائلًا إن الرباط الذي بين المعبود والبشر انقسم إلى سياقين أحدهما رسمي كان يمارس طقوسه الملك والكهنة في المعبد، والآخر شعبي وله مؤشرات يمكن ملاحظتها من خلال النصوص والقرابين النذرية التي تركها أصحابها من مختلف طبقات وفئات المجتمع في أماكن العبادة أو المنازل، ومع ذلك لا يمكن تلمس طقوسه بشكل واضح ودقيق كالعبادة الرسمية، خاصة وأن العبادة الشعبية تميزت بالحرية الشديدة ومارسها عامة الناس وكذلك الكهنة رغم ارتباطهم بشكل أو بآخر بالعبادة الرسمية، ذاكرًا أن العامة قد تعبدوا لعدة معبودات خلعوا عليها من الصفات والقدرات ما يلبي احتياجاتهم ورغباتهم، فتعبدوا إلى ثالوث طيبة فرادى ومجتمعين.
كثرة المعبودات
هنا أيضًا نعرف أن الفكر الديني عند المصري القديم قد تميز بكثرة المعبودات التي قدسها، ولعب التطور الفكري والعقائدي دورًا فعالًا في تصوره لهذه المعبودات واضعًا لكل منها خصائصه ومنزلته الخاصة، وأن الديانة المصرية القديمة اتخذت لنفسها طابعًا خاصًّا يتفق مع الطبيعة الهادئة والعمل المستمر الذي حتّمته البيئة التي عاش فيها المصري القديم، وأن النظر إلى الدين في مصر القديمة بأنه التقرب إلى المعبودات أو إرضائها يُعد نظرة ضيقة، في ظل وجود مصطلحين متوازيين هما الدين والتقوى يشيران إلى أشكال تقرب المجتمع والأفراد من المعبودات، وأنه من أهم سمات الثقافة المصرية الاختلاف بين التدين الضمني والصريح، وحسب تعريف أسمان فإن التدين الضمني بُني على القواعد والأفكار المتعلقة بالمقدسات وكيفية التعامل معها، ومكمنه العبادة، أما التدين الصريح فيتضمن الرؤية المصرية الكونية التي تمثل الفعل الإلهي ورد الفعل ضد المعبودات من الناحية الكونية، وأن الديانة المصرية القديمة قد تغلغلت في نفوس المصريين وبلغت مجدها وقداستها في العصر المتأخر، وطرأت عليها عدة تغييرات بانتشار الفكر الديني الشعبي خاصة في عهد أخناتون، إذ حاول الكهنة مجاراة هذه المتغيرات على الدين ولكنهم فشلوا وكان من أكبر نتائجها الانتشار الشديد للعبادة الشعبية.
العبادة الرسمية
هنا يسعى المؤلف للإجابة عن سؤال ما هي العبادة الرسمية؟ مجيبًا أن طقوسها كانت تُؤدى داخل مصر وأحيانًا خارجها باسم الملك في معابد أعدت لذلك، بغية إرضاء المعبودات ونشر نعمها على كافة طوائف المجتمع في كل أنحاء البلاد والتي تضمنت تقديم القرابين والصلوات، مشيرًا إلى أن المعابد المصرية القديمة لم تكن تشبه المساجد أو الكنائس في الوقت الحالي حيث يتجمع المؤمنون لأداء الصلوات والابتهالات، وإنما مثلت مراكز قوة للحفاظ على النظام الكوني، تقام فيها طقوس يؤديها كهنة على معرفة بشعائرها، لافتًا النظر إلى أن الدين في مصر القديمة تعرض لبعض العقبات التي أحدثت تغييرات في بعض معتقداته منها الثورة الاجتماعية في النصف الثاني من الأسرة السادسة وحركة أخناتون، مما سبب تغييرًا أساسيًّا في الأوضاع السياسية والاجتماعية وساهم في جعل المجتمع قادرًا على تغيير نظرته تجاه ذاته والأشياء من حوله وتكوين رؤية مغايرة لما كان عليها من قبل.
كذلك يقول المؤلف إن المصريين القدماء ارتبطوا بالدين وسيطر على تفكيرهم كما لم تسيطر قوة أخرى، وشعر بقوى عليا تتحكم في مصائره، وقد سببت الثورة الاجتماعية هزة دينية ضخمة في عقيدة المصريين القدماء، وظهرت نبرة التشكيك في المعبودات وقدرتها على حماية النظام الكوني، فيما انكب بعضهم على معبوداتهم المحلية، وإن ممارسة العبادة الشعبية تميزت بالمرونة الشديدة ومنها تقديم القرابين التي تستهدف أكثر من معبود في آن واحد كضمان أكبر لاستجابة مطلب مقدمه، ومنها القرابين الطينية قليلة التكلفة، مشيرًا إلى أن مصر كانت قد تعرضت في الألفية الأولى قبل الميلاد لتغيرات عميقة في المجال الديني، واعتبر الدين الملاذ الأخير لهوية البلاد في فترات الاضطراب أو خسارة الاستقلال السياسي، ذاكرًا من هذه المتغيرات زيادة عبادة أوزير وانتشار مقاصيره بالمعابد.
أيضًا، في هذا الكتاب الذي تجاوزت هوامشه الستين صفحة، نقرأ أن تفكير المصري القديم شُغل بعلاقته بالمعبودات، التي تدرجت من الارتباط الوقتي بأمور متعلقة بالحياة اليومية إلى علاقة يأمل أن تكون دائمة وأبدية، خاصة في ما يتعلق بالموت والعالم الآخر، فهي تخص معبودات كبرى هيمنت على عالمه.
|