القاهرة 07 ابريل 2025 الساعة 11:42 ص

بقلم: د. حسان صبحي علي حسان
يمثل الفن نشاط وفكرة موجهة عمدا للحواس والعواطف والحدس وخاصة العقل، ووظيفة تتلخص في تقديم لتصورات صادقة أمينة مجردة عقلية للمتلقي حول ذلك الواقع الحياتي، في تماس مع حياة المجتمعات، لتحفيز قدرات البحث والفكر والحوار والأداء والإحساس، بما يدفع نحو التجديد. فبعيدا عن التصورات التي تدور حول فكره الجمال، عرف "ليون تولستوي" الفن بانه ليس وسيلة تعبير تكتفي بالتمثيل والسرد ونقل الوقائع على صدر العمل، بل نشاط انفعالي ونوع من اللغة (التي تنفذ من تسجيل السطحي الى الجوهري ومن المظهر الى الحقيقة ومن الجزء الى الكلي الشمولي) لتوصيل المشاعر والأحاسيس والعواطف وتجسيد أفكار الفنان ورؤيته للعالم، وفعل التحرير إلى حد الإمساك بالقوى الحيوية في صورتها وفي عنفوانها بواسطة الألوان والخطوط والمساحات

فالفن هو مهارة الإبداع في صورة مرئية ووسيلة للتصريح برأي أو إحساس بشكل واعٍ لإنتاج أمور جمالية، أو التأسيس لرؤية أخرى للعالم، في سمو لشأنيه الفن لصناعة ما عجزت الطبيعة عن تحقيقه، والعمل على التغيير من طبيعة تلك الطبيعة، ومحاولات الهروب من العالم الضيق المؤسس على اتباعيات نمطية ومواصفات راكدة، لصالح الإنحياز الي هروب يكتسي بفهم الأشياء وحقائقها والجوهر الضمني وعمق طرق رؤية أشكال الأشياء في درب يهدف الى تكوين نظره موضوعيه نحو الأشياء وتقويه الواقع وزيادة شدته، ووسيلة لتحرير الذات واكتسابها حريه داخليه تتلمس نوع جديد من الحقيقة ليست مجرد نسخ لحقيقة جاهزة، بل ملاذ وفسحة للتعبير عن المشاعر بما يتيح للمتلقي الانغماس في تجربة جمالية.

-
غاليري مرسمي وفعاليات أسبوع فن الرياض:
ضمن الحراك الفني والثقافي الذي تشهده الرياض، وخلال فعاليات أسبوع فن الرياض، ومبادرة هيئة الفنون البصرية السعودية، يستضيف غاليري "مرسمي" بمجمع الموسى بالرياض برعاية وإدارة الأستاذ عدنان الأحمد، معرض الفنان السعودي "جاسم الضامن" وذلك يوم الاثنين الموافق 9 شوال 1446 هـ، الموافق 07\04\2025م.
ويعتبر "جاسم الضامن" أحد الفنانين السعوديين المعاصرين النابهين والطليعين الذين تعالقوا بالمهارات الفنية وامتلاك القدرة والتشبع بالثقافة والمعارف والنزوع الي تطوير الذات وتعزيز الهوية والخصوصية بجذور متينه وفروع تمتد للعالمية لترك الأثر والبصمة الدامغة، والفنان هو تشكيلي سعودي من مواليد عام 1988م بمحافظة القطيف في المنطقة الشرقة، وفي عمر مبكر انجذب إلى الفن التشكيلي بشكل تلقائي، حيث مارس الرسم منذ طفولته واكتسب الثقة والشاحذية من خلال تشجيع معلميه في مراحل التعليم المبكرة، وتخصص في دراسته الجامعية في الهندسة الكهربائية ولكن ذلك لم يثنه عن طريقه في الفن التشكيلي وأكمل مسيرته في التعلم الذاتي ليصل إلى هذا المستوى المتميز، كانت انطلاقته الأولى في معرض الفنانين الشباب للجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون عام 2009 وحصل فيه على الجائزة الأولى وحاز على العديد من الجوائز في الفن التشكيلي، وشارك في العديد من المعارض الجماعية في المملكة العربية السعودية ودول الخليج وأقام معرضه الشخصي الأول عام 2014 بعنوان "الأمل".
واشترك في معارض جماعية مختارة: مثل 2022 معرض "من الذاكرة إلى النور" في صالة نايلا– الرياض2022م، أسبوع مسك للفنون– الرياض2018م، أسبوع مسك للفنون – الرياض2017م، معرض جماعي لجاليري "الفن النقي"– الرياض، معرض "حدود الهوية" في صالة الرواق للفنون – البحرين2017م، معرض الشيخة سعاد الصباح– الكويت2016م، معرض "طبعة محدودة 4" صالة أجنحة عربية– جدة2015م، معرض "الأربعة" في صالة تصاميم الصحراء للفنون– الخبر2014م، معرض الفن الإسلامي الحديث– الرياض2012م، معرض الفن السعودي المعاصر– الرياض2011م، معرض جماعة القطيف للفنون التشكيلية - القطيف، معارض الفن السعودي المعاصر– الرياض2010م.
واقام ثلاثة من المعارض الفردية الهامة مثل: "الأمل" في صالة "ديزرت ديزاينز" للفنون– الخبر2014م، "في أعماق الذات" في صالة "الفن النقي" – الرياض2023م، "جسد النهايات والبدايات" في صالة "مرسمي" – الرياض2025م، وحصل علي العديد من الجوائز ومنها: الجائزة الأولى لمعرض الفنانين الشباب بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون – الدمام2009م، جائزة اقتناء الفن الإسلامي المعاصر وزارة الثقافة والإعلام – الرياض2012م.

-
اقتناص فكرة الجمال.. أنموذج الحقيقة والوجود
حضور الجسد في أعمال "جاسم الضامن":
وبوصفه صورة فنية تبطن بدورها بالمعاني والدلالات، وتتواصل معها وجدانية المتلقي، وکيفية تخاطب بها الأشروحات الفنية إدراکنا الحسي ومشاعرنا، لا يمثل الجسد البشري تشکيل بصري أو علامة مرئية "مجرد حيز أو إطار لمظهر خارجي للإنسان"، "فالجسد” هو قضية الذات بكل حمولاتها النفسية والاجتماعيّة والمفاهيمية. وهو ما يفسر تقاطع "الجسد" مع اهتمامات معرفية تحليلية كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والأدب والفلسفة، وهو وسيط بصري يتحرك بين المائي واليابسة، عبر وعي متجسد وحضور وطاقة تعبير ووعي جسماني ملتحم بالعالم، حيث تأتي تجليات الجسد ليمثل جهاز معرفي، وأداة للرؤية، ووسيط للتعبير عن الأفكار وتحويلها إلى أشياء مجسدة في الواقع، كقدرات تجسيد المعاني من خلال لغة الإيماءة.
ليشهد التفكير الفلسفي لتناول الجسد الأدمي تحول نوعي لدي الفنان "جاسم الضامن"، ويصبح أحد أهم المنظرين لموضوع “الجسد” في العصر الحديث، حيث ربطه بموضوع ومشاهد من مدارات ابستمولوجية وغنوصية ترتكل للانغماس في العالم الروحاني ممزوجة بواقع تراجيدي باعتباره كيان موسيقي دينامي يراهن عليه الفنان، ليرسم في الفضاء أشكال مبدعة للغته الخاصة، فالجسد لديه هو حامل للهوية والثقافة والخصوصية والتكوين الاجتماعي، عبر الحركات الجسمانية التي انحدر منها الجسد والايماءات والأحوال والحركات والإشارات والإيقاعات الموسيقية التي تنتزع سلطة الكلام وتتحرك في فضاءات مواربة (مكبل متحرر- صامت صاخب- تأوهات وسعادة - خافت متأجج- ساكن ارتجاجي) وذلك حسب السّياقات التي تتحرك في حدودها، عبر أشكال ولغات وصور متعددة التعابير الجسدية كالغناء أو الايماءات أو الصراخ والرقص والركوض، لتلمس مراحل الانتشاء الروحاني.

وفي الوقت الذي أشارت فيه الفلسفة الأفلاطونية "للجسد" بأنه "قبرًا" وعائقًا لبلوغ الروح والمعرفة والحقيقة، واعتبار الجسد مجرد توليفة لأعضاء تمثل مصدر اللذة والألم، وتصور العلاقة بين (النفس والجسد) هي علاقة تبعية، تتحكم فيها النفس في الجسد، وارتكال إشارات "ديكارت" الي تشبيه الجسد بالآلة التي تعمل بطريقة ميكانيكية. حيث غيبت فلسفات (أفلاطون، ديكارت، كانط) العيني والحسي وهمشت حضور الجسد في الممارسات المعرفية، وجعلته يفتقد إلى مقومات وجوده. جاءت فلسفة " جاسم الضامن" "للمعرفة النفسية" في إطار تحديد مفهوم الجسد من منظوره الفكري الخاص، ورفع الحصار عن الجسد، وتجاوز الخطاب المهمش له مع الفلسفة الحديثة خاصة الفينومينولوجيا. ليأخذ الجسد لديه مسار مغاير من خلال تموقعه ضمن التّجربة الإنسانية المعرفية، إذ صار بالإمكان الحديث عن "فكر للجسد"، وبروز مفهوم "الجسد الخاص" باعتباره آداه لإدراك العالم وفهمه. وأصبح الجسد الآدمي الحقيقي كمادة فيزيقية، وكلية فيزيقية وتعبيرية وذاتية تعبر عن الحدث النفسي أو الفكري، وفعل تمثيلي يمنح القدرة لديه على الإحساس بإيقاع الزمن الذي يجسد معنى الحركة ويحاكى الواقع من خلال اختزال اللغة التقليدية للعمل الفني.

ونحو تصدير درجات من الفصاحة الشكلية في جانبها البصري ودرجات التأثير للأشكال الموحية الملموسة التي تعكس حقائق بصريه جوهرية وطبيعة ذات محتوى تخيلي نابض، واستدعاء الانطباعات والاستجابات من بحر أفكاره، يعرض الفنان "جاسم الضامن" جماليات الشرق والثقافة العربية بثوب معاصر حداثي، عبر تثقف ودراية ذات رؤية روحية تغوص في الحقيقي والباطن، وتنطلق من تحليل النواظم والافتراقات الجمالية والتحليلية للجسد البشري في أحواله وأوضاعه الشكلانية وإيماءاته واحساساته العاطفية، عبر خطوطه القوية ومساحاته المفعمة الديناميكية، وتراتيب اللون الغامرة الروحية المتوقدة القادمة من عوالم النور، والمجاورة للداكن العميق ذو السراديب الطلسمية الغامضة، كشفرات ترتقي من مجرد تسطير العمق وتجسيد الكتل، الى نحت وتشكيل (قدس الاقداس- الحقيقة المقدسة- والمؤكد كفعل اليقين) ودلاله للأنساق والقيم المتسامية الروحية، مع التركيز على الدلالة والجمالية المجردة الاختزالية بها والديمومة الحيوية التي تخلق تجربة حركيه نابضة، تعزز قيم جمالية وتعبيرية وفلسفية، في بنائياته الرصينة وتلميحاته المفاهيمية المعبأة بالمعاني والتطورات العاطفية التي تنتمي لجوهر إنساني.
ففي تعبير عن أقصى درجات الانسجام والتّماهي مع الإيقاع الموسيقي الروحاني، الذي يتحول فيه الجسد لروحاني يهيم في عوالم خاصة، جاء الجسد عند الفنان" جاسم الضامن" ككيان متعدد الدلالات والوظائف، ومسرح التعبيرية ومجالها، وظاهرة مندمجة في العالم ومحكومة بوجود أنطولوجي (فما تقوله عبر "الجسد" أكثر أهمية مما تفصح عنه الكلمات) ويصبح التواصل اللاشفوي أكثر فصاحة، فهو أكثر تلقائية وأقل خضوعًا للسيطرة أو للمُواربة، وهو بمثابة نافذة تُطل على الأحاسيس الحقيقية للفرد وتكشف مواقفه. ليندفع الجسد دوما ليُمسرح تعبيراته تلك عبر صياغات وتحليلات شكلانية ومفاهيمية عديدة، فهناك الجسدي الصامت والجسدي التعبيري والجسدي الحركي والجسدي الاجتماعي والجسدي الإخباري، تهدف الي الولوج ضمن مفاهيم جديدة تصوغ حقيقة الانسان بشكل مادي ووجداني.

|