القاهرة 11 مارس 2025 الساعة 10:08 ص

عاطف محمد عبد المجيد
يُهدي الراحل دكتور جابر عصفور الطبعة الثانية من كتابه "عن الثقافة والحرية" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، إلى كل متمرد على شروط الضرورة من أجل الحرية، وفيه يقول إن الثقافة سلطة لها تأثيرها الفاعل في حركة المجتمع، خصوصًا إذا وصفنا هذه الحركة من منظور تنموي تحديثي، أو حتى بمنظور الثورة التي تتكاثر أصوات الناطقين باسمها هذه الأيام.
"عصفور" الذي يرى أن فاعلية تأثير الأدوار التي تقوم بها الثقافة عملية معترف بها في مفاهيمها المختلفة فكريًّا ومنهجيًّا، يشير كذلك إلى أن الفصل بين السلطة والثقافة أمر يستحيل حدوثه، مبينًا أن الثقافة معرفة والسلطة معرفة أيضًا، وأنه لا ثقافة ولا معرفة بدون سلطة، وليس هناك سلطة بدون معرفة.
هنا يتساءل عصفور لماذا الاقتران في عنوان كتابه هذا بين الثقافة والحرية؟ ويجيب بقوله لأن الثقافة مرادفة للحرية، والشرط الأول لحضورها وازدهارها بوصفها أفقًا من الوعي المفتوح على المستقبل الواعد في كل مجال.
في مقالاته هذه التي نُشرت من قبل في عدة جرائد منها الأهرام والشروق والحياة اللندنية، يكتب جابر عصفور دفاعًا عن حرية الثقافة والإبداع، وضد التمييز الاجتماعي والديني، كما تشمل بعض مقالاته رؤية مغايرة لثورة 1919، بوصفها الثورة التي أسست في تاريخنا الحديث معنى الوطن الذي يتسع للجميع.
ما يثلج صدر الكاتب هنا هو أن عددًا من دول العالم الثالث أدرك أخيرًا أن الثقافة هي المفتاح السحري، والدواء الناجع، والحل الأمثل لكل أمراض التخلف وعوائق التنمية التي لا تزال ماثلة ومتحكمة في مصائر أغلب أمم العالم الثالث، ذاكرًا أن هناك ما يسمى بثقافة الاستنارة وهي التي تعطي الأولوية للعقل وتنحاز إلى الابتداع على حساب التقليد، وتشيع مفهومًا موجبًا عن الإنسان القادر على صنع العالم الذي يحلم به بإرادته الخلاقة.
هنا يذكر جابر عصفور أن هناك نوعين من الثقافة: ثقافة التقدم وهي ثقافة التنوع الخلاق والحرية والعدل وحق الاختيار والاختلاف وحرية التعبير والتفكير، وبين ثقافة التخلف التي تعتبر العائق الأساسي لدفع عجلة التنمية إلى الأمام، مؤكدًا أن ثقافة الإنسان هي التي تدفعه إلى تعميق علاقته بأخيه الإنسان، والتعاون معه في كل مكان، وذلك بما يحقق حلم الإنسانية كلها.
جابر عصفور الذي يثبت هنا أنه لا يمكن الحديث عن الثقافة مع تجاهل علاقتها المتبادلة بتحولات المجتمع السلبية أو الإيجابية، وذلك من حيث تبادل عمليات التأثر والتأثير في ما بينهما، يذهب إلى القول بأن الثقافة هي وعاء محايد يشير إلى أشكال الوعي الاجتماعي وتقاليد المجتمع وقيمه وعاداته وأعرافه، مضيفًا أن العلاقة بين المثقف والدولة لا تزال مرتبكة في بعض الأذهان، ويصل هذا الارتباك إلى ذرى تطرفه في عقل بعض الأصوليين الماركسيين والإسلاميين وغيرهم الذين يشبهونهم في المنحى الفكري، خاصة في تطرف عدائهم للدولة، ورفض العمل فيها والتعاون معها ما ظلت مناقضة لتصوراتهم التخييلية غالبًا، مؤكدًا أن ما يطمئن قلبه هو أن الإبداع الثقافي المستنير والمتحرر، فكرًا وأدبًا وفنونًا مختلفة، واصل حضوره المقاوم، ولم يكف عن كشف عمليات التمزيق الأيديولوجي ومحو الذاكرة التي حدثت للوعي الجمعي، بواسطة الكلمة والريشة والكاميرا والنغمة، على نحو يجعل من مفهوم الثقافة الإبداعية نفسها مفهومًا مقاومًا لا يكف عن التصدي لكل آليات القمع السياسي والاجتماعي والفكري والديني.
هنا أيضًا يعلنها جابر عصفور صراحة قائلًا إن هموم المثقفين العرب وهموم المثقفين المصريين واحدة، والتحديات والأخطار التي تواجههم واحدة في الجوهر وإن اختلفت في المظهر، معددًا من هذه الأخطار تحالف القوى الإظلامية مع الحكومات المستبدة، ذاكرًا أن إحياء الذاكرة الثقافية وإنعاشها هي إحدى مهام الطليعة المثقفة، كما يرى هنا الكاتب كذلك أن العلاقة بين المثقف الفاعل والدولة هي علاقة مواطنة، فالمثقف بعض الشعب المالك الفعلي لدولاب الدولة، ومن حقه أن يعمل في أي مكان فيها.
هذا ويطرح جابر عصفور سؤالًا مهمًّا هنا عن الشكل الجديد الذي يمكن أن نتخيله لعلاقة ثقافية متكافئة بين مصر والأقطار العربية، مؤكِدًا أن الشكل الأمثل هو العلاقة التي لا تنفي العمق التاريخي، لكن تستبدل المستقبل بالماضي في أفق مغاير يعود بالفائدة في حالتي علاقة التعاون المتبادلة القائمة على التعاون البناء، أو في حالة التنافس التي يمكن أن تزود الأطراف المتنافسة بالدافع إلى الإتقان والمزيد من الإجادة، مشيرًا إلى أن أهم التحديات المطروحة على الثقافة المصرية كي ترتفع بمكانتها هو أن تسعى إلى تغيير علاقات الإنتاج الثقافي وأدواته، وأنه إذا كانت حرية الفكر تؤدي إلى ازدهار الإبداع الروائي والمسرحي والسينمائي، فإن ارتقاء التكنولوجيا المستخدمة يؤدي إلى ازدهار توزيعي مواز للازدهار التأليفي.
جابر عصفور الذي يطمئن إلى القول بأن مظاهر الثقافة المتقدمة تمتد من وعي التفكير العلمي إلى الوعي الاستثماري لثروة المجتمع وحسن استغلالها وإدارتها، يجزم بأن الحكومات المتخلفة هي الأقل اهتمامًا بالثقافة، بمعنييها العام والخاص، مؤكدًا أن الثقافة المصرية تمر بكارثة لم يسبق لها أن واجهت مثلها من قبل، ومن علاماتها التطرف الديني، انحدار التعليم، النظر إلى الفنون نظرة ريبة وشك، ذاكرًا أن إنقاذ الثقافة من هذه الكارثة يعني إنقاذ العقل المصري كله وانتشال الوعي الجمعي من الهوة التي سقط فيها.
وليس بعيدًا عن الثقافة يتحدث الكاتب هنا عن استقلال الإعلام قائلًا إنه لا يتصور أن أي جهاز إعلامي يمكن أن يحقق نجاحًا في العالم الثالث إلا بمقدار استقلاله عن الدولة حتى لو كانت هي الممول الرئيسي له، رافضًا أن يكون جهاز الإعلام جهاز دعاية للحكومات بالمعنى الساذج، بل أن يهتم بالمصالح العليا للأمة خاصة تلك التي تقترن بأهداف التقدم وقيم العدل والحرية والحرية المقموعة. كما يدعو "عصفور" إلى تطوير المنظومة الثقافية للدولة قائلًا إن البداية تكون في الاهتمام بالوعي المجتمعي الذي يرادف الثقافة بمعناها الواسع الذي يتغلغل ويؤثر في كل جوانب المجتمع، بداية من كيفية احترام وسائل النفع العام ونهاية بكيفية إدراك الجمال وتذوق الفن الرفيع، وليس الفن الهابط الذي أشاعه الجهل والفساد والانحدار الفاجع في مختلف أنواع القيم التي غادرتها معاني الحق والخير والجمال.
هنا وفي كتابه الذي يتوغل فيه إلى عمق قضايا تتعلق بالثقافة وبالفكر وبالحريات وبالإبداع الفني والأدبي، يكتب جابر عصفور عن الأزهر والخطاب الديني، عن عقلية المنع والمصادرة، عن انتهاك حرية الإنسان والإبداع، عن التمييز ضد المسيحيين وضد المسلمين، عن تراجع الخطاب الديني، وعن ثورة 1919من منظور مغاير.
ويرى "عصفور" أنه من شروط الحرية أن نتقبل حرية الآخرين ولا نقمعها، وأن نحترم ما ينتجه العالم من حولنا، ولا نصادره، وألا نفرض وصايتنا على جماهير القراء، أو من يتلقون الإبداع تحت أي حجة أو ذريعة، ذاكرًا أن حرية الإبداع بكل أنواعه حق مقدس في الدولة المدنية الحديثة، وقد حرص الدستور على احترام هذه الحرية وحمايتها من الذين لم يتوقفوا عن انتهاكها.
|