القاهرة 11 مارس 2025 الساعة 10:04 ص

تحقيق: مصطفى علي عمار
في العاشر من رمضان 1393هـ وفي السادس من أكتوبر عام 1973، شهدت مصر انتصارًا تاريخيًا ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يعرف بنصر أكتوبر، وهو لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل كان أيضًا انتصارًا للروح الوطنية والانتماء للوطن، وقد لعب الأدب المصري دورًا هامًا في تعزيز الروح الوطنية والانتماء للوطن قبل وأثناء نصر أكتوبر، فقد استخدم الكتّاب المصريون الأدب كأداة للتعبير عن المشاعر والآمال والتحديات التي واجهها الشعب المصري خلال فترة نصر أكتوبر.
ويهدف هذا التحقيق إلى تسليط الضوء على دور الأدب المصري في تعزيز الروح الوطنية والانتماء للوطن قبل وأثناء نصر أكتوبر، وكيف ساهم الأدب في نقل تجربة نصر أكتوبر وتعزيز الذاكرة الجمعية للشعب المصري، واستعراض آراء عدد من الكتاب العرب والأدباء والأكاديميين حول أهمية نصر أكتوبر في تاريخ مصر، وأهمية الأعمال الأدبية التي كتبت عن نصر أكتوبر، وأثرها في بثّ روح النصر والانتصار.
-
منير فوزي: ما قدم من أعمال أدبية عن نصر أكتوبر لم يكن متناسبًا مع أهمية الحدث العظيمة
استهل الكاتب والأكاديمي د. منير فوزي أستاذ البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة المنيا بقوله: من المؤكد أن حرب أكتوبر ستظل للمواطن المصري خاصة والعربيّ على نحو عام مصدرًا كبيرًا للإلهام والإبداع على مدار سنوات طويلة، ولأجيال متعاقبة، فهي حرب الكرامة والشجاعة والبطولة والسؤدد والعبور واسترداد الهوية، لكن الملاحظ أن دائرة الأعمال الأدبية التي حاولت استلهام بعض بطولاتها ووقائعها، سواء أكان ذلك في مجالات الشعر أو الرواية أو القصة القصيرة أو المسرحيات بدت قليلة للغاية قياسًا بما كتب عن فترة الهزيمة السابقة على هذا الانتصار. نعم ظهرت هناك أعمال سردية جسدت بطولات المقاتل المصري منها روايات (الرفاعي 1976م) و(حكايات الغريب 1983م) للغيطاني، و(دويّ الصمت) لعلاء مصطفى، و(الرصاصة لا تزال في جيبي 1974م) لإحسان عبد القدوس، و(في الأسبوع سبعة أيام 1975م) ليوسف القعيد، و(أكتوبر حبيبي 1974م) لحلمي القاعود، و(المصير 1974م) لحسن محسب، و(زهر الخريف1976م) لعمار علي حسن و(نوبة رجوع 1985م) لمحمود الورداني و(بدر 73 سري للغاية 1986م) لشحاتة عزيز. و(موسم العنف الجميل) لفؤاد قنديل و(رجال وشظايا1990م) لسمير الفيل، و(عمالقة أكتوبر1979م) لسعيد سالم.
كما تناول الشعر المصري بطولات الجندي المصري لحظة العبور فكتب صلاح عبد الصبور يوم 8 أكتوبر 1973 رسالتين إلى الميدان أولاهما (إلى أول جندي رفع العلم في سيناء) والثانية (إلى أول مقاتل قبّل تراب سيناء) وفي القصيدتين ابتهاج عظيم بالانتصار واحتفاء بعظمة المقاتل المصري، ترفرف حوله الملائكة بأجنحتها في ساح الخلود (بين ظل الله والأملاك)، وكتب أحمد عبد المعطي حجازي في غربته بباريس (ثلاث أغنيات للوطن) تحاكي فكرة عبد الصبور في الاحتفاء برفع جنودنا العلم خفّاقًا يرفرف بالحرية والانتصار العظيم الذي تحقق بدماء الشهداء، وفي منتصف السبعينيات أصدرت جريدة الجمهورية مختارات شعرية قام بجمعها وإعدادها للنشر الراحل محسن الخياط بعنوان: (أغنية لسيناء) وهو كتاب احتفاليّ اشتمل على عددٍ كبيرٍ من القصائد لمجموعة من كبار شعراء مصر منهم محمد أبو سنة ودرويش الأسيوطي وصلاح اللقاني، غير أن أهم النصوص الشعرية التي رافقت حرب أكتوبر جاءت مع فض الاشتباك الثاني وتمثلت في قصيدة (الوصايا العشر) لأمل دنقل، حيث بدت صرخة مدوية تستشرف آفاق ما بعد الحرب وتحذر من مغبة القادم. أما المسرح فربما كانت أهم نصوصه التي استوحت حرب أكتوبر مسرحية (رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام) لمحمود دياب.
ويبقى التساؤل قائمًا حول أسباب عدم تحقق التميز لمعظم الأعمال التي تناولت حرب أكتوبر، وعن عزوف معظم كبار كتاب مصر وقتها مثل يحيى حقي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، والشرقاوي وغيرهم عن كتابة نصوص إبداعية مستوحاة من نصر أكتوبر العظيم، كما أن ما قدم في عمومه من شعر وسرد ومسرحيات لم يكن متناسبًا أبدًا مع حدث له هذه الأهمية العظيمة، وصاحبته تحولات مصيرية في المفاهيم والعلاقات الدولية والمكانة والتحولات الاقتصادية لمصر.
-
سمر كمال السقا: حرب أكتوبر كانت حرب استرداد الكرامة والهوية للشعوب العربية كلها
وتضيف الدكتورة سمر بنت كمال السقا أستاذ الأدب والنقد المشارك بكلية الآداب بجامعة الجوف بالمملكة العربية السعودية: أود أن أوضح أولاً أن حرب أكتوبر 1973م لم تكن حرب دول المواجهة وحدها مصر وسوريا فحسب، بل كانت حرب استرداد الكرامة والهوية للشعوب العربية كلها، وجاء الأدب ليعبر عن نشوة الانتصار بهذه الحرب ويسجل وقائعها الفريدة، مظهرًا كيف التف العرب جميعًا حول إرادة واحدة، وقضية عادلة أسهم كل فيها بما يملكه من قوة مادية أو معنوية، توجت لدينا في الموقف التاريخي للملك فيصل رحمه الله المساند للحرب بإيقاف تصدير البترول.
أما على صعيد الأعمال السردية التي جسدت بطولات هذه الحرب فأذكر منها رواية (أزاهير تشرين المدماة) للروائي السوري (عبد السلام العجيلي) التي جسدت قضية الهوية الوطنية في ظل الحرب، مستعرضة تداعيات صراع الإنسان العربي ضد المحتلّ من خلال تجسيد شخصيات تمثل مختلف مستويات المعاناة والتضحية. تتناول الرواية مفهوم الهوية ككيان متحول تتلاعب به الأحداث السياسية والتاريخية، حيث يُعاد تعريف الفرد وفقًا لموقفه من الحرب والانتماء الوطني.
وتعيش الشخصيات في هذه الرواية حالة دائمة من التفاوض مع ذاتها، وما بين الانتماء للوطن والخضوع لواقع الصراع تتشكل معالم هوية متأرجحة. لا تفرض الحرب فقط تغييرات جذرية تطال الواقع الاجتماعي، بل تعيد رسم علاقات القوة وموازينها داخل المجتمع العربي حيث يصبح الانتماء للوطن فعلاً نضاليا وليس مجرد انتماء جغرافي. مما يعني أن هذا التناول يطرح فكرة الهوية بوصفها مشروعًا مستمرًا يخضع لإعادة تشكيل دائمة.
كما تُظهر الرواية مفهوم التكاتف العربي في سياق الحرب، وهو ليس تكاتفًا يخلو من تناقضات تتجسد في شكل دعم سياسي وعسكري يحمل بين طياته صراعات مصالح مختلفة.
هنا تتجاوز الرواية الخطاب السردي التقليدي الذي يتحدث عن الوحدة العربية، لنتكشف من خلاله ثنائية التعاون والصراع داخل هذا المفهوم؛ مما يعكس رؤية نقدية لآليات التضامن العربي في ظل الحروب.
وتبرز الرواية كيفية تأثير الحرب على تشكيل الهوية الفردية، حيث تنقسم الشخصيات ما بين أولئك الذين يرون فيها فرصة لإثبات وجودهم الوطني، وأولئك الذين يعانون من ضياع المعنى وغيابه وسط الدمار والخراب.
وتتميز رواية (أزاهير تشرين المدماة) بقدرتها على تقديم تصور عميق للأزمة العربية عبر شخصياتها وأحداثها، لكنها في بعض المواضع قد تسقط في النمطية من حيث تصوير الشخصيات الخاضعة للحرب بوصفها مجرد ضحايا أو أبطال، دون إعطاء مساحة أكبر لتفكيك تعقيداتهم النفسية، ورغم ذلك فإن الرواية تعد إضافة مهمة للأدب العربي المعني بالصراع والهوية؛ حيث تظل حرب العاشر من رمضان محكًا أساسيًا لإعادة تشكيل الهوية العربية، والرواية تقدم رؤية تستند إلى الواقع لكنها لا تخلو من الطابع النقدي تجاه المفاهيم القومية والتكاتف العربي. إنها شهادة أدبية على تحولات الهوية في زمن الأزمات داعية لتجاوز الطرح الرومانسي مع قراءة أكثر واقعية لعالم مضطرب.
-
عبد الرحيم الماسخ: يظل التاريخ شاهدا على ما حدث والتعبير عما حدث والفارق بينهما هو قوة الأدب المعبر عن الحدث أو ضعفه
ويرى الشاعر المصري عبد الرحيم الماسخ: أن للأدب المصري دور لا ينكر في نشر الحمية الوطنية خاصة في اللحظات المصيرية من حياة الأمة، وقد كان دور الأدب محوريًّا ولم يقتصر على شحذ الهمم و الدفع إلى الأمام إذ كان للقصة التاريخية والملاحم الشعرية إنجاز تاريخي متدفق اندفاعا من الهزيمة المفروضة إلى النصر المأمول، فقصة وا إسلاماه مَثلا كانت فاتحة أمل على سجن النكسة في نفوس مشتاقة إلى خلاصة العزة والكرامة دور الشعر لا يقل أهمية عن الدراما إذ لعبت القصيدة قديمها وجديدها، وكذلك الأغاني دورها التبشيري النفسي على العامة إحياء لقيمة البطولة وتعظيما لمكانة الشهادة الناس في بلادنا في مجملهم محبون مخلصون للوطن يكفيهم المحرك الهادف إلى الغاية النبيلة خاصة في ظل ما تعرضت له البلاد من شرور و أخطار والأدب كأداة إعلامية قوية التأثير لا يعوزه الريادة فهو في المقدمة دوما.
لكن هناك فرق بين الصوت والصدى في ذلك، فالصوت مفتاح التوجه إلى الهدف وقد كان طاقة مكتسبة من تراث الأمة، أما الصدى فهو تقليد الماضي تصويري لصون المنجز من الاندثار، لذلك كان الأدب المُمَهد للحرب في غير جاهزية مثل كل الدراما التاريخية والشعر الموازي لها، أما الصدى فقد كان نتاجا للحرب من دراما وشعر يحكيان بطولات قد حدثت بالفعل فغيرت واقع الحياة إلى الأفضل كحقيقة ثابتة، و يظل التاريخ شاهدا على ما حدث والتعبير عما حدث، والفارق بينهما هو قوة الأدب المعبر عن الحدث أو ضعفه.
وقد ساهم الأدب في رفع الروح المعنوية للأمة قبل وأثناء نصر أكتوبر بحشد عاطفي، من خلال الأغاني التي عبّرت بحق عن الحدث في حينه، ولامست القلوب بمزيدٍ من الدوافع التحريضية ضد الاستسلام ومع الطموح وما يصاحبه من الهمة والنشاط والتضحية.
وهناك فارق بين صوت الحدث وصداه، في الغالب الصوت يسبق الحدث، وكان ذلك من خلال الأغاني والشعر، أما الصدى وهو تضاعيف تلاحق الحدث ولا تكاد تلحقه، وقد كانت هناك أصداء كثيرة تركت للأجيال بصمتها المعنونة للحدث، معظمها أعمال روائية وقصصية، مثلا رواية الرفاعي للأديب جمال الغيطاني دارت في فلك البطولات الخارقة للفرد القائد علي الجبهة متمثلا بالشخصية الطليعية للبطل الذي أنجز وعده مرتين بالنصر والشهادة، و قد تم استخدام الأدب كأداة للتعبير عن مشاعر و آمال الأمة من خلال كل قنوات النشر و والإذاعة، مثلا قصيدة إلى أول جندي رفع العلم على خط بارليف للشاعر صلاح عبد الصبور جاءت تعظيما للبطولة وتمديدا للتعظيم من جيل إلي جيل و إلي ما لا نهاية.
أما الدور الذي لعبه الأدب في تعزيز القيمة الوطنية بعد النصر فهو من خلال حفظ البطولات والتضحيات من مجريات الحدث، كنصوص غير قابلة للفناء تتعلم منها الأجيال حتي تتطبع بمكنونها الأبهي ، وتنخلي عن الأنانية طوعا لصالح الجماعة وبذلك يستمر العطاء فلا تنقضي مدته بعد حين.
لقد ساهم الأدب نثرًا و شعرًا في تعظيم قيمة النصر وليظل النصر دون مدة محسوبة ميراثا دائما للأجيال تتعلم منه وتضيف إليه ما استطاعت ذلك، لإدراك الجميع لقيمة الحدث و انعكاس تلك القيمة علي المستقبل البعيد للعامة.
-
جابر الزهيري: يمثل الأدب الدور الأكبر في استنهاض عزيمة الشعب بما فيه من حماسة الكلمة
ويختتم جابر الزهيري مدير الصالون الثقافي لمكتبة مصر العامة بالمنيا ويقول: كل ما يمر بالمجتمعات يوثقه الأدب وكأنه وجه آخر للتاريخ، ويعده بعض النقاد تأريخا أدبيا، أو دراما تاريخية، والنماذج متعددة في هذا اللون حيث كان الشعر يصف الحروب ويمجد الانتصارات في القصائد التي عدت كدلائل على الأحداث، فمعظم الأحداث التاريخية كان لها وجود بارز في الإبداع الأدبي سواء بالشعر والأغنية أو بالسرد في القصص والروايات منذ القدم وليس في العصر الحديث.
وفي انتصار العاشر من رمضان كان الأدب يمثل الدور الأكبر في استنهاض عزيمة الشعب، بما فيه من حماسة الكلمات التي جاءت تحمل من روح النصر، مثل (صبرنا وعبرنا) وهي تشير إلى فترة الصبر يعد النكسة إلى حدوث العبور العظيم وما به من نصر واسترداد للكرامة، وكذلك عاش اللي قال وأم البطل وغيرها من الأغنيات التي تعبر عن الحدث، بل إن بعض الأغنيات كانت تكتب وتلحن وتغني في الوقت نفسه لتقوية الروح الحماسية عند الشعب، ولرفع الروح المعنوية عند الجنود. فارتبطت الكلمات بالحدث وعاشت معه مقترنة بتلك الذكرى فما إن نسمع أغنية وطنية إلا وتذكرنا أننا نمر بمناسبة محددة، حتى إن إحدى الأغنيات كانت معبرة عن صيحة الجنود وقت العبور وهي الله اكبر بسم الله.
أما في السرد الروائي خرجت أعمال كثيرة تحكي عن الانتصار ومنها أبناء الصمت، الرصاصة لا تزال في جيبي ويوم الكرامة وأحدثها فيلم الممر الذي وجد صدى كبيرا لتأريخه دراميا للحدث برؤية مختلفة عما قدم قديما من أفلام اعتمد الكاتب في نصها على تقديم شرائح متعددة من المجتمع كأطياف متنوعة جمعها حب الوطن في الخدمة العسكرية لتكون الفكرة الأساسية هي الحث على تكاتف الجهود، وأيضا منها ما قدم الفكرة الرائعة وهي أن البسطاء من أبناء الشعب هم الأجدر بالرعاية فهم ملح الأرض كما جاء في المواطن مصري، وغيرها من الأعمال الفنية.
فالأدب دوما هو المعبر عن حالة المجتمع بلسان أدبائه الذين يمثلون صوت الأمة، وعماد تكوينها الثقافي والفني ويتأكد ذلك الدور المهم من كون هذه الأعمال خالدة بيننا رغم مرور أكثر من نصف قرن على تلك الذكرى، وأعتقد أنه لولا وجود ذلك التعبير الأدبي والفني عن تلك المناسبة لما علم الكثير من أبناء الجيل الحالى عن ذلك الانتصار التاريخي العظيم إلا ما جاء كمعلومات جافة في كتب التاريخ، فدور الأدب في توثيق وتأريخ الأحداث لا يقل أهمية عما يقدمه الجندي في ساحة القتال وما يقدمه الطبيب في إنقاذ الجرحى.
|