القاهرة 08 مارس 2025 الساعة 03:59 م

بقلم: د. حسان صبحي حسان
عندما تصبح العناصر معادلا استحضاريًّا لتجليات المخزون البصري السالف.
عندما تصبح المنابع الزمكانية استحضارية شاحنة لتدشين الحلم الأسطوري.
عندما يصبح البراح الروحي بديلا للتخلي عن الصخب السردي.
عندما يصبح الدفق والوجد الروحاني فلكلورية تضفّر خيوط المعاصرة.
عندما تنبري روحانية الوجود وجوهر المعنى في لغة التأليفات الفنية.
عندما تتمازج (الحروف والفضاء- المادة والروح- الإدراك والتأمل).
يمثل الفن ظاهرة اجتماعية ونتاجا نسبيًّا يتشكل وفق ظروف الزمان والمكان والجغرافيا، والتأثر بالدين بما يشمله من عقائد تؤثر بفاعلية في هيكيلية وبنائية القالب الفني، ليتلازم الفن والدين بعلاقة عضوية فاعلة حيوية فكليهما يتعامل مع الرمزي في الحياة والمطلق، لتصدير تجربة روحية يبحث فيها الفنان عن المطلق، وينشد الأخلاق والخير، لتصدح بلغة حداثية ترسل المعاني والشعائر والروحانيات، لتشخص الاحتفالات مصدر إلهام نابض، يعضد أحاسيس متسامية ومعاني نابضة، ليصدر التزاوج بين الصورة واستجلاء الحسي الروحي، قوالب فنية مستنيرة تنحو عن النمط والنواميس المتعارف عليها عبر بلورة أسلوبيه جمالية حدسيه، تدلل على خيال مكين للفنان وقدراته في استيراد دروب استلهام مفعمة، في أبعاد وأفكار مؤسسة على اللون والمساحة والخط والتحول من الثبات إلى عوالم الحركة.
غاليري "نايلا" يستضيف معرض "مدى" للفنان "نهار مرزوق مطر":
يستضيف غاليري "نايلا" للفنون، المعرض الشخصي الثامن (مدى) للفنان "نهار مرزوق مطر" والذي يستمر من الأحد 16 فبراير إلى 20 مارس 2025م. في تجربة فنية غامرة تستكشف العلاقة بين الحرف والفضاء، المادة والروح، الإدراك والتأمل.
في هذا المعرض يسبر الفنان أغوار الامتداد البصري والروحاني في الخطوط والمدود المستلهمة من كسوة الكعبة المشرفة ليخلق عبر أعماله رؤية جمالية تتجاوز الشكل إلى جوهر المعنى.
والفنان " نهار مرزوق مطر" من مواليد: 18/5/1970م، وحصل على بكالوريوس تربية فنية ــ عام 1993م، وشغل المدير السابق لفرع الجمعية السعودية للفنون التشكيلية بجدة، وله العديد من المعارض الشـخـصـيـة: المعرض الشخصي الأول مناخات صالة العالمية ــ جدة 2008م، المعرض الشخصي الثاني مقهى صالة إبداع ــ جدة 2009م، المعرض الشخصي الثالث المساجد الثلاثة ــ أبو ظبي 2009م، المعرض الشخصي الرابع ترانيم الحروف - الشارقة 2010 م، المعرض الشخصي الخامس "مكة "- غاليري نايلا - الرياض 2015م، المعرض الشخصي السادس "عبور "- غاليري نايلا - الرياض 2021م، المعرض الشخصي السابع " سياق " غاليري نايلا - الرياض - نوفمبر 2024م، ?العرض الشخصي الثامن "مدى" جاليري نايلا - الرياض - فبراير 2025م. واشترك في عدد من المـعـارض والمشاركـات الجماعية: من عام 1413هـ ــ 1993م.
فعبر نظرته المتعمقة وفهم المدرج والرؤية الفلسفية لطبيعة الموجودات من حوله والمعاني الروحانية، فسر الفنان "نهار مرزوق مطر" الطبيعة المكانية وعناصرها وفق معارفه وخبراته وتصوراته التي شكلت وجدانه وأيدولوجياته بنظرة دؤوبة وهمّة فاحصة مفنّدة نافذة للجوهر ومكنوزات تلك العناصر، عبر أسلوبية هي محصلة لجملة خصائص متنوعة شكلت طاقة الإبداع لديه، لتلمس رؤية جمالية متفردة واستحضار مزاجية ومهارة، والتوصل إلى تجسيد وتأطير المعنى الروحي والعاطفي عبر أدبيات ولغة اللون كمدرج بصري لتأثير دلالات الضوء الفسيولوجية وارتباطها الروحي بعناصر وموضوع العمل.
حيث تجد أفكار "نهار مرزوق" صدى رحب لدى المتلقي عبر تبادلية تفاعلية بين رسالة العمل وإدراكية ووجدانية ذلك المتلقي في فهم موضوع العمل وإيحاءاته، بسبب قدراته الطليعية، وتأطير القيم الروحية الأصيلة دونما الاقتصار على الاتباعية والمعالجات الشكلية السطحية والتعمق في المعنى والدلالة، لصالح استحضار تمثيلات صورية لمظاهر طقسية ونهجية دينية، في صيغ تجريدية صيرورة تدلل على بداهة إبداعية متحررة وأيدولوجية لفنان دشّن صياغاته على الأفكار وقوه اللغة.
من خلق الله إلى إبداع الإنسان.. تتجلي أسمى معاني الروحانية:
وفي مقدمتها للأطروحات والتأليفات الفنية للفنان "نهار مرزوق مطر" استعرضت الدكتورة "ندى الركف" تحليلا مفصلا ومقدمة استهلالية للمعرض "روحانية الوجود":
(من خلق الله إلى خلق الإنسان.. تتجلى أسمى معاني الروحانية من إحداثيات الكون، الذي يشع من قلبه النابض إيقاع الحركة الكونية، من مركزية مكة من جسد الكعبة.. هنالك مدد وإمداد وفق سياقات هندسية كونيّة تتجسد في أسمى معنى للوجود الإنساني، "نهار مرزوق" الفنان المرهف الحس المستشعر لجمال روح هذا المكان وفق لحظات زمانية أبصر من خلالها عظمة هذا المشهد.... انطلق ليعبّر وفق إيقاع ستار الكعبة.. من إيقاع الخط إلى ديمومة الحركة، من عمق الكلمة ولفظ المعنى، ليتخذ منحى التمثيل الحي للمدد المتصل بين الروح النقية وخالقها سبحانه وتعالى، من خلال أعمال فنيّة تنوعت ما بين الخلفيات ذات اللون الأبيض والأسود، وما بين حضور الكلمات بالفضي والذهبي، بالإضافة لكيفية عرضها ما بين الأفقي والرأسي وفق معنى رمزي يرمي له الفنان.. فبين فضاء مدرك واللامدرك تحدث إمدادات روحية يستشفها من يدرك حقيقة وجودها.
فمن منظور الجوهري والروحاني وتلمس النقائي الخالص الذي يجسد الفكرة، وابتعادا عن الدنيوي، وعبر علاقات ترابطية مكينة، يتلازم الفن والدين بعلاقة عضوية فاعلة حيوية فكليهما يتعامل مع الرمزي في الحياة والمطلق، لتصدير تجربة روحية يبحث فيها الفنان عن المطلق، وينشد الأخلاق والخير، لتصدح بخطابات فنية وأدبية في ثقافات متلاحقة عبر لغة حداثية لإيصال المعاني، وتجسيد الشعائر، في إطار تجربة تطرح للمتلقي التعريف التفسيري والتحليلي للجانب الروحي واستلهام مفردات وعناصر ذات إشارات دينية، بروحانياتها ومشاعرها وهويتها، لتعضيد المشاعر والهوية الإسلامية، عبر معاني ورمزيات مدلوليّة تعزّزها التقنيات والوسائط المستحدثة التي تفند الخطاب البصري، من لون، ومستويات، عبر أطروحات تستمد مفهومها من الشعائر والروحانيات، لتعضيد أحاسيس متسامية ومعاني نابضة، لضمان التعايش والتفاعل وجذب المتلقي نحو الأجواء الروحانية والخشوع، واستثارة الأحاسيس الذاتية للمشاهد، بديلاً عن الاهتمام ببناء التكوين وصياغة العناصر.
ومن مكة المكرمة ومن قلب الكعبة والانتماء للهوية الزمكانية واستلهام السياقات الحروفية والأنساق الكتابية لكسوة الكعبة المشرّفة كعناصر موحية ومعادلات للعطاء الفني عبر مدد وامتدادات واستطالات واندفاعات بالذهبي والفضي في اتجاهات أفقية ورأسية رصينة تجمع بين القوة والرهافة لامتدادات وخطوط، ونصوص دينية، تعزز التواصلية بين جزأين وشحذ ما بين (المادي والروحي- وتعضيد ما بين الأرض والسماوي- وكأنها أيادي تمتد إلى السماوات في علاقة بين الإنسان وخالقه العظيم) وذلك فوق خلفيات (بيضاء ناصعة- وداكنة بالأسود) مزخرفة بلفظ الجلالة والتوحيد، لتتناغم وتنسجم وتتسق الكتابات والنصوص الشكلانية في الأمامية بالذهب والفضي مع الكتابات المزخرفة لتعزيز معاني روحية وضمنيات يحشدها الفنان فوق مسطح شروحاته الفنية، كتمثيل فاعل حيوي ومعادل نابض للحقيقة التي تسطرها مخيلة الفنان، دون الغلاف الظاهري في الواقع البصري المحسوس، بهدف الإفصاح عن جماليات وبلاغة كنتاج للتوغل في الداخل الجواني وأغوار ذلك العالم، واستخراج ما ينطوي عليه من حقائق وقيم، والتنقيب عما يتضمنه من طاقات روحانية والتي تستثير بدورها العواطف والوجدان، وتشخيص البساطة المقدسة التي تشرق على ملامح الفنان المكين.
روحانية الوجود وجوهر المعنى في "مدى" "نهار مرزوق":
وعبر تحطيم المادة واستهداف التعبير عن القوة الكامنة في الحركة الديناميكية بتوظيف اتجاهات الخطوط والتقائها وتشعبها وقوة (الذهبي – والفضي) ومناطق تركيزهما، قدم"نهار مرزوق"عالمه الروحي ذا الأبعاد القدسية الخالصة التي تؤطر عناصر تراثية خطية، ليساهم أسلوبه الإنسيابى مع مقدرته على توصيل مفهوم معقد في صورة بسيطة لتحقيق التفاعل التجاوبي، واختزال المضمون الفكري لأطروحاته وسرده البصري ببلاغة مفعمة، تعلي الشخصية الذاتية للفنان وهويته، وتعزز رسالة المحتوى الداخلي للعمل، والانعطاف نحو صياغة رؤية ذاتية تنحو عن الموضوعية الاصطلاحية.
واستطاع الفنان أن يبقى على تكويناته متماسكة بصورة بليغة مقنعة للمتلقي، ليحقق توازن العلاقات بشكل غير نمطي وبصورة دالة إيقاعية، واستخدام التباين الحاد بين المعتم والمضيء، والتعبير عن قيم تتسم بالبنائية والصرحية المعمارية والإيهام بالأبعاد الثلاثية والملمسية متعددة المناظير، والجمع بين الأنساق المتباينة التي تتمثل في (رصانة التراتيب الهندسية للنصوص، وروحانية حركتها) وإبداع أعمال فنية مؤسسة على التفكير التأليفي بينهما لكي تتناغم كلها داخل هذا الوفاق. الأمر الذي يغير من وجود نغمة سائدة ومتعارف عليها بصريًّا، ويكسب تلك الأعمال حيوية دينامية.
وكباحث عن الجمال بالمفهوم الحديث، والمتمثل في عالم الوجدان والروحانية، اتسم الفنان "نهار مرزوق" بصاحب فكر متعمق في الجذور التراثية والعناصر المعمارية الإسلامية، وقدرات مكينة نحو النفوذ بالحس عبر أعماق الصياغة والتدوين، كسبيل لتجديد "مسارات الفن البصرى" وفق نهجية تفصح عن العاطفة والروحانية النابعة من أعماق الذات وفخامة الإرث المكتنز، ليقتحم الفنان أغوار عالم "الوجدانيات" بحثًا عمّا يجدد الرؤية الفنية لديه، والغوص في بحر الموروثات الثقافية، في توازٍ يستهدف التعبير عن القوة الكامنة الديناميكية، في أطروحات تستمد مفهومها من الشعائر والروحانيات، لتعضيد أحاسيس متسامية ومعانٍ نابضة، بما يعضد المسارات البصرية الفاعلة عبر الكتل والحجوم.



|