القاهرة 04 مارس 2025 الساعة 09:47 ص

بقلم: د. حسان صبحي حسان
في مقام شحذ الإبداع الفني، وأثره الفاعل في تعزيز الثقافة الفنية، يروم استجلاء الأدوار الراديكالية الفاعلة والنابضة للمشاركات والتجمعات الفنية التي ترتكل لتبصير الإنسان بثقافة الفنون البصرية بما يتسق مع الهوية الثقافية وذاتية المجتمعات، والاحتفاء بالإرث واستلهامه، لتصدير تأليفات فنية وأفكار حيوية تجسد واقع المجتمع، وانعكاس بارومتري لازدهار الفنون التي تعظم الاستشعار بعظم الثقافة وفخر الموروث وزهو الماضي. وهو ما تســعى اليه المملكــة العربيــة الســعودية، عبر رؤيــة طموحــة تنحاز نحو تسطير حالة ثقافية ذات خصوصية ثرية، ضمن الاستراتيجية الشاملة لرؤية المملكة 2030 في جوانبها الثقافية، لتدشين ملتقيات تنويرية تحفز وتنمي مصادر الإلهام والابتكار، وتدشين حاضنات ومخصبات الإبداع، بما يعزز الإضافة في مجال الثقافة والفنون البصرية.
"ملتقي فن الطين" بالدرعية، احتفاء بالفن واستلهام روح التراث برؤى معاصرة:
ينطلق ملتقى فن الطين في حديقة "الطريف" بالدرعية، كحدث استثنائي يحتفي بالفن الذي يستمد روحه من التراث ويعيد صياغته برؤية معاصرة، في موسم الدرعية (24-25) (أرض ترويك) برعاية قومسير الملتقى الفني: الفنان المبدع "راشد الشعشعي" ، ومدير الملتقى: الفنان "معاذ العوضي"، وذلك على مدى عشرين يوما تتحول فيهم "الدرعية" إلى ورشة إبداعية مفتوحة، حيث يجتمع نخبة من الفنانين لابتكار أعمال فنية تستوحي تفاصيلها من العمارة الطينية وتروي من خلالها قصصا تتجاوز حدود الزمن، لتلامس أصالة الماضي وتستشرق آفاق المستقبل. حيث يصدر الملتقى تجارب وتأليفات بنائية غامرة تتيح للزوار فرصة متابعة مراحل تطور الأعمال الفنية خطوة بخطوة، ومعايشة فكرة الفنان وتوالدها وطرق تجسيد الأفكار بيئيا، واستكشاف تفاصيل الإبداع الطيني في بيئته الطبيعية بما يعضد ويساعد تفاعل الجمهور المتلقي بشكل مباشر مع المواهب المبدعة وأطروحاتهم الفنية والذين يستلمون إرث الدرعية ليعيدوا صياغة مفاهيم الفن والعمارة في سياقات ومدارات الحداثة المتجددة.
وذلك عبر تجارب فنية تعكس تفاعل المادة مع الرؤية الإبداعية، في ملتقى وحاضنة إبداعية تستقطب مواهب واعدة في مجال التشكيل والتجهيز الفراغي في جميع أقطاب العالم ليقصوا رسائلهم وأفكارهم ويبوحوا بلغة بصرية حداثية تتسق مع طبيعة الوسيط المستخدم ومتطلبات العصرانية، وتتوازى مع المدارات والأهداف الحداثية للعرض البصري وتصدير المحتويات الفكرية الموجزة بالشكل الذي يحقق المتعة البصرية والفكرية، و"الطين" الذي يمثل البعد التشكيلي والمتوالية لبنائيات وصياغة الأعمال الفنية في تعزيز لتعدد المستويات والفعل الحركي من خلال استلهام مفردات تمثل تصور الفنان حول الموجودات في صياغات وأطروحات حداثية، تعلي من قيمه "الطين" كمحرك فاعل يعبر عن أفكار الفنان، حيث الديناميكية والتعبير وحلول المساحات التي تنحو عن المعاني المقروءة.
كتوجه ثقافي وفني يهيئ المناخات المواتية ليرسخ “الملتقي” لرسم ونحت ملامح وتفاصيل، وتمهيد دروب التواصل مع الآخر إبداعيًا بهدف إتاحة الفرص لأجيال متعاقبة ترنو بأفكارها نحو آفاق شاسعة، لتنميه مهاراتهم، واستثمار قدراتهم الكامنة، باعتبارهم خارطة التغيير الإيجابي. وطرح قيم مضافة للساحة الثقافية، وتأصيل منظومات فنية فاعلة تعزز الطموح والتطلعات، وتساهم في التواصلية والتبادل الفني والثقافي الإنساني بما يشكل أجواء إبداعية خلاقة، تندفع نحو منعطفات ومدارات تتميز فيها طرق التفكير والصياغة والتشكيل والتعبير الحداثي الذي يدعم الذاتية والهوية التراثية، فالتراث ليس مجرد شظايا من الماضي تحفظ في المتاحف أو تروى في الحكايات، بل هو كيان حي يتفاعل مع الزمن متجددا وفق احتياجات الحاضر ومؤثرا في المستقبل، فهو الجذر الذي يمنح الهوية امتدادها، ويشكل قاعدة راسخة لاقتصاد إبداعي يقوم على الذاكرة الجمعية، حيث يتطور باستمرار مولدا إمكانيات جديدة تسهم في تشكيل المشهد الثقافي والصناعات الإبداعية. فمن تطوير الحرف التقليدية بأساليب معاصرة إلى دمج الرموز التاريخية في الفنون الرقمية والتصميم ليتحول التراث إلى مورد اقتصادي مستدام يعزز السياحة الثقافية ويوسع الفرص أمام الصناعات الإبداعية.
ويأتي هذا المهرجان في الدرعية بالمملكة العربية السعودية كوجهة تحتفي بالفنون والإرث، وشحذ المناخ والبيئة الفنية بالدرعية بما يعلي قيم تذوق الفنون، ونحت محيط إبداعي ينمي الذائقة المجتمعية، ويثري وجدانية وإدراكية المتلقي بجرعات فنية نابضة وصياغة بيئة داعمة لاحتضان ونمو إبداع الفنانين عبر مبدعين من المملكة وخارجها، ليتجاوز الإبداع حدود المحلية ويلامس العالمية ويثريها، في حالة فنية تساعد الفنانين وتهيئ لهم أجواء الإبداع واستنشاق عبق التاريخ والإرث واستلهام جغرافية الزمان والمكان، ومساعدة المتلقي والمثقفين نحو تلمُس رؤى إبداعية وتأليفات فنية خالدة، مؤسسة على خامة الطين ومعالجاتها التشكيلية وطرق بنائها فراغيا.
ويأتي "الطين" كخامة ضرورية وملحة في ذلك الملتقى كأحد وسائط الفنان لإحياء الثقافة والموروث الكنيز بصورة معاصرة، لما لهذه الخامة من صفات وخصائص تتمايز بها عن مثيلاتها من المواد، وقدراتها التشكيلية والتعبيرية التي تفصح عنها داخل العمل الفني بمباشرة الفنان، والمتسع الذي يجد فيه الفنان مجالا لتطويع أفكاره وتجسيد تصوراته الفنية بيسر وسهولة، وتوظيف المادة لتعضد ذلك التوحد بين الحس والموضوع من ناحية وبين الخامة من ناحية أخرى باعتبارها جهداً ابتكارياً، حيث يتشكل الطين عبر (يد وذهنية ومفاهيمية الفنان) إلى جوهر ثقافي (وحوار ما بين الخامة والفنان).
ففي خامة الطين يجد الفنان (المرونة- والمطاوعة) لتشكيل تأليفات فنية ومحاولات الإتيان بتقنيات جديدة سواء في مجال التشكيل، أو الصناعة، أو التركيب، أو التنقيب عن معطيات حداثية لطرق التشكيل اليدوي والتي شهدت تطورا وتراكمية بين الحضارات المختلفة والمتعاقبة، وتطويع صفاتها لخدمة الموضوع والتقنية والفكرة، سعيا بذلك لإدراك ما هو وراء هذه الخامة من خصائص ذات معانٍ جمالية وفلسفية تعضّد الإبداع الفني، حيث يسعى الفنان من خلال الطين لتجسيد وتجديد هويته وانتمائه والتعبير عن موضوعات محلية والانحياز للبيئة، وإبراز قيم فكرية ووطنية وتاريخية من خلال مرجعيات الطين في الثقافة الجمعية السعودية. وسط المعالم التاريخية لحديقة "الطريف" حيث تحول المكان إلى معرض مفتوح يعكس التفاعل الحيوي بين العمارة والفن والثقافة، حيث تصبح كل زاوية وكل منحوته فرصه لعيش تجربة بصرية وحسية تأخذ الزائر في رحلة عبر الزمن من التقاليد المتجذرة إلى الابتكار المستقبلي من خلال هذه التجربة الفريدة يعاد تعريف العلاقة بين المادة والهوية ليقدم الملتقى رؤى جديدة تعزز الهوية المحلية، وتبرز الطين كعنصر أساسي في الحوار بين الماضي والحاضر.
" الطين" ما بين التأليفات البنائية للمواهب المبدعة واستلهام إرث الدرعية:
وانبثقت في ذلك المهرجان عدد من التأليفات والأطروحات الفنية التي شيدت في الموقع، بما يتسق مع (طبيعة المكان والهوية والخصوصية واستلهام إرث الدرعية) من خلال خامة الطين، حيث بدأت رحلة "خالد بن عفيف" في توثيق علاقته بالطين بدافع الحاجة الملحة لاكتشاف أسرار الماضي والتعمق في كل ما هو غير مرئي ومكنون بين جزئيات هذه المادة التي تحمل في طياتها تاريخا طويلا من التفاعل بين الإنسان والطبيعة. فتحت سماء الدرعية وبين شعابها نشأت لدى الفنان رغبة في الغوص في الزمن واستعادة صدى المكان من خلال ترابه، وكل ما نشأ عليه حيث يرى أن إيقاع وأهازيج أهلها تشكل جوهر هذا الامتداد التاريخي، حيث اختار الطينة الحجرية لتفتيتها ثم إعادة بنائها أو نحتها وفق ترددات أصوات الطبول المصاحبة العرضة النجدية، مستحضرا من خلالها صدى التراث الحي للمكان.
ويحاكي عمل الفنان "محمد فلفلان" شكل جذع النخلة التي ترمز للنمو والتجذر في الأرض والذي تكونت من شكل الغربال في تكوين متصاعد ومصفوفة راسية لأعلى، في محاكاة للامتداد الطبيعي للشجرة نحو السماء، وقد غطيت الغرابيل بطبقة من الطين والخيش كمواد ارتبط بهم الإنسان منذ بداياته عندما كان يبني عالمه بنفسه معتمدا على خبرته وحاجاته الأساسية في تسيير حياته، ويأتي هذا الاختيار تجسيدا للعلاقات المتداخلة بين الإنسان والأرض حيث تتقاطع الحاجة للابتكار، ويتلاقي الأصل مع التطور، ليطرح العمل رؤية بصرية لحكمة الطبيعة وحكمة الإنسان فكلاهما يمر بعملية نصفية مستمرة، حيث لا شيء يضيع بل يعود إلى اصله ليبقى الجوهر تماما كما تبقى النخلة شامخة رغم اهتزاز جذعها.
حيث يشكل الغربال كشكلانيه ورمزيه على مر التاريخ، وأداة أساسية في عملية التصفية والانتقاء، فالغربال لم يكن مجرد أداة تستخدم في الزراعة، بل امتد دوره إلى مجالات متعددة ليعكس الحاجة الدائمة إلى الفرز والاختيار في مختلف جوانب الحياة متجاوزا وظيفته الميكانيكية حاملا في طياته بعدا فلسفيا، حيث يشكل حدا فاصلا بين (الفوضى والنقاء وبين المادة الخام والمنتج النهائي).
ويستلهم الفنان عمله الفني من هذه العلاقة المتداخلة حيث يعكس شكل العمل مراحل تهيئة الأرض وزراعتها ثم تصفيه المحصول عند الحصاد في إشارية إلى دورة الحياة المستمرة بين الجهد والانتقاء، كما أن تغليفه بالطين يضفي عليه بُعدًا آخر، إذ يتحول إلى رمز للتكوين الأول للإنسان الذي نشأ من الطين وكان عليه أن ينقى بنفسه باستمرار ليبني خبرته وهويته.
ويتألف التركيب الفني ل "حمود العطاوي" من الطوب الطيني التقليدي، ليمثل منزلا يشبه التصميمات الأجنبية التي تتمايز بسقف مثلث الشكل مع إضافة تغيير مدروس ليترك السقف مفتوحا بما يرمز إلى التباين بين الأشكال المعمارية المستوردة وواقعنا المناخي والثقافي. وتتكون الجدران من الطوب الطيني مع وجود فواصل متساوية بين كل لبنة والأخرى، كما ألهم شكل هذه الفواصل العمل ذاته. وكان من المتبع تقليديًّا ترك فجوات بين اللبنات عمدا للسماح بتدفق الهواء لتسريع عملية التجفيف.
ويوثق عمل الفنان "ناصر التركي" فترة زمنية خاصة من ذكريات الطفولة في منطقة حائل في شمال المملكة العربية السعودية، في خلال تلك الحقبة كانت الأمهات يجتمعن مع أطفالهن ليتبادلن الحكايات والقصص التي تبدّد الملل وتثير الفضول، وذلك قبل أكثر من 150 عام، وفي غياب وسائل الترفيه الحديثة كانت هذه التجمعات بمثابة المتنفس الوحيد للأطفال، فكانت الأمهات يبدأن برسم صور البيوت والمعالم المحيطة بها من الرمال تارة وعليها تارة أخرى، ثم يشرعن في سرد تفاصيل الحياة اليومية للأفراد والعائلات. وفي هذا العمل تتحول رمال الصحراء إلى لوحات إبداعية يمزج فيها الفنان بين الخيال وواقع ذكريات الطفولة، ليشكل بذلك أساسا لأولى تجاربه الإبداعية ويبرز العمل كيف يمكن لبساطة الإمكانيات أن تنتج فنًّا قادرا على التعبير عن عمق التجربة الإنسانية وثراء التراث الثقافي.
ويهدف مشروع "جميلة ماطر" إلى تعزيز الروابط بين الأفراد وبيئتهم عبر الفن مستكشفا الطرق التي من خلالها تنمو الهوية المحلية في ظل سياق عالمي متغير، ومن خلال استخلاص الألوان من الطبيعة المحيطة يتجلى تباين ملهم، حيث تعبر الألوان المحلية عن جذور الانتماء والهوية الأصيلة، بينما تجسد الألوان المستوردة قصص التبادل الثقافي وذكريات طرق التجارة عبر الزمن، وقد استلهمت هذه الثنائية من مراقبة مستمرة الأشجار المحيطة بالمكان حيث نمت بعض الأشجار الأصيلة في هذه الأرض منذ القدم، بينما استوردت أخرى من مناطق بعيدة مجسدة روح الانفتاح والتواصل مع الآخر، كما يستمد العمل أشكالا هندسية من تكوينات الطبيعة، ليخلق حوارا بصريًّا يعيد صياغة العلاقة بين المكان ومحيطه وزمانه. وبهذا يدعو المشروع إلى إعادة التفكير في كيفية تشكل الأماكن وعلاقتها بالهوية والتاريخ مسلطا الضوء على أهمية إحياء المساحات المهجورة التي تحتضن قصصا تنتظر التجديد وإعادة الصلة.
يجسد عمل الفنانة "سميا شلبي" مخلوقات خيالية تمزج بين البشر والجمادات، حيث تنصهر ملامحها مع العناصر الطبيعية والصناعية كأنها كائنات عالقة بين عوالم متناقضة، ليهدف العمل إلى تقديم هذه الكائنات بشكل أعقد من كونها منحوتات فحسب، بل كحكايات مجمدة في الطين تبحث عمن يقرأها.
وتسعى الفنانة "ميساء شلدان" إلى استكشاف التفاعل بين الإدراك واللا إدراك من خلال الكتلة الطينية وصوت المكان مُقدمة قراءة توثيقية لهذا التراث المتوارث، ليركز العمل على لحظة محورية في حياة المجتمع المحلي وهو (نبأ تزويج الولد) حيث تتجلي قيم التكاتف والتعاون والمساندة بين الأفراد، لتتجسد هذه القيم في الفزعة والنخوة التي تدفع أهالي المنطقة إلى تجهيز اللبنات الطينية وجلب الحجارة، وتأدية الواجبات الاجتماعية لإعمار منزل العروسين، بينما تتردد الأشعار والأهازيج الشعبية لترسخ هذه العادات في الذاكرة الجماعية.
ويعيد العمل الفني "لسعيد قمحاوي" التفكير في مفهوم التراث متجاوزا اعتباره رموزا ثابته إلى كونية عناصر متحولة قادرة على التكيف مع الزمن، لتتحول الزخارف والخطوط والمواد المستخدمة في الفنون التقليدية إلى لغة بصرية تنسج حوارا متجددا بين الماضي والمستقبل وبين الأصالة والابتكار، فالتراث لا يبقى ساكنا بل يعاد تفعيله وإعادة تشكيله ليظل حاضرا في المشهد البصري المعاصر في ظل هذا الامتداد المستمر بين الماضي والمستقبل، ولا يظهر إلا التراث كأثر من الماضي بل كضوء يوجهنا نحو آفاق جديدة.
وتطرح الفنانة " زينه عامر" نقاشا حول الديمومة وتداول الإرث البشري مسلطة الضوء على التحديات التي تواجه استمراريته في ظل التحولات المتسارعة، يأخذ العمل شكل تكوين بصري فوضوي يخلخل التسلسل المعتاد للمشاهد ليعكس التعقيد الكامن في المجال البصري وحالة الوجود البشري المتشابك، حيث تتداخل العناصر المختلفة في مشهد يتشكل فواتير متصاعدة تحت تأثير العولمة وتسليع الانتباه، ليثير العمل العديد من التساؤلات والشكوك حول كيفية إدراكنا للواقع البصري ومدى قدرة الإنسان على تجاوز حالة الجمود التي تفرضها الإيقاعات السريعة للحياة المعاصرة، في هذا السياق يعكس العمل التوتر القائم بين الهوية الثقافية والحفاظ على القيم من جهة- والمنافسة في عالم يتغير بوتيرة متسارعة من جهة أخرى) مقدما تجربه تتأرجح بين الاستقرار والتحول وبين الامتداد الزمني وإعادة التشكيل المستمر.
بينما يجسد الفنان "محمد بنوي" عبورا روحيا بين الطواف والدعاء حيث تمثل البوابة مرحلة التحول الروحي، والبحث عن الخلاص، حيث يشير الطواف إلى استمرارية السعي والتزام الإنسان بالطريق، بينما يعكس الدعاء لحظه تواصل مباشر مع الخالق بما يخلق تجربة ديناميكية تتفاعل مع المشاهد على مستويات متعددة، ليتناول العمل التأمل في التجربة الإنسانية الوجدانية بين الطقوس الروحية المقدسة والمفهوم الوجودي للخلاص، حيث يتشكل العمل عبر تداخل المواد والخامات وتمتزج فيه العناصر التقليدية مع التقنيات المعاصرة في إشارية إلى تواصل الأجيال وتراكم المعرفة عبر الزمن.
ويستعرض عمل الفنان "زياد الروقي" استكشافا متعمقا للعلاقة بين التراث والابتكار والزمن، حيث تتقاطع التقنيات النجدية التقليدية مع الطاقة الحيّة (للنخلة) في تشكيل سرد بصري محفز للتفكير في قضايا ثقافية وإنسانية واسعة، ومن خلال هذا التفاعل يعكس العمل الروابط المستمرة بين الإنسان والطبيعة، ويجسد الزمن كعنصر متحرك يربط الماضي بالحاضر والمستقبل.
وتكشف الفنانة "عائشة الشهري" علاقتها بالتراث المادي من خلال دمج البناء الطيني التقليدي مع رؤية معاصرة توظّف تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، عبر انطلاق من شغف بإحياء الحرف اليدوية، حيث تقدم عناصر طينية تتداخل فيها الحكايات والذاكرة من منظور حديث، تحميل كل طوبة في طياتها قصة تعكس حكايات الأجداد وآمال المستقبل لتصبح عنصرا يربط بين الماضي والتكنولوجيا المتقدمة في حوار ممتد بين الأجيال. ليعكس عملها مفهوم الاستدامة والإبداع، عبر إعادة النظر في استخدام الطين كمادة أساسية للبناء، مع إبراز الإمكانيات التي توفرها التقنيات الحديثة في تطوير الحرف التقليدية، وإعادة توظيفها في سياقات جديدة من خلال هذا النهج الذي لا يقتصر العمل فيه على إعاده إحياء تقنيات البناء الطيني، بل يعيد تشكيلها في إطار معاصر يعكس العلاقة المتجدّدة بين التراث والتكنولوجيا.
وفي عمل الفنان "سعد الهويدي" الذي تمتد فيه كل نافذة بالذاكرة عبر الزمن محفوره كنقش يعبر عن تعاقب الأيام، ومساحه يتداخل فيها الماضي مع الحاضر وتتسلل أشعة الشمس عبرها لتحرك السكون، وتعبر النسمات فتنعش الأرواح، بينما تعكس تفاصيلها أصوات الحي وألوانه وحكاياته في البيوت الطينية القديمة، حيث لم تكن أبدا النوافذ مجرد فتحات في الجدران، بل كان تصنع من الخشب والحديد المشغول يدويا تجسيدًا للطابع الحرفي والجمالي للمنطقة حاملةً بصمة من إيقاع الحياة المتوارث عبر الأجيال. ليستكشف بذلك الفنان "سعد الهويدي" النوافذ كمفهوم بوصفها وسيطا بين الداخل والخارج لتتجاوز وظيفتها المادية وتصبح نقطة تواصل بين الفرد والعالم، حيث تحدد النوافذ مساحات من الخصوصية والانفتاح والأمان والحرية حاملة في طياتها بصمات الزمن وتحولات المكان.
ليستمد العمل عناصره من نوافذ خشبية قديمة مأخوذة من البيوت الطينية إلى جانب الحديد المشغول يدويا والمزين بأقمشة نسائية ومثلثات شعبية تعرف باسم (الفرجه) مكسوّة بخيوط قبطان مأخوذة من البشت السعودي، من خلال إعادة توظيف هذه العناصر، لينطلق سعي الفنان نحو إحياء الحرف التقليدية المرتبطة بالعمارة الطينية وتحويلها إلى تكوين فني معاصر يعكس الهوية الثقافية والتراث المعماري.
ويعزز عمل الفنان "أيمن حافظ" رؤية مجازية للأيدي التي ساهمت في بناء الدرعية عبر العصور، حيث يتكون العمل من 560 قفازا مغطى بالطين ومرتّبة في مصفوفات أفقية مع بعضها البعض، في تكوين مربع يرمز إلى التماسك والبنيان، وقد تم تغليف العمل بالكامل باستخدام التربة الطينية المحلية المستخرجة من المنطقة الوسطى بما يخلق رابطة ملموسة بين الماضي والحاضر ويعكس الإرث العريق لهذه الحرفة التاريخية.
ويرتكل عمل الفنان "عمار سعيد" إلى مجموعة من الرموز والزخارف التي كانت عنصرا أساسيا في العمارة التقليدية في المملكة العربية السعودية، لاسيما في مدينة "الدرعية" لتتخذ هذه العناصر شكل جدارية طينية بأبعاد 120 × 320 سم، حيث تبقى النقوش ثابته على جدران الطين تنقل حكايتها عبر الأجيال وتحفظ ذاكرة التراث على مر السنين.
وتمزج فلسفة الفنان "محسن التيتون" النوافذ المطلة على الدرعية بين التراث والتاريخ المرتبط بالمكان حيث استلهم الفنان الزخارف والنقوش التقليدية من المنطقة معيدا تشكيلها في تكوين بصري يعكس هويتها، وقد أنجز العمل بالكامل باستخدام الطين مع إضافة طبقة من الورنيش لحمايته من عوامل التعرية الطبيعية، بما يحقق توازنا بين الأصالة والاستدامة.








|