القاهرة 04 مارس 2025 الساعة 09:31 ص

تحقيق: مصطفى علي عمار
هل نجحت الدراما التي تناولت الصعيد، في التعبير عن واقعه الاجتماعي والاقتصادي والحياتي وجسّدت عن تطلعاته وهمومه مثل الفقر والبطالة والتعليم والصحة؟
إن نظرة يسيرة للأعمال الفنية التي قدمت قصة الصعيد وثقافته وأهله، مثل "العائدة"، "الناس والفيل"، "الطوق والمجتمع"، و"البيت في الطريق"، نجدها أسهمت في تكريس صورة نمطية عن الصعيد في أذهان الجمهور هي الثأر والمخدرات، وفشلت في إظهار التغيرات الحالية التي تشهدها المنطقة، ففي مسلسل رفاعة الطهطاوي مثلًا انتقصت من قيمة مساهماته في الترجمة، جريًا على نمطية تقليدية جامدة، فلم يصل للمشاهد مدلول أكثر رحابة، وحكت في مسلسل ذئاب الجبل، حياة قطاع الطرق.
لقد شهد الصعيد في السنوات الأخيرة تحولات كبيرة في مجالات الحياة المختلفة، أدت إلى تغيير الصورة النمطية التقليدية لأناسه، لم يعد الصعيدي الساذج والمتخلف موجودًا في الواقع، بل أصبح متعلمًا وواعيًا، كما أن جرائم الثأر والشرف أصبحت أقل انتشارًا، بينما ازدادت مشاكل الفقر والغلاء وارتفاع المهور مع قلة الإمكانيات، الأمر التي دفع الصعيدي للاغتراب سنوات بحثًا عن الرزق الشريف.
وفي هذا التحقيق نستعرض دراما الصعيد بين الواقع والخيال، ونحلل موضوعاتها الرئيسية والتحديات والتأثيرات الثقافية والاجتماعية لها، ولاستكشاف أسباب استمرار الصورة النمطية التقليدية عن الصعيد، التقينا بعدد من كبار المثقفين والأدباء من الصعيد وخارجه وناقشناهم حول مدى نجاح الدراما تمثيل الواقع الاجتماعي والاقتصادي للصعيد وأناسه، وإلى أي مدى نجحت أو فشلت في تعبيرها عن التغييرات الاجتماعية والاقتصادية في الصعيد، وهل استطاعت إلقاء الضوء على علمائه وأدبائه؟ وكانت هذه إجاباتهم..
-
أسامة الألفي: الدراما تعاملت - في معظمها - مع الحياة في الصعيد بطريقة الكاوبوي الهوليوودية
استهل الكاتب الصحفي أسامة الألفي الحديث بقوله: للأسف تعاملت الدراما - في معظمها - مع الحياة في الصعيد بطريقة الكاوبوي الهوليوودية، وبشكل سطحي للغاية بحثًا عن الإثارة والتشويق وجذبًا للمشاهد، فلم تر فيه سوى الجرائم والثأر والمرأة المغلوبة على أمرها حبيسة الدار، والقروي غير المتعلم الساذج، وتجاهلت أن صعيد اليوم ليس كصعيد الأمس، وأن الحياة فيه تطورت واختلفت عن السابق، وأن عادة الثأر وكذلك مطاريد الجبل لم تعد كالسابق، بعد انتشار الجامعات وخروج المرأة الصعيدية من شرنقة البيت، إلى آفاق العمل الرحبة جنبًا إلى جنب مع الرجل، وبدلا من معالجة مشكلات الصعيد الحديثة، الناجمة عن تطور الحياة، استمرت الدراما في تناولها النمطي السطحي، متجاهلة واقع بروز مشكلات وقضايا جديدة لم تكن ظاهرة للعيان قبلًا، مثل هجرة ملايين الصعايدة إلى المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية، هروبًا من الفقر وعدم وجود فرص عمل، نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار الأراضي والشقق وتكلفة الحياة، ولغياب المشروعات الاستثمارية الكبيرة عن الصعيد، ومثل غلاء المهور الذي أعجز شباب الصعايدة عن إكمال نصف دينهم، ورفع أعداد العوانس، وغير ذلك من القضايا الاجتماعية التي برزت على السطح وتجاهلتها الدراما دونما سبب معقول.
وفي تصوري أن هذا يعود إلى غياب كُتّاب الدراما الصعايدة عن الساحة، وإسناد عملية الكتابة إلى كُتّاب لم يعيشوا فيه يومًا، وبالتالي لا يعرفون عنه سوى ما سمعوه أو قرأوه، ولم يدركوا التطورات التي حدثت للحياة والبشر فيه، واختصروا تاريخ الصعيد في سيرة رفاعة رافع الطهطاوي، ونسوا كبارًا من الصعايدة دخلوا التاريخ مثل جمال عبد الناصر والشيخ مصطفى المراغي والعقاد ود. طه حسين وأمل دنقل وبليغ حمدي ود. مجدي يعقوب، وغيرهم من نوابغ السياسة والأدب والعلم والفن الذي أفرزهم الصعيد.
إن الدراما مطالبة بتصحيح مسارها، عبر إدراك أن صعيد اليوم مختلف تمامًا عما كان قبل قرن.
-
بهاء الدين حسن: الصعيدي وجد من يسخر منه في الدراما، لا من يناقش قضاياه
ويصف ابن محافظة قنا الأديب الكبير بهاء الدين حسن الدراما الصعيدية بأنها دراما السمع!، يقول: مما لا شك فيه أن الدراما هي الضوء الذى إذا صوب نحو جوانب معتمة أضاءها، والدراما التليفزيونيـة والسينمائيـة لعبت دورا مهمـًا في كشف جوانب كثيــرة كانت بالنسبة للبعض مجهولة.
يوضح: ومن الجـوانب التي كشفتها الدرامــا، الحيــاة في الصعيــد، والتي كانت تمثــل عنـد غير الصعايدة حياة مجهولة ومغلقة، هذا الانغلاق جعل الصعيد مثــار تنـدّر، وجعل البعض ينسج حكايات بعيدة كل البعد عن الصعيـد، حتى جــاء بعض كتــاب الدرامـا واتجهوا بأقلامهم للكتابة عن الصعيد، هذا العالم الثري المليء بالحكايات والأسرار.
يضيف: وعلى الرغم من أن كُتّاب الدراما وجدوا في تربة الصعيد مادة خصبـة للكتابة، إلا أن الصعايـدة لم يجـدوا أنفسهم في الدراما، فبـدلًا من أن يجـد الصعيدي من يناقش قضاياه، وجد من يسخر منه ويتندّر عليه! إذ أظهـرته الدرامــا على أنــه ذلك الرجـــل الذى يمكن ضـربــه على قفـاه، والضحك عليـه وبيع العتبـة الخضـراء له، فضلًا عن حصرها لحياته في القتل والثأر!
إذ اعتمد كتاب الدرامــا (من غير أبنـاء الصعيد) على الكتابة عن الصعيد بالسمع ودون تعايش، وهذا فيه ظلم للصعيد، وكان لهـؤلاء الذين كتبوا بالسمع النصيب الأكبر في تشويه صـورة الصعيدي، وترسيخ فكرة أنه ليس هـو ذلك الرجل الذى يقيم في الجنوب يكد ويكدح، ولكن هو ذلك الرجل الذى تناولته النِكات!
حتى جاء الكاتب محمد صفاء عامر، ابن الصعيد، وقـدم بجانب كتاب آخرين درامـا واقعيـة عن مجتمع الصعيـد بأمانة، دراما بعيدة عن الدراما التي قدمها البعض من وحي الخيال .
فكاتب الدرامـا مثل صياد السمك، ولم نسمع عن صيـاد اصطـاد السمـك من الخيـال، فلا بدَّ للصيــاد من أن يصطــاد من البحــر، بمعنى أن ينـزل كاتب الدرامـا إلى أرض الواقـع، يعيش ويتعـايش، حتى يقـدم درامـا واقعية، وهذا ما يحتاجه الصعايدة من كتاب الدراما.
-
ابتهال الشايب: لم تنصف الدراما المرأة الصعيدية فإما يظهرونها غبية أو شريرة أو مغلوبة على أمرها
وترى القاصة والروائية الأقصرية ابتهال الشايب أن دراما الصعيد لم تنصف المرأة، فهي دائمًا إما تكون غبية، أو شريرة ذات شخصية قوية، وإما مغلوبة على أمرها، وغيرها من الصفات.
تضيف: في الحقيقة لقد توقفت عن مشاهدة مثل هذه الأعمال، فصناع الدراما يرسمون دومًا صورًا نمطية لا تتغيرعن سكان الوجه القبلي، الحياة في الصعيد تغيرت تمامًا، ولكن أصحاب مثل هذه الأعمال كأنهم يعيشون في كوكب آخر، حتى اختيار ملابس المرأة الصعيدية ليست كما يقدمونها، المرأة في الصعيد مثل أي امرأة في الكون، تتعلم، تعمل، تحب، وتكره، تتابع صيحات الموضة، تفكر، وتدرس، ليست كائنًا مختلفًا، هي إنسان طبيعي، هناك تطور في الصعيد على مستويات كثيرة في الثقافة والفكر خاصة في المدن السياحية منه، لم تترك وسائل التواصل الاجتماعي ودخول الإنترنت شيئًا لم يتعلمه أهل الوجه القبلي، ومع ذلك نجد مثل هذه الأعمال أمامنا، وعلينا أن نتابعها، ونقتنع بها، لم يكلف أحد صناع هذه الأعمال نفسه زيارة الصعيد ونجوعه، ليعرف كيف يعيش الصعيدي سواء امرأة أو رجل بشكل عصري وعقل متفتح، الصعيدي ليس عنيفًا إلى مثل هذه الدرجة، يحترم زوجته وعائلته، والمرأة الصعيدية ذكية حنونة، ومتزنة، لا تعاني من الجهل، أو التخلف العقلي، ترتدي أزياء عصرية، وتعتني بنفسها مثل أي امرأة، ليس ذنب مجتمع الصعيد أنه لا يملك خدمات مثل العاصمة، ليس ذنبه أنه ما زال يحافظ على قيمه الحقيقية دون مبالغة أو مغالاة، أو كما تصورها المسلسلات، الصعيدي لم ينساق وراء تقليد الغرب كما نرى في العديد من المجتمعات المصرية، يكفى أنه يحافظ على مبادئه في وقت ذابت فيه المبادئ واندثرت.
-
عبد الرحيم الماسخ: لم تتمكن دراما الصعيد من دورها المصيري في تعظيم الوعي العام بمستجدات الفكر
ويؤكد الشاعر السوهاجي عبد الرحيم الماسخ أن دراما الصعيد لم تتمكن من أن تعكس التغيرات الاجتماعية والاقتصادية في الصعيد، كما لم تعالج بواقعية مشاكل الفقر والبطالة، لأسباب واقعية غير ملموسة من خارجها، لأن البيوت الصعيدية تستر على ظروفها بالفضائل، فتجد الفقير من أكرم الناس والضعيف من أقواهم إلخ، الصعيد كان وما زال يحتاج إلى انعكاس لتوجهاته وحاجاته العائقة لتلك التوجهات من داخله، الدراما التي مثلت الصعيد هي رتوش يسخر منها أبناء الصعيد أكثر من غيرهم، فأين بطولات الصعيد الخارقة في الحروب وفتوحاته القيمة من تهريج الممثلين لإضحاك الجمهور، الصعيد قبل التغيير وبعده عصي على الفهم من خارجه، كما أن الدراما النابعة منه لا تجد الفرصة للعبور إلى شاطئ النور بسهولة.
يضيف: لقد ألفت رواية بعنوان "بيت الماسخ"، تم طبعها في النشر الإقليمي، عن الحرب التي دارت رحاها في سوهاج بين الجيش الفرنسي وأبطال الصعيد من أبناء جهينة وما حولها، تلك الواقعة التي انتصر فيها المصريون بجدارة، رواية لم تجد حظًا من الشهرة، فما بالنا لو حاولنا تحويلها إلى دراما، التسلية ليست كل شيء، والتحولات بكل عناصرها لم تترك شيئا على حاله، فلا يحتاج الصعيد ليصبح واجهة درامية تتحرك بواقعية نحو الخيال، لا يحتاج إلا الدخول والتوطين ثم الخروج بالأعمال والأقوال، في تعبيرية صادقة عن واقع ثري متكامل الأركان سباق إلى المستقبل، الصعيد شريك أساسي لمصر في كل حركاتها و سكناتها، وهو جدير بالتمثيل الحقيقي لظروفه ومتغيراته في العالم!
وعن التأثيرات الثقافية والاجتماعية لدراما الصعيد يقول: لم تكن مواكبة للواقع بل كانت تابعة له فلم يكن رفاعة بحاجة إلى تمثيل ناقص لدوره الكامل في خدمة الشرق، الإمام المراغي، كذلك أما الشاعر محمد عبد المطلب فلم يذكره ، مثله في ذلك مثل العشرات من المواهب، التي تسقط عفوًا كل يوم بلا وازع من ضمير، مما تسبب في آثار سلبية كثيرة منها إهمال ما لا يجب إهماله من نتاج العقول النيرة، التي تخدم أصول المعرفة وفروعها، ولذلك لم تتمكن دراما الصعيد من دورها المصيري في تعظيم الوعي العام بمستجدات الفكر، الدراما بذلك أصبحت تقليدية نفعية ابتعدت بالمشاهدين عن التأثير المباشر في الحياة، لتصبح سيالًا وهميًا للترفيه الباهت، الدراما غير ذلك إذ هي سلسلة المضمون الحقيقي من تكوره لانبساطه الذي يفسر نفسه ليعطي مزيدًا من الهمم الفكرية حول الحدث المركزي.
-
جمال حمدان: أغفلت الدراما قضايا الفقر والبطالة والنقص وأهمية التعليم، واختزلتها في الثأر والمخدرات
ويرى ابن محافظة سوهاج الممثل جمال حمدان أن الدراما تناولت فقط بعض المشاكل في الصعيد، أبرزها الثأر. كل مؤلفي المسلسلات لا يتكلمون إلا على سلبيات الصعيد، الثأر، التجارة في المخدرات، التجارة في الأسلحة فقط لم يتكلموا عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي، لم يلقوا نظرة على فقراء الصعيد، ولا حتى طرق الصعيد المتهالكة، ولا عن سلبيات أعضاء مجلس الشعب الذين يوعدون الناس ولا يوفون، الدراما لم تعالج أي وضع لأنها لم تهتم إلا أن تكتب سلبيات الثأر، لم تلق نظرة على وضع الفقراء، ولا على القرى التي لم تصلها حتى الآن المياه، ولا فيها مستشفى حكومي، لم تعالج البطالة ولا حتى مشكلة التعليم.. بعض القرى ليس فيها مواصلات ولا مدارس، طفل في الابتدائي يذهب إلى المدرسة كل صباح من بلد إلى بلد ولم يجد مواصلة، لم يلقوا ضوءًا حتى على كمية المخاطر التي يواجهها الأطفال الذين يذهبون إلى المدارس سيرا على الأقدام والتي تبعد عن منازلهم أكثر من خمسة كيلو مترات ذهابًا وإيابًا، فهل تنتظر من التلميذ أن يفهم ما يقوله المدرس في الفصل بعد المشوار الطويل بدون مواصلات؟، إن الصعيد منسي ليس على خريطة مصر!
يضيف: هل تكلمت الدراما عن الفقراء الذين لم يتمكنوا من تعليم أبنائهم، هل تكلمت عن الشباب الذي أفنى عمره بعيدًا عن أهله وبلده ليشتغل خارج بلده، منهم من خرج بطريقه غير شرعية فتم القبض عليه وسجنه، لماذا لأنه هرب من الفقر إلى السجن، هل تكلمت عن الذين خرجوا من أجل لقمة العيش في أي بلد عربي، وتم إهانتهم وضربهم، هل تكلمت عن مدى الظلم الذي يتعرض له المتغرب عن بلده؟ بالطبع لا الدراما لم تتكلم عن كل ما ذكرته، ولا حتى الصحافة!
|