القاهرة 18 فبراير 2025 الساعة 10:33 ص

تحقيق: مصطفى علي عمار
-
شهدت الحرب الأخيرة مقتل أكثر من 55 فنانا وكاتبًاسودانيًّا.
واجه الأدب السوداني، الذي يمتد جذوره في عمق الثقافة الأفريقية والتراث العربي، تحديات كثيرة في زمن الحرب، التي أثرت بشكل كبير على الكتّاب السودانيين، كما يمكنه أن يلعب دورًا مهمًّا في عملية التعافي بعد الحرب..
طرحنا أسئلتنا وناقشناها مع كبار أدباء وكتاب السودانفي هذا التحقيق الذي يبرز التأثيرات والتحديات التي واجهها الأدب السوداني في زمن الحرب على الهوية الوطنية السودانية.
وكانت الأسئلة التي طرحناها على بعض الأدباء والكتاب السودانيين:
كيف أثرت الأحداث السياسية والاجتماعية على الكتّاب السودانيين؟ وكيف استُخدم الأدب السوداني كأداة للثورة والتحريض ضد الحكومات الاستعمارية والديكتاتورية؟ وكيف واجه الكتّاب السودانيون التحديات والصعوبات في زمن الحرب؟ وكيف أثرت الحرب على الهوية الوطنية السودانية؟ وكيف يمكن للأدب السوداني أن يساهم في عملية التعافي بعد الحرب؟
وجاءت أجوبتهم كالتالي:
-
صلاح الدين سرالختم علي:ستوأد الفتن في مهدها وتعود الجلابية البيضاء الناصعة رسولا للمحبة
ابتدرنا الكاتب والناقد السوداني الكبير صلاح الدين سرالختم علي يقولبحزن وأسى: تعتبر حرب الخامس عشر من أبريل 2023 حدثاً مفصلياً كارثياً في تاريخ السودان،وتعتبر انتصاراً شاملاً لقوى الظلام في السودان على صوت العقل والتنوير والسلام والتعايش السلميالذي عاش في ظلّه السودانيون عبر العصور آمنين سالمين، ألا من غزوات خارجية وفتن داخلية صغيرة محدودة، سرعان ما يتم إخمادها بالحكمة الموروثة والإرادة الغالبة لعامة شعوب السودان، هذه الحرب يكفيها عاراً أن جميع المتورطين فيها لايجرؤ أحد منهم على تبنيها وتبني المسؤولية عن إشعالها، فكل منهم يدمغ الآخرين (حتي من لم يتورطوا فيها بشكل مباشر) بالمسؤولية عن إشعالها، وجميع السودانيين يتقاذفون التهمة بعيدا عنهم وينحون باللائمة على بعضهم بعضا كأنها تم إنزالها بواسطة قوة مجهولة بأرضهم إنزالاً، وتظل الحرب مشتعلة وأصوات العقل التي تدعو لإخمادها مرفوضةً ومقموعةً وخافتةً ومتهمةً من كل طرف بموالاة الآخر، وتتسع رقعة الحرب يوماً بعد يومَ، ويدفع ثمنها المدنيون القابعون بلا حولَ ولا قوه بين حجري الرحى وهم يدفعون ثمن حرب لم يشعلوها ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، يموتون قصفاً بمدفعية المتحاربين وقصف الطيران وبالجوع والمرض وانعدام المشافي والأطباء ونقص المال والطعام والماء وانعدامه، ويموتون في الصحاري خلال محاولات الفرار من جحيم الحرب،ويموتون بالضغوط النفسية المتتالية وفقدان الأحبة وتواتر الأخبار المحزنة والهجمات الجائرة عليهم.
الكتاب والأدباء والمفكرون والفنانون وجدوا أنفسهم في قلب العاصفة فجأة وسط الحرب وأهوالها، وكل طرف من المتحاربين يروج نفسه ويقدمها علىأساس أنه هو من معه الحق ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا أمامه، ويرى كل منهم في الوقوف على الحياد أو رفض الحرب والاقتتال خيانةً وطنيةً وكفراً، علا فيها صوت العنف والتحريض على العنف المتبادل وتوسيع دائرة الفتنة والتباغض، والدعوة إلى العودة إلى القبلية والجهوية ودعوات الاحتراب العرقي والجهوي، ودمغ كل من يدعو لوقف الحرب بالخيانة من الطرفين واستباحة دمه وماله وشرفه والاغلاظ والسباب والحط من القدر، وتكالب الطرفان على استقطاب الصحافيين والكتاب والمبدعين كل إلى جانبه، ومالوا إلى الجموح نحو توظيف الشعر والمقال الصحفي والمقابلات في الفضائيات والفنون والإعلام لخدمة أجندة الحرب، وتسخير الفنانين والشعراء لخدمة الدعاية للحرب، وتصوير كل طرف بأنه راية الحق وماعداها بباطل.
وبذلك وجد الكتاب والمفكرين أنفسهم في محنة مزدوجة قاسية، محنة الهم والحزن الشخصي والقومي علىما يجري بالبلاد، ومحنة الضغوط الهائلة التي تمارس عليهم لجعلهم جزءا من الآلة الحربية، أو تخوينهم وجعلهم هدفاً للبنادق والحملات الجائرة، هو الانحيازأو التخوين،هو الاستقطاب أو السباب، الجزرة أو العصا إذا مالوا أو اختاروا الحياد، فالحياد خيانة عند الطرفين المتصارعين والانحياز لطرف خيانة عند الطرف الآخر ومن يشايعه، والسكوت إضمارا للخيانة عند الطرفين، خيار الكتاب إذًاإما أن يكونوا جزءًا من هذا الجنون وإمّا أن يكونوا هدفاً لكل أنواع الجنون المعادي.
هذه الحرب مزقت النسيج القومي وشحنت الوجدان القومي بالأحقاد المتبادلة وأزكت النعرات القبلية والجهوية والعنصرية، واحتشدت ذاكرة المجتمع السوداني بمشاهد بشعة تمثل قمة في التوحش والبربرية والاستهانة بالقيم الدينية والإنسانية، وهدمت عصورا من التعايش السلمي بناها الأجداد بحكمة وحنكة وتقاليد حميدة.
وحين تحيط الهموم بالوطن ويحاصر المبدع ويجد نفسه بين خيار الصمت والموت كمدا، أو الجهر بموقفه والموت قصدا وعلنا فهو الضحية وهو الشهيد الحي بشتى الطرق، وهذا يفسر ما حدث للكتاب والمبدعين السودانيين خلال الفاجعة الوطنية الكبرى: فقد قُتل أكثر من 55 فنانا في السودان منذ اندلاع الصراع منتصف أبريل 2023 وهو إحصاء غير دقيق فالعدد أكبر بكثير من ذلك، من بينهم فنانون لقوا حتفهم نتيجة القتال (خارج نطاق القضاء عمدا أو خطأ) بفعل مباشر أو غير مباشر أو بسبب الحرمان من الرعاية الصحية أو التعذيب أثناء الاحتجاز، وفق موقع الجزيرة نت في مقال منشور في 28 نوفمبر 2024 استناداً إلى تقرير صادر عن المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام.
ومن بين الحالات الموثقة وفاة الشاعرة والمغنية شادن محمد حسين المعروفة باسم شادن فردود التي قتلت في 13 مايو 2023، وقتل الملحن والمغني حمدان أزرق في تفجير في أمدرمان، والممثلة المسرحية الرائدة آسيا عبد الواحد أرملة الشاعر الفيتوري التي توفيت ببحري نتيجة إطلاق نار عشوائي إبان الحرب، وكذلك توفي العازف والملحن إبراهيم ميكو، والملحن بشيرعبد المجيد متأثرين بإصابات لا يمكن علاجها لعدم وجود خدمات طبية، وتوفي عازف الإيقاع كامل حسن بسجن سوبا بالخرطوم في أغسطس 2024 بعد اعتقاله من قبل قوات الدعم السريع في مايو 2023.
وفجع الشعب السوداني برحيل عازف الفلوت والمؤلف الموسيقي حافظ عبد الرحمن أثناء الحرب، كما راح ضحية الحرب الفنان عركي مختارعضو فرقة عقد الجلاد الغنائية.
وكانت وفاة الموسيقي خالد سنهوري موجعة حيث وُجد ميتا في بيته في حي الملازمين بأمدرمان نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية، بعد أن عاش لأيام دون مأكل أو مشرب في ظل أوضاع صعبة بسبب القتال المحتدم بالمنطقة وتم دفنه أمام منزله، وتوفي الموسيقار محمد الحسن بابكر الشهير بالسنجك بمنزله بأمدرمان أثر دانة اصابته نتيجة قصف مدفعي، بعد أن ظل معتصما ببيته رافضا مغادرته، وهو خيار اختاره كثيرون ودفعوا ثمنه منهم الفنان أبوعركي البخيت والشاعر هاشم صديق الذي حمل علي عربة يجرها حصان كاروإلى مشفي لإنقاذه، ومن ثم إلى خارج البلاد حيث توفي في الإمارات بعد فترة قصيرة من جراء المرض والهم الوطني.
وتوفي كذلك الشاعر والأديب والصحفي كمال الجزولي أثناء الحرب بالقاهرة بعد وعكة صحية في يوم 5/11/2023، وتوفي الفنان الكبير محمد الأمين في12/11/2023، وتوفي الشاعر محمد المكي إبراهيم بالقاهرة إبان الحرب تحت ضغوط الحرب وأهوالها، وكذلك رحل الشاعر عبد الوهاب عبد الله شاعر أغنية اليوم نرفع راية استقلالنا في يوم 5 مايو 2023 بمدينة القضارف، وتوفي الدرامي محمد عوض عضو فرقة الأصدقاء المسرحية بالقاهرة في 24 أكتوبر 2023
وقد توفي في عام 2024 الموسيقار عمر الشاعر وشيع في صمت وهو هرم من أهرام الموسيقي السودانية امتد عطاؤه خمسين عاما قدم فيها روائعَ خالدة، وسبق رحيله رحيل الشاعر الصادق إلياس بعد معاناة مع المرض وانعدام الدواء والرعاية الصحية، وتوفي الشاعر عبد العزيز جمال الدين بعد نوبة صحية بسبب وفاة شقيقه بسبب الحرب في الخرطوم.
يختتم: اللوحة كبيرة والفقد كبير، والأحياء من المبدعين لازالوا يعملون في صمت في كل أماكن وجودهم لمقاومة طوفان الكراهية والعنصرية والتشرذم وتمزيق النسيج القومي، ولازالوا يحلمون بوطن متحد معافى ولحمة وطنية وقومية أساسها السلام والمحبة والتسامح والقبول بالآخر ودفن الضغائن بدلا من دفن الفضائل والبشر والقيم السودانية الرفيعة.
سينهض السودان من تحت الرماد، وتنمو الزهور فوق شواهد القبور المجهولة، وتحلق الحمائم في سماء السودان عوضا عن الطائرات المغيرة والمدافع وناقلات الجنود والصقور الجائعة، ستعود الطيور المهاجرة إلى أعشاشها،والأطفال إلى أحضان أمهاتهم،والبسمة إلى وجوه أمهات الشهداء وزوجاتهم وأحبابهم وتشتعل الحقول قمحا ووعدا وتمني، سوف تخرج القصائد وهي ترتدي أجمل الألحان وفساتين الزفاف البيضاء، سوف يتبسم الشهداء في المقدمة يرشون اللبن على ثياب الجمهور.
ستوأد الفتن في مهدها، وتعود الجلابية البيضاء الناصعة رسولا للمحبة والسلام، وتعود السيوف إلى أغمادها، وتموت الكلمات الغليظة على شفاه دعاة الحرب، وتحلق الكلمة والألحان واللوحات والروايات والقصص والأفكار والكتب والأناشيد والعصافير حرة طليقة أبية،لا تعرف التدجين ولاتنحني رقابها للبنادق ولا المشانق.
-
عباس طمبل عبد الله الملك: لا أظن أن من وظائف الأدب التعافي والتداوي، ومسح أثر شيء ما، إنما التوثيق في ظل الكتابة
ويقول الناقد السوداني عباس طمبل عبد الله الملك: تأثيرات النزاعات والتوترات المسلحة على النخب "ثقافية، سياسية" وعلى الوعي المجتمعي صراع الاستقطاب، والتجييش، والسعي لتكريس منهج دومغاتي متعصب لفئة ما، أو فئة، أو حزب، فكل فئة، أو حزب تسعى للظفر بالمكسب الأكبر، وتحقيق ذاك المكسب قد يتأتى على حسب مصلحة الفرد، والوطن الكيان في المجتمع المعني بالأمر..
ومن تداعيات النزاعات والتواترات المسلّحة على الرغم من قساوتها، الكشف عمن له مصلحة حزبية ضيقة مقدمة على مصلحة الوطن الكيان، وبالتالي المواطن المغلوب على أمره الذي يريد العيش الآمن، ولا يريد غيره بقدر ما توفر له من وعي، سواء أكانت فلسفة الحكم دكتاتورية، أو برغماتية نفعية، فهي لا تهمه..
ذو الوعي المبسط لا يريد من النخب الثقافية أو السياسية -وهي من تسوس عقله وتعيد تشكيل وعيه مستغلة حاجته كيفما تشاء- فالمغلوب على أمره لا يريد غير الحد الأدنى من متطلبات العيش بالتالي تداعيات النزاعات وتأثيرها عليَّ سالبية بكل التأكد وبلا شك..
ورغم قساوتها هي مادة جاهزة لتوظيفها في عمل أدبي، وبوجه عام لا أظن أن من وظائف الأدب التعافي والتداوي، والتطييب ومسح أثر شيء ما، إنما التوثيق في ظل الكتابة وفق المنهج المخصص لذلك، فمثلما استفاد ليو تولستوي من حروب نابيلون قد يستفيد آخر من حروب أخرى ويقوم بتوظيفها في عمل أدبي ما..
-
عصام الدين حسين كباشي د: أثق تماما أن الأدباء والفنانين سيقومون بدورهم بأفضل ما يكون لتعافي السودان
أما الكاتب عصام الدين حسين كباشيفيرى أن: الكاتب يتأثر ويؤثر في النسيج السياسي والاجتماعي فهو مواطن مثله وسائر المواطنين، ولكن للكاتب دوره في بلورة الأحداث وبثها كجرعات توعوية أو رسائل توجيهية أو رسائل نقدية، فهو يمثل صوت المواطن والمتحدث باسمه، والكاتب السوداني رغم التحديات قد قام بإيصال تلك الرسائل.
يقال:(لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم)، وقد مر السودان بالعديد من الحكومات الديكتاتورية القمعية، وكان الأدباء يستعملون طريقة الإيحاء، كانوا يضعون حبة الدواء على قطعة من لب الخبز ويطلبون من المواطن أن يضعوا قطعة اللب على الفم ويشربون الماء فتنزل القطعة وداخلها العلاج فلا يشعرون بمرارة مذاقها، ويكون للدواء تأثيره الفعال في إيصال الرسائل ومناقشة ومعالجة القضايا دون البوح المباشر بها.
بلا أدنى شك تعرض الكثير من الأدباء والفنانين بمختلف اختصاصاتهم للسجن والتعذيب وأحيانا القتل، فالطريق أمامهم لم يك معبدا بل مليء بالأشواك، ولكن تكللت مساعيهم بالنجاح والدليل على ذلك أن السودان مر بالعديد من الثورات المناهضة للحكم الديكتاتوري، فكانت ثورة أكتوبر 1964 ثم ثورة إبريل 1985 ثم ثورة ديسمبر 2019. ولا يزال الكفاح الثوري مستمر.
وقد انقسمت الأقلام، كلٌّ يكتب حسب توجهاته ومعتقداته، هناك أقلام تنادي باستمرار الحرب ويطلق عليهم الشارع لقب (البلابسة) وفي رأيهم أن السودان أمام عدو ونبت سرطاني خطير يجب استئصاله من جذوره، بينما في المقابل هناك أقلام تنادي بنبذ الحرب ونشر ثقافة الحوار والسلام، وبين هذا وذاك نشبت ازدواجية في الرأي العام بين مؤيد للحرب وممتعض منها. وهذا يدل على أن الأقلام المختلفة استطاعت التأثير على الرأي العام وقيادته.
في فترة اعتصام الثوارأمام القيادة، استطاع الثوار خلق نموذج للسودان الذي يجب أن يكون وكان الاعتصام عبارة عن حياة كاملة تحمل في طياتها كل المتناقضات نرى فوجا يصليوآخر يغني ويرقص، كان الحب هو ديدنهم، ظهرت مواقف جليلة في بث روح التكافل (لو عندك خت، لو ما عندك شيل) هذه الجملة فقط توضح حلم إنسان السودان وثقافته والذي يحلم به الثوار، لو عندك مال زائد ضعه في هذا الصندوق وإذا كنت محتاجا خذ من الصندوق، لعمري بهذه الجملة فقط يمكن أن يُبنى وطن.
وعن تأثر الحرب على الهوية الوطنية السودانية يقول: السودان حباه الله بالكثير من القبائل والتنوع الاجتماعي والثقافي، وقد شكل هذا الخليط لوحة جمالية وانصهرت كل القبائل في بوتقة واحدة، بعد اندلاع الحرب وتقهقر الجيش وتوسع الدعم السريع انفتحت شهية الكثير من المارقين واللصوص، فتوافدوا جماعات كثيرة وعاثوا في السودان الفساد وسُرقت كل مقتنيات المواطن، بل سعى العدو لطمس تاريخ السودان، حيث قام بتدمير المتاحف وسرقة وحرق المستندات ودور التوثيق، مما يعني أن هذا الاعتداء ممنهج ومدروس ومخطط له بعناية وذات خلفية استعمارية.
بلا أدنى شك أن الحرب أثرت تأثيرا عظيما جدا على إنسان السودان، فللمرة الأولى ينزح المواطن ويضحى لاجئ ويتجرع مرارة الذل، ولكن رغم ذلك لم يفقد إيمانه بالله أو بالوطن، بل من تأثير الحرب أن أضحى المواطن أكثر وطنية وحبا للوطن، والتمسك بهذه الخصال أضعف شوكة العدو ويكاد يكون فشل في مسعاه الخبيث وهو تقسيم السودان لدويلات وطمس الهوية السودانية وضخ مواطنون جدد من بعض دول الجوار واستباحة الأراضي والسكان.
أستطيع أن أقول أن الحرب جعلت المواطن أكثر تماسكا ووطنية من ذي سبق.
ويختتم موضحا كيفية أن يساهم الأدب السوداني في عملية التعافي بعد الحرب فيقول:يعول على الأدب والفن عموما أن يمتص صدمات الحرب وتأثيراتها النفسية السالبة وبدء رحلة البناء، بناء إنسان جديد قد تعلم الكثير من الدروس المستفادة من هذه الحرب اللعينة، ينتظر من الأدب والفن السوداني أن يبث روح الوطنية والقومية والتعايش السلمي وأن ننهض بالسودان ولا ندمّره، قد يظن أن الرحلة ستكون هادئة وانسيابية، كلا فالأدب والفن عموما سيخوض معارك من نوع آخر وأولها البناء، بناء وطن وبناء إنسان وبناء ديار وبناء مصانع، فالهدم أسهل من البناء، ولكن أثق تماما أن الأدباء والفنانيينسيقومون بدورهم بأفضل ما يكون، وستشهد الساحة نهضة أدبية تقود لنهضة عمرانية بإذن الله تعالى.
-
إبراهيم حسين آدم: الحرب كانت العلامة البارزة لازدهار الأدب السوداني
ويضيف الكاتب والروائي إبراهيم حسين آدم:أزمة الهوية السودانية بحر واسع لا حدود لها، أعماقها تتحدى كل الجِدال، معادلة فاقدة للمُعطيات، مما جعل حلها صعبًا، شكلت تلك الأزمة تحديًا كبيرا للكاتب السوداني، مما جعل في كتاباته نموذج لحل هذه المُشكلة، سواء أكان رواية، أو قصة، أو شعر، لكن ما زالت هذه المُشكلة هي عصية الحل.
مُنذ أن خرج الأدب السوداني إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مُناضلًا يُقاوم العديد من التحولات المُتسارعة والتحديات المُعاصرة إيمانًا منه بأن السودان تستحق أن يكون لها مكانًا ومكانة في درب الإبداع بشكلٍ عام والإبداع الروائي بشكلٍ خاص.
أن أول التحديات التي تُقابل الكاتب السوداني، هي لغة الكِتابة، فاللغة العربية الرسمية في السودان، ومن بين هذه اللغات المُتعددة يوجد أكثر من خمسمائة لهجة مميزة لكل القبائل السودانية.
أزمة الهوية تشكل تحدٍ كبير امام الكاتب السوداني، وهذا التحدي هو امتداد للأزمات المُتماثلة للسودان مُنذ قبل استقلال السودان في يوم 1 يناير 1956م، الكاتب السوداني جُل كِتاباته واضعًا في الاعتبار أن هذه المُشكلة لابد ان تُحل، أن لن تُحل سيظل الصِراع مُستمرًا.
يوضح: الأدب السوداني في ثـورة مُتجددة، وهذه الثورة، امتداد للثورات السياسية في السودان بدءٍ ثورة 1958م، ثورة 1964م، ثورة 1985م، ثورة 1989م، ثورة 2019م، في ظل كل ثورة الإبداع السوداني يرى النور، بحيث الكِتابات في ظل الثورة تتميز بالروح الثورية، والصِدام المُباشر مع القضايا، لذلك لعب الأدب دورًا مُهما في التغيير على مستوى التاريخ السوداني.
لا يُمكن أن يكون هناك تغيير دون أن يكون هناك وعي، و هذا الوعي يتمثل في الأنشطة والفعاليات المجتمعية سوء كان فنًا أو شعرًا أو ثقافةً، أو مسرحًا " أعطيني مسرحًا أعطيك أُمة" أو رياضةً و هذه أدوات فاعلة في صناعة التغيير و لعل ما سبق له ارتباط وثيق بالأدب.
يعد الأدب أكثر تأثيرًا في الجوانب الإنسانية و صادقًا في التعبير عن القضايا السياسية و الاجتماعية، والأديب هو صاحب الأثر داخل المجتمع و يُعتبر من المثقفين، أي من الذين يدركون المشهد ويعبرون عنه بأبسط المفاهيم، وهذا نستدرك أن الأدب، للأدب دور هام في صناعة التغيير، و ظهرت تاريخيًا من المساهمة الكبيرة في الثورة الفرنسية، التي هي يمكن يقال عنها الثورة الأم، ساهمت فيها كل فئات المجتمع، لتحقيق الغايات و الأهداف، والشعر والمسرحية من وسائل الغايات كما يقال بالحركة الفكـــرية.
على السياق السوداني، السودانيين صنعوا ثورات و كان للكتاب و المؤلفين دور عظيم في نجاحها و أيضًا الفنانين كانوا الأرواح الحية للثورة، السودانيين صنعوا ثلاث ثورات شعبية بدءًا من ثورة أكتوبر " تشرين الأول 1964 م" و هي الثورة الأولى في تاريخ القارة الأفريقية، و من ثم ثورة أبريل 1985 أطاحت بالرئيس جعفر نميري، و من ثم ثورة ديسمبر المجيدة الأخيرة، هذه الثورة تلاحم الشعب من أجل كلمة واحدة هي إزالة كافة التشوهات، و بناء سودان جـــديد قائم على الحرية و السلام و العدالة و هذا التلاحم و الهوادر البشرية دلالة على أن الشعب أمتلك الوعي.
هذه الثورات كان الشريان الرئيسي له الهتافات المناهضة للسياسات الإقصائية في مفهومها مفاهيم لها أبعاد حقيقية كمثل " الشعب هتف، يا أكتوبر الأخضر"
يا أكتوبر الأخضر
باسمك الظافر ينمو
في ضمير الشعب
هنا كان الوريد الذي ينقل للثوار الدافع المعنوي لمواصلة المشروع، إذًا أن الفن هو روح التغيير و الثورة.
ثورة ديسمبر المجيدة، تضافر الشعب من كل بقاع الجغرافية السودانية من أجل سودان جديد، في مفادها الحرية و السلام و العدالة و هذا المثلث، قد رسمه الجميع بزوايا مختلفة، حيث المختلف سياسيًا و أثنينًا و عرقيًا، توحدوا و كان البيت الكبير هو القيادة العامة للقوات المسلحة، الشرق، الغرب، الشمال، الجنوب، كانت لوحة جميلة رُسمت السودانية، من أجل الوحدة الوطنية.
في ثورة ديسمبر الدور الأكبر كان للفنانين، و الشعراء و الكتاب و كل عن حدا يعبر عن الثورة و المشروع الوطني، حيث كانت الكنداكة آلاء صلاح هي رمزية الثورة النسائية و كلمة ثورة هي مؤنث.
الثورة أُنثي، حيث هتفت بكلمات ثورية وجدت قبولاً من كل الحاضرين، بينما الليالي الثورية كانت حاضرة حيث تغني أحمد أمين بكلمات الشاعر البشري ود البطانة ( دجينا زي ناس المســـيد) هذه الأغنية عبرت عن واقع أليم، و هذه الأغنية الجميع يتغنى به، إلى أن كان يومًا كانت افتتاحية لجلسة، بحضور السيد رئيس الوزراء الدكتور/ عبدالله حمدوك.
اللوحة الأكثر جمالًا رسمها أبن إقليم دارفور (صابر عبدالرحمن الدارفوري) من منصة إعلام الهامش، حيث تغني بأغنية ثورية حملت كل ألوان الطيف السوداني من دون أن يكون هناك مسافات ذات بعد سياسي و تفاوت اقتصادي حيث (سوداني سوداني من قلب إفريقيا)، و اللوحة النموذجية رسمتها ميارم دارفور عندما أتو، و هن يحملن قدح الميارم، حيث أغنية (بلد بتكسي الكعبة في الجمال جننا، جمال دارفور جنة) كانت أجمل من يتغنى بها ميارم دارفور.
الأغنية التاريخية، (أرض الخير أفريقيا مكاني، أنا سوداني) الجموع البشرية الهادرة من السوق العربي إلى القيادة كانوا بصوتٍ واحد، و دموعهم تزرف كالمطر، و هذا يؤكد لنا أن الوطن غالي و بالضرورة أن نتكاتف جميعًا من أجل هذا الوطن المعطاء.
و هذا واضح جدًا يؤكد أن الأدب له دور كبير في صناعة التغيير، و لا يمكن أن يكون تغيير دون وجود للمثقفين، المثقفين هم وقود الثورة، الدولة السودانية قبيل الاستقلال كان للمثقفين دورًا هامًا في النضال من أجل استقلال هذا وكانت للجمعيات الأدبية دور مهم في استقلال السودان، كمثل نادي الخريجين و جمعية اللواء الأبيض و غيرها من الجمعيات الأدبية.
الحرب كانت العلامة البارزة لازدهار الأدب السوداني، حيث شكلت الحرب بيئة لنمو الأدب السوداني، برز الكُتَّاب بأقلامهم السيالة، تعبيرًا عن حالهم في ظل هذه الحرب.
|