القاهرة 11 فبراير 2025 الساعة 10:09 ص

قصة: عمر أبو القاسم الككلي
لم تستقبله رائحة الطعام التي كانت، في المرات السابقة، تلاقيه على الباب، وحين يفتح له الباب ويدخل يقول لزوجة صديقه إن رائحة طعامها تفوح في الشارع، مسيلة لعاب المارة. قال: لعلها أتمت الطبخ مبكرا.
ضغط زر الجرس، فسمع صوته الأجش ينساب مرتطما بضفتي السقيفة الضيقة متوزعا وسط المنزل غير المسقوف لينحل في موجة مضطربة من صخب الكلام غير الواضح وإيقاع خطوات مسرعة، ثم ران صمت.
آثر الانتظار على أن يعيد ضغط زر الجرس. سمع، من جديد، وقع خطوات متعجلة ثم صوت الزوجة قلقا متوترا:
- من؟!.
- أنا، صالح.
فتحت الباب بسرعة. كانت هيئتها مشوشة، مرهقة، وبدت على وجهها آثار بكاء وعنف. رفعت صوتها:
- أهلا صالح. كيف حالك؟ كيف حال الأسرة؟
ثم هامسة متلفتة في وجل:
- جئت في وقتك! أدرك خليل. لا أدري ما الذي أصابه. منذ يومين لم ينم ولم يتركنا ننام. يضربني ويضرب الأطفال ويتحدث عن الخيانة.
كان مذهولا فلم يعرف بماذا يرد. قال:
- ماذا؟!
تداركت الزوجة:
- ليس الخيانة الزوجية. خيانة أخرى. لم يحددها.
دخل، فأغلقت الزوجة الباب خلفه هامسة:
- ربما تلبسه جن!
ثم بصوت مرتفع:
- خليل في الحجرة الداخلية، ينتظرك. تفضل.
كان المنزل كله مضطربا، على خلاف العادة حيث يجد الزائر نفسه محاطا بنظافة ناعمة بشوشة ونظام دمث متحفظ.
نقر، بحذر وترقب، الباب المغلق، فانفتح، بعد برهة، كاشفا عن وجه خليل بعينين منفتحتين على سعتهما، وجفنين منتفخين. ابتسم ابتسامة من نوع موارب مفسحا له مجال الدخول:
- أهلا وسهلا بالصديق العزيز. أهلا وسهلا. يبدو أنك مركب من الكوارتز!
حاول التصرف كما لو كانت الأمور في حالتها العادية. قال بعد أن جلس على كرسي من النوع الذي يستخدم لغرف الجلوس:
- لماذا الكوارتز تحديدا، ليس الماس، مثلا؟
- لأنك تحضر في مواعيدك تماما. لك دقة ساعات الكوارتز.
- طبعا يا رجل!. تريدني أن أتأخر فيضيع عليَّ الغداء.
قال بنفس الابتسامة الغامضة:
- لا؟! جميل. خفة الدم حاضرة دائما.
قال محاولا خفض التوتر:
- دقة المواعيد ناتجة عن الكوارتز، فبأي معدن ترتبط خفة الدم؟
- لا أدري. لكنه معدن خسيس، بكل تأكيد.
ضحك الضيف مداريا الإحساس بالإهانة، رادا في ارتباك:
- يا رجل! دمك خفيف فعلا!
فقط، عندما لفظ آخر حرف من جملته تبين له أنه قد رد على الإهانة. أراد أن يعتذر، لكنه خشي أن يزيد بذلك الوضع سوءا.
تغيرت سحنة الصديق وانتبه الضيف إلى توتر يده التي كانت تمسك بمنفضة السجائر، واستعد للطوارئ. دخلت الزوجة لتسأل:
- ماذا تشرب؟.
قال الضيف:
- لا شيء. شكرا. ماء فقط، لو تكرمت.
- أحضري له ماء. ريقه ناشف.
قالت الزوجة مخاطبة الضيف:
- حاضر.
ثم خرجت.
حضرت للضيف فكرة. قال:
- عن إذنك لحظة. أريد الحمام.
قال صاحب البيت:
- خذ راحتك.
والضيف في باب الحجرة، أضاف:
- معنا وقت!
لم يفهم الضيف المقصود وآثر عدم الاستفسار. إلا أنه تأكد من جدية الموقف.
أثناء عودته من الحمام نصح الزوجة بمغادرة المنزل هي والأطفال بأسرع ما يمكن.
ردت الزوجة:
- من غير المعقول أن أتركه وحده وهو بهذه الحالة.
- سأبقى معه إلى ان أطمئن على حالته. سأتدبر الأمر. قد أستعين بأصدقاء آخرين.
- لابد أن أظل إلى جانبه.
قال الضيف:
- على الأقل أبعدي الأطفال.
سكتت. ثم قالت:
- ثمة سكين مفقودة. أظنه أخفاها عمدا. لعله يريد أن يقتل نفسه.
قال الضيف:
- أصبح ضروريا أن تذهبي أنت والأطفال. الذي يريد أن يقتل نفسه غالبا لا يفعل ذلك بسكين.
عاد الضيف إلى الحجرة. كان صاحب المنزل يدخن جالسا على كرسي جلدي قرب منضدة تتبعثرعليها كتب ومجلات وصحف.
جلس الضيف في مكانه الأول وانتبه إلى أن صديقه ينظر إليه بعينيه المتوترتين نظرة قاسية. قال الضيف مداريا ارتباكه:
- مرت فترة طويلة منذ أن جلسنا آخر مرة.
قال صاحب المنزل:
- يبدو أنه قد ولت الأيام التي كنت تحرص فيها على رؤيتنا ومواصلتنا.
قال الضيف:
- هذا كلام لا أعتقد أنك تقوله على محمل الجد. أقبل عتبك بالطبع. أنت تعلم. تستنفد الواحد منا أحيانا انشغالات لا معنى لها، ويقع أحيانا أسير شبكته هو ذاته فيرتبك مزاجه ولا يجد من التناغم الداخلي ما يسمح له بمواصلة الأصدقاء.
قال صاحب المنزل:
- لم يقل أحد يوما أنه تعوزك التبريرات.
ضحك الضيف:
- لست أدري إن كان هذا هجاء أم مديحا. أنت تعلم أن التبريرات لا تعوز أحدا. لكني غير محتاج إلى تبريرات.
دخلت الزوجة حاملة سفرة عليها كوبان من الشاي وآنية السكر وملعقتان صغيرتان، إضافة إلى إبريق ماء وكأسين فارغتين ومنشفة يدين. قالت بعد أن وضعت السفرة على المنضدة الخفيضة:
- وضعت به سكرا. لكنه ربما لا يكون كافيا.
قال الضيف:
- شكرا.
- العفو.
قالت المرأة. ثم موجهة الحديث إلى زوجها:
- أريد أن أذهب أنا والصغار إلى بيت خالتي.
قال الزوج ناظرا إليها بهدوء:
- استئذان أم إعلام؟!.
ردت الزوجة محاولة الابتسام وممددة الكلمة:
- استئذان!
قال الزوج:
- في جميع الأحوال، لا أحد يمنعك.
سألت الزوجة:
- هل تحتاج شيئا؟
قال الزوج:
- أستطيع أن أتدبر أمري.
خرجت الزوجة.
تذوق الضيف الشاي فوجده ناقصا سكر، كما أنه لم يرض على درجة نضجه. لكنه قرر شربه. أضاف إليه نصف ملعقة سكر وحركه ثم تذوقه من جديد. لم يضف إليه السكر مرة أخرى. كان يسمع، في هذه الأثناء، ضجيجا متكتما وحركة مستعجلة في المنزل. لم يمسس صاحب المنزل شايه. ارتشف الضيف رشفتين متتاليتين واحتفظ بالكوب في يده. فتحت الزوجة الباب مرة أخرى وقالت دون أن تدخل:
- نحن ذاهبون!
هز الزوج رأسه ولم يتكلم. دخل الابن الأكبر، حوالي الحادية عشرة، مكفهر الوجه مرتبكا فسلم على الضيف أولا ثم اتجه إلى أبيه وعانقه باكيا:
- مع السلامة يا بابا.
وضع الأب يده التي لم تكن تمسك بالسيجارة خلف ظهر ابنه:
- مع السلامة.
قال الابن:
- لعلك تحتاج شيئا؟
قال الأب:
- سلامتك.
قال الابن:
- انتبه إلى نفسك!
هز الأب رأسه دون أن يتكلم. كانت الأم تتابع المشهد في صمت. وعندما انتهى الابن من توديع أبيه، همست، بصوت مغموس في العبرة، مفسحة له مجالا للخروج:
- هيا.
ثم موجهة الكلام للرجلين:
- تركت لكما بيضا مقليا ويوجد جبن وزيتون وتن وزبادي ومشروب. يوجد لحم أيضا، يمكنكما قليه إن أردتما. مع السلامة.
ثم أغلقت الباب.
سمعت في الحجرة المقفلة، خافتة، أصوات حركة الخروج وانغلاق باب المنزل.
ران الصمت على المنزل متكثفا في الحجرة التي يجلس فيها الرجلان. امتص صاحب المنزل نفسا طويلا من سيغارته ولم ينفث من الدخان إلا قليلا، ثم تناول جرعة من الشاي البارد وظل ينظر إلى الفراغ. رشف الضيف من شايه رشفة واستغل شرود صديقه ليتأمله بحرية، فلربما استشف أوفق الطرق للتصرف. كانت نظرات الآخر الساهمة قاسية ومرهقة وكان جسده يبدو مشدودا، ولكن دون أن يكون متململا.
لم يكن هكذا في السابق.
كان دائم الانبساط والحيوية وعلى قدر واضح من المرح. فما الذي غيره هكذا فجأة. المدة التي لم يلتقيا فيها قصيرة لا تبلغ الثلاثة أشهر. تذكر أنه التقاه، قبل أسبوع مضى، في أحد المحلات هو وزوجته. كان قد انتبه إلى الزوجة أولا التي سرت برؤيته ونادت زوجها الذي كان في زاوية أخرى من المحل. فجاء مرحبا. يتذكر الآن أنه تجاهل، آنذاك، شعورا بأن الترحيب كان يخلو من حميمية اعتادها. دعته الزوجة إلى أن يأتي للغداء عندهم في أحد الأيام، وهو أمر كان يحدث على فترات متباعدة، فتم الاتفاق على اليوم.
قرر الضيف المغامرة:
- لا تبدو كعادتك!
نظر صاحب المنزل إلى الضيف نظرة مركزة وطيدة ثم أتى بحركة اشتركت فيها شفتاه وعيناه ورأسه وكتفاه يمكن تفسيرها على أنها: لست أدري. جائز. امتص بعدها سيجارته محررا الدخان بعد قليل:
- عندما كنت أبدو كعادتي، أي على ما أنا عليه، وكنت أعتقد أن الآخرين، بعض الآخرين، يبدون هم أيضا على عادتهم، كانوا في الواقع يبدون على غير ما هم عليه. كان لهم ظاهر وباطن. وعندما اكتشفت ذلك قررت، لا أن أبدو على غير عادتي، وإنما أن أغير عادتي.
صمت صاحب المنزل مستقرئا تأثير كلامه على الضيف، وصمت هذا الأخير لازدياد شدة دوامة الغموض والمفاجأة.
لم يجد الضيف بدا من المغامرة بمزيد من الاقتحام:
- دعك من التهويمات ووضح الأمر. وإلا فسنظل على هذا الوضع حتى الصباح.
امتص صاحب المنزل سيغارته مصة أحرقت ما تبقى منها. نفث الدخان وهو يسحق عقبها في المنفضة. تجرع ما تبقى من الشاي في كوبه. نظر نحو الضيف نظرة راسخة:
- لا، لا. لا أستطيع أن أظل حتى الصباح على هذا الوضع.
اتخذ في كرسيه وضعا مريحا. شبك يديه على حجره:
- لا يحتاج الأمر إلى إيضاح. ولكن ليكن، مادمت تريد توضيح الواضح. مازال لدينا وقت.
صب في كأسه بعض الماء. تجرعه متمهلا. عاد إلى وضعه السابق:
- اسمع، يا سيدي، الحكاية من أولها: كانت زوجتي وأبنائي قد سافروا للبقاء مدة عند ذوي زوجتي وبقيت في المنزل وحدي. بعد أيام من بقائي وحدي كانت قطة تتسلل إلى المنزل في وقت القيلولة، الوقت الذي أكون فيه مستغرقا في نوم ثقيل، وتتبرز أمام الحجرة التي كنت أنام بها. الغريب أنها كانت تتبرز دائما في نفس النقطة وأن برازها كان دائما سائلا وذا رائحة كريهة نفاذة لا تطاق تجعلني أستيقظ من عز نومي، وتكون هي قد فرت. لم تكن تفعل ذلك يوميا، بل على مرات متباعدة غير منتظمة، ما جعلني افترض في كل مرة أنها المرة الأخيرة. حاولت الترصد لها لقتلها ولكني كنت دائما أضطر إلى النوم قبل أن تأتي. وكان عليّ أن أتساءل: لماذا اختارت هذه القطة منزلنا؟ ولماذا تأتي في موعد معين تقريبا؟ لماذا تلتزم بالبقعة ذاتها؟ ولماذا تكون مخلفاتها دائمة سائلة وبالغة العفونة؟ وكيف اكتسبت، أصلا، عادة إفراغ معدتها في موعد يكاد يكون ثابتا؟ أسئلة تطرح نفسها كما ترى، وأنت رجل منهجي ومن دعاة التفكير العلمي، وتؤشر نحو فرضيات معينة.
سأل الضيف:
- من مثل؟
قال صاحب المنزل:
- من مثل!
ثم تناول جرعة شاي. أشعل سيغارة. سحب منها نفسا عميقا ناظرا، وهو يحرر جزءا من الدخان الذي سحبه، في عيني الضيف مباشرة:
- أقول لك من مثل ماذا. من مثل أن القطة لا تتصرف من تلقاء نفسها كقطة. فسلوكها هذا يتنافى مع ما نعرفه من سلوك القطط. الجميع يعلم أن القطط تبحث، عندما تريد التبرز، عن مكان به تراب فتحفر فيه قليلا ثم تتبرز في تلك الحفرة و تغطي برازها. فلماذا تأتي هذه القطة من مسافة يعلمها الله لتتبرز في نقطة محددة لا تتوافر فيها المواصفات والمعايير المعتمدة قططيا؟!. لا بد أن وراء ذلك تدبير محكم ومخطط لا يمكن أن يكون قططيا، اللهم إلا بالمعنى المجازي. الأمر الذي مفاده، ببساطة، أن هناك من درب القطة على ذلك ويبرمج اشتغال جهازها الهضمي ويحضرها إلى مكان قريب من المنزل ثم يطلقها، وبعد أن تنهي"مهمتها" تعود بنفسها.
أخذ جرعة ماء أخرى وسحب نفسا آخر من سيغارته، ثم سأل الضيف:
- هل لديك اعتراض؟!.
زم الضيف شفتيه في صمت. جرع ما كان بكأس الماء التي بقربه. ارتشف رشفة متبقية في فنجان الشاي. قال:
- اعطني سيغارة!
قال صاحب المنزل:
- عهدي بك لا تدخن!
ثم ألقى إليه بسيغارة قائلا:
- لكني لم أعد أستغرب تغير البشر الفجائي.
تلقاها الضيف. وضعها في فمه. توقع من الآخر أن يشعلها له. لكنه لم يفعل. نهض من على كرسيه ثانيا جذعه إلى الأمام. مد يده وتناول الولاعة من على المنضدة التي يجلس إليها صاحب المنزل. أشعل سيغارته وسحب منها نفسا لم يتجاوز دخانه فمه ثم نفثه.
قال صاحب المنزل:
- أنتظر إجابة!
قال الضيف:
- عرضك محكم وتبدو فرضياتك متماسكة. ليس بوسعي، الآن على الأقل، معارضتها.
سحب نفسا آخر من سيغارته ونفث دخانه:
- كل ما يمكنني قوله الآن هو أنه ينبغي، في مثل أمور بهذه الخطورة، تبني أقصى الحذر والتريث.
قال صاحب المنزل:
- دائما لا تعوزك النصائح!
حاول الضيف أن يقحم شيئا من المرح:
- ولماذا تريدها أن تعوزني؟.
تجاهل صاحب المنزل المحاولة قائلا:
-لم تنته الحكاية. أم لا تريد أن تسمع؟!.
-أبدا. أريد أن أسمع.
أكمل الآخر:
-لقد تريثت فعلا. حدثت هذه الأمور، أول ما حدثت، منذ سنتين. في غياب الأسرة كما قلت لك. بعد أن عادت الأسرة توقف الأمر تماما، طيلة أكثر من سنة. عندما غابت الأسرة منذ أشهرفي هذه السنة. تكرر الأمر مجددا.
سحب نفسا من سيغارته... أطفأ العقب بقوة في المنفضة:
- وكان لا بد من طرح سؤال بسيط: لماذا لا(أو، بالأحرى، لم) يحدث ذلك إلا في غيبة الأسرة؟!
صمت قليلا، ولم يعلق الضيف.
- المهم. في المرة الأخيرة نجحت في تغيير مواقيت نومي وظللت أترصدها. باختصار، ضبطتها وقتلتها. وكانت المفاجأة القاصمة.
صمت صاحب المنزل، فاضطر الآخر إلى أن يسأل:
- ماهي هذه المفاجأة.
استمر صاحب المنزل في الصمت. ثم قال:
- ماهي المفاجأة!
ملأ كوب الماء من الإبريق. شرب معظمه:
- المفاجأة، يا سيدي، أن هذه القطة كانت لنا. كانت عندنا منذ أن كانت صغيرة واختفت فجأة ونسيناها، أو بالأحرى نسيتها أنا.
قال الآخر:
- لكن القطط تتشابه كثيرا. لا يستطيع أحد أن يجزم بأنه متأكد من تعرفه على قطة بعد فراق سنوات.
قال الآخر:
- "فراق سنوات!". سخرية لا بأس بها!
قال الآخر:
-لم يكن قصدي السخرية.
قال الآخر:
- المهم. لديّ دليل على أنها هي. وهو أن هناك أثرا لكيٍ صغير فوق منبت ذنبها، كان قد أحدثه بها أحد أبنائي، وقد وجدته.
سكت بعد توقيعته الأخيرة، وظل الآخر واجما. أطفأ سيغارته بعد أن سحب منها نفسا أخيرا، ثم قال:
- أظن أن الأمور صارت واضحة!. أخذت القطة من هنا بناء على تخطيط وتمت مؤالفتها في مكان آخر، عودت، عبر عملية منظمة صبورة فيما يبدو، على التبرز في هذه النقطة بالذات، يتم، بطريقة ما التحكم في موعد تبرزها ونوعية برازها، يجاء بها إلى نقطة قريبة من هنا قبيل الموعد وتطلق، فتجيء إلى هذا المنزل الذي كانت قد تربت فيه وتعرفه وتعرف منافذه. هل هناك تفسير آخر ممكن، حتى وإن كان أقل إقناعا؟
زم الآخر شفتيه وحرك يديه:
- ماذا أقول؟!
- لم يعد بإمكانك قول شيء. تجاوزت الأمور تلك النقطة. لا بد من الاعتراف.
أحس الضيف، بشكل مؤكد الآن، أن صاحب المنزل كان يحاول، منذ أن وصل، أن يبلغه رسالة مبطنة ما. "لا بد من الاعتراف". الاعتراف بماذا؟ أن الوقائع والاستنتاجات صحيحة؟ أم بشيء آخر أخطر؟.
نهض صاحب المنزل متثاقلا:
- عن إذنك. دقائق.
- تفضل.
سار بضع خطوات حتى وصل الباب، ثم استدار مواجها له سادا الباب بقامته الطويلة وبنيته العريضة القوية:
- خلال هذه الدقائق القليلة خذ راحتك. لعلك تريد أن تكتب شيئا!
قال الآخر:
- أكتب ماذا؟.
- لست أدري!
ثم:
- وصيتك، مثلا!
وضحك ضحكة متوترة:
قال الآخر محاولا إخفاء قلقه:
- إذا مت يمكنك أن تسدد ديوني.
ذهب الآخر دون أن يعلق.
أمعن التفكير في الحالة. يبدو أن الوضع شديد التعقيد ولا يمكنه أن يفعل إزاءه شيئا، كما لا يستبعد أن يكون هناك خطر من نوع ما يمكن أن يطاله هو شخصيا. استغرب التحول المفاجئ الذي ظهر على صديقه. حاول التفكير بسرعة في القيام بتصرف متزن. لقد وعد الزوجة بالتصرف بشكل إيجابي.
عاد الآخر حاملا منشفا صغيرا يجفف به يديه. علق المنشف على يد الباب وجلس على كرسيه:
- كنت أتوقع أنك ستخرج!
قال الضيف:
- ولماذا أخرج؟!. ودون أن أقول لك؟!. لقد جئت من أجل رؤيتك. مضت بضعة أشهر دون أن نلتقي.
- كنت أعتقد أن الأمر انكشف لك!
- أي أمر؟!.
قال الآخر:
- أي أمر؟! ماذا كنا نخرف منذ الصباح؟!
قال الآخر:
- أنا لم أكن أخرف!
قال الآخر:
- معك حق! أنت لم تكن تخرف! أنا من كان يخرف، وأنت لم تفهم مدلول هذا التخريف.
ثم نهض واقفا:
- الآن أفهمك.
أدار للآخر ظهره. ركع على ركبتيه باتجاه المنضدة مدخلا رأسه تحتها. فك من سقفها شريطا لاصقا وتناول شيئا. وقف. استدار ليكتشف الآخر أنه قد استل سكينا طويلة. ظل واقفا قابضا بيده المدلاة على السكين:
- كنت أتمنى أن تكون قد حدست الأمر وخرجت. أما وأن نباهتك قد خذلتك، مثلما تعودت أنت، فيما يبدو، أن تخذل الآخرين، فلا حيلة لي في ذلك.
رفع السكين متحسسا حدها بأصابع يده الأخرى:
- لم تفهم أني قد اكتشفت المؤامرة!
ظل الآخر صامتا.
- لا بد أن تدريب القطة على التبرز في المكان المحدد من المنزل قد تم بموافقة زوجتي. ولا يوجد شخص يمكن أن يقنعها بذلك سواك.
قال الآخر:
- ولماذا نفعل أنا وزوجتك ذلك؟ ولصالح من؟!
قال الآخر وهو يتقدم قليلا:
- هذان سؤالان تجيبان عليهما أنتما. ليست هذه مهمتي.
وجد الآخر الجرأة ليقول:
- ما دمت قد أجبت على الأسئلة السابقة فلماذا لا تجيب على هذين؟.
- يهمني المجرمون وليس دوافع الجريمة! كما يهمني أن ينال المجرمون جزاءهم.
أشرع السكين، فلمع نصلها على ضوء شمس ما بعد الظهيرة الراشح من قماش ستارة النافذة الأبيض. نهض الضيف مرتعبا:
- لا أحب هذا النوع من المزاح!.
- مزاح؟ تقديراتك تخطيء أحيانا.
- تعقل يا خليل! تعقل يا رجل!
لكن الآخر شرع يتقدم بقامته الفارهة العريضة في الجلباب الرمادي السابغ بعينين جاحظتين محمرتين تشعان قسوة وسخطا. لم يلح للآخر مجال للهرب. أي اشتباك جسدي سيخسره لا محالة. وما من معنى للصراخ.
- هذا غير معقول يا خليل! تعقل أرجوك!
لكن يبدو أن الآخر لم يعد يسمع. ظل يتقدم، ببطء شديد، مركزا بصره علىجسد العدو.
انتاب الضيف شعور طاغ مباغت بعبثية الحياة وألاعيبها فقرر الارتماء في العبث. اعتدل في وقفته رافعا رأسه، وأغمض عينيه منتظرا الطعنة أو الطعنات، وكأنه كان، منذ زمن بعيد، يتخيلها، يحلم بها، يتمناها، يتوقعها، يترقبها، ينتظرها، يشتهيها...
وها هو يتلقاها.
|