القاهرة 19 يناير 2025 الساعة 02:35 م

بقلم: د. حسان صبحي حسان
تنطلق غائية الفن كمحفز فكري تنطلق نحو التعبير عن المقدس السامي الذي يقبض على الحقائق عبر تحرير الذات، واستحضار المشاعر، واستنهاض نواميس الروح (لتمثيل ما يجيش في النفس تمثيلا عينيا مشخصا- والكشف عن حقيقة الموجود)، فالفن تقرير حقيقة، لا تتجلى فيه عبقرية الفنان وخصوصيته في النقل الأمين للواقع، وإنما تنحو العبقرية في التعبير عن الواقع بعمق، والدفع بالمتلقي إلى دائرة التذكر والنستولوجي والتفاعل الذي بموجبه يتم الانزلاق نحو تأويل مؤسس على تصوير العالم الروحي للإنسان، والعلاقة التي تنشأ خلال التفاعل مع العالم كنشاط فكري إبداعي، يثري الوجدان ويحفز التأمل والتفكير والاستجابات العاطفية، والتكثيف الجذري لفهم العالم.
وفي معادلات التناظر بين التجريدي الخالص والتعبير الحر، جاءت اشارات" كاسيرر" لتعلي الفن كلغة للتعبير وتفسير الواقع، وترجمة بالحدس بالصور الحسية لا بالفكر، واحتفت تصورات "هيجل" بأن كل ما هو عقلاني واقعي- وكل ما هو واقعي عقلاني، واحتفت مثاليته من منظورين، الأول: بأن الواقع في جوهره عقلي أو روحي، وأن العالم المادي هو مجرد مظهر من مظاهر العقل أو الروح)، والثاني: بأن الخيال هو نشاط خلاق ينطوي على عطاء وحس، يمكننان الفنان أن يعقل الواقع القائم، ليولد استرسال بصري وتأليفات فلسفية يتحول فيها الفنان إلى رحاب المتخيل وتأسيس صدى للعالم والواقع المعتاد.
-
اشراقات النورانية عند الفنان " مصطفي الفقي":
في وداع مؤثر، وعبر تحية تقدير وإجلال للأكاديمي والفنان المثقف الفيلسوف الفذ، الذي وهب أكثر من نصف قرن من عمره لنحت حالة فنية مكينة، حمل الفنان " مصطفي الفقي" عبق وزخم البيئة المصرية فوق اكتافه وداخل جوانياته، ودشن اللبنات الأولى في هيكلية المحتفى البصري المصري، ليعيد تشكيل عناصر خطابات البصرية بأسلوبية فنية شديدة الخصوصية، مع مدلولات فاعلة تتسق في توازي مع الهوية المصرية والموروث الشعبي، وحياة المصريين وطباعهم في بيئات الحضر والقرى والأماكن الشعبية الدافئة المشحونة بالأجواء الروحانية، وتشخيص الانسان البسيط داخل بيئات خلابة تؤطرها النورانية النابضة من كتلهم الراسخة واشراق المحيط المكاني والزماني.

تخرج الفنان "مصطفي الفقي" من بكالوريوس كلية الفنون الجميلة قسم التصوير جامعة حلوان، عام 1964، ثم حصل على درجة الماجستير من كلية الفنون الجميلة 1974، ثم درجة الدكتوراة في التصوير من روما - إيطاليا 1979. وله العديد من العضويات، في نقابة الفنانين التشكيليين، وجمعية التعاون المصري الإيطالي بروما، وجمعية خريجي الفنون الجميلة بالقاهرة، وشغل العديد من المناصب مثل، عضو هيئة التدريس وأستاذ بقسم التصوير بكلية الفنون الجميلة جامعه حلوان، ووكيل للكلية لشئون التعليم والطلاب.
وانضم للمحتفي البصري بمصر منذ 1964، حيث أقام عدة معارض خاصة بمصر وايطاليا والسعودية، معرض بجاليري (ضى) بالمهندسين نوفمبر 2017، ومعرض (ذكرى المكان) بقاعة بيكاسو بالزمالك أكتوبر 2018، ومعرض (هديل الحمام) بقاعة (الباب - سليم) بمتحف الفن المصري الحديث بدار الأوبرا المصرية ديسمبر 2019، ومعرض بقاعة أفق بمتحف محمد محمود خليل وحرمه - ديسمبر 2024. وشارك في العديد من المعارض الجماعية الدولية الخارجية، مثل: بنيالي القاهرة الدولي الخامس 1994، وبينالي الشارقة للفنون التشكيلية 1993، وملتقى الأقصر الدولي الأول للتصوير بالأقصر 2008، ومعرض الفنون التشكيلية ضمن فعاليات المهرجان الثقافي الأفريقي الثاني بالجزائر- يوليو 2009، والمعرض الثالث للفن المصري المعاصر بليبيا، واقام عدة معارض خاصة بمصر وايطاليا والسعودية، ملتقى جسر- بقاعة (الصيرفى مول) بجدة - السعودية مايو 2010.

ففي محاولات تفسير الهمس والسكون والصخب، الذي يطفو على سطح شروحاته الفنية، نتلمس تجسيد لوعي حسي بالأبعاد الفضائية، والاحتشادات اللونيه والشكلية المكثفة والبنائيات المفعمة، جاءت أعماله الفنية كإشراقات تؤسس لوجهات فكرية ومضمون الحقيقة، وتلاقح بين الشكل والفكرة، وطرح رؤية للعالم (والتي لا تنتمي الى تطبيقات المنهجيات الكلاسيكية الاتباعية والمنظور الأكاديمي أو طرق التجسيم النمطية، والتراصف بين الأشكال والمساحات أو طرق الخداعيات البصرية) ( بل تجسيد ينطلق من الإشراق والنورانية، ودفع المناطق القاتمة بجوار الإضاءة النورانية بطريقة مفاجئة ومباغتة) في تدليل على النقاء والصفاء والروحية وقدسية الموقف والحدث، والبكرية التي تخرج من العتمة والموت الى مدارات النور والحياة، ليشهد رحم الظلمة والفراغات والكتل الداكنة" انبثاق النورانية" التي تعزز المعاني والتعبير.
ولكونها الراسم الرئيس للشكلانية والدراما السنتوغرافيه في العمل والمعزز الروحي، تأتي النورانية بالنسبة "لمصطفى الفقي" (كمعنى) وليست (مادة) هي (نور النفس والبصيرة) وواحة المتصوف، مرشد للعقل البشري الى الحقيقة (أكثر من سطحية الفاتح والداكن) شفرة ترتقي من مجرد تسطير العمق وتجسيد الكتل، الى نحت وتشكيل قدس الاقداس، ودلاله للأنساق والقيم المتسامية الروحية، لخلق تجربة ضوئية وحركيه نابضة، تصبح النورانية فيها هي الحقيقة المقدسة والمؤكد كفعل اليقين، وناتج ذلك التأمل الذي يدلل على تثقف ودراية بالغة، وتصوف ينطلق من رؤية روحية تغوص في عوالم ما وراء المرء والحقيقي والباطن، وتنطلق من تحليل النواظم والافتراقات الجمالية،التي يعبر عنها الفنان في فنه واستعراض التأثيرات الأساسية التاريخية والميثولوجية التي قادت توجهاته الفنية.

وفي خضم العلاقة بين الفنان وعمله، تأتي الأطروحات والإبداعات الفنية "لمصطفى الفقي" لتمثل تجسيد حقيقي لرحلة داخل أعماق الذات والموروث والميثولوجي، بما يثير مشاعر تعبيرية قوية عبر خطوطه القوية ومساحاته المفعمة والديناميكية الحركية، وتوظيف الضوء كعنصر حيوي، وربط عناصر التكوين في التنظيمات الذهنية والعملية، بما يبرز قيم جمالية وتعبيرية وفلسفية، في بنائياته الرصينة المعبأة بالمعاني العميقة، والتطورات العاطفية التي تنتمي لجوهر إنساني، لتتجلي النورانية بذلك عند " مصطفي الفقي" في (الضوء الأبيض) القوي الغامر الساحر الروحي المتوقد القادم من عوالم النور، والمجاور للداكن العميق ذو الشفرات الطلسمية والسراديب الغامضة من الظلمة والقتامة.
فالكتل الداكنة لديه (ليست ذلك الأسود الخالص) بل خليط من "البني والأزرق والأخضر وغيرهما" (ليصبح داكن ملون مصطبغ بإيجابية عاطفية، يصنعها مصور ملون محترف ذو خبرة ودراية وأكاديمية) في تعزيز لهيبة الكتل ورسوخها، وسحرية الطقس، وممرا لنورانية الضوء ذو الطاقة، المنبعثة من كتل محددة وفراغات خاصة وفتحات مرسومة. كتل داكنة وشخوص مغلفة بالغموض، لتنبري الشخوص الداكنة عبر تلسيعات الضوء الهامسة، والمساحات الفاتحة المتقطعة عنوة، عبر التأطير والتي تتحاور بقوه في حضور نابض يخترق سكون الداكن ويحرض تماسكه، في سيمفوني يحتفي بدراما الخطوط والكتل والقيم الملمسية، بما يجتذب ويحفز التأمل والتحليل والاستقراء في المشاهد السينوغرافية الشرقية شديدة الخصوصية للفنان.

تجربة مؤسسة على منطق التأمل، وتدلل على فنان تمسك بقيمة المضمون ومخزون للفكر، والهدوء الهامس والنورانية السحرية المصطبغة في دراما راديكالية في طياتها، كمعادل لترجمة تعبيرية من التأمل الروحاني لحاله اليقين بجدوى الخروج من الظلمات إلى النور، والجدل الفلسفي بين حالتين (النور- الاعتام) ودلالات كل منهما المضادة للآخر، والحلول المنطقية للتوازن والموائمة بين النقيضين (الفاتح المشع والداكن القاتم) (لإظهار اللون من خلال نقيضه)، ليصبح الفعل التشكيلي هو انسجام الشخوص داخل فراغاتها في وسط الحضور اللوني البراق الذي يبرز انساق الظلام، بجانب التركيز على النورانية دون مصدرها.
(عروش من الضوء وسفر الى النور) كهروب من التعبير الصارم الاتباعي الى مدارات إثاره الخيال لدى المتلقي بمسحه نورانية، وزوايا تعطي للخيال فرصته للغوص في اعماقها، عبر توظيف استثمر فيه الفنان أبعاد (الفاتح والداكن) بكل ما يحملانه من مخزون دلالي في الذاكرة الاجتماعية، وتجسيد الشخوص في تكوينات لونية تتماس مع (جدلية الظلام والنورانية) وحركات النور والقتامة مع مساقط الضوء، والظل والإيقاع الموسيقي، وسيمفوني المساحات اللونية المتداخلة في تناغم حركي صيروري،

وخلال فترة تواجده بالمملكة العربية السعودية، جسد الفنان مصطفى الفقي عدد من الأعمال الفنية التي تؤطر الأماكن المقدسة وشعائر الحج (واستلهام روح مكة المكرمة- والمدينة المنورة) حيث المصلين، والحجاج، وبيت الله الحرام، وغار حراء، وجبل أحد، بمنهج تعبيري اختزالي يعلي من قيمة النور والسكينة والنقائيه، عبر رؤية تنطلق من استلهام الفلسفة الإسلامية والنور كمرتكز رئيس، والتجلي الإلهي في الكون وأعماق الوجود، في إيقاع متناغم لتجسيد لحظات عميقة تصطبغ بالعبق والبعد الروحاني الذي يربط بين (الإنسان وربه) في مناسك الحج، وعلاقات البشر النقية في المشاعر، انتقالا من (دركات الأرض-إلى المنازل الروحية في ظليل الأماكن المقدسة)
-
الإنسانية والسينوغرافيا الشرقية والتمظهرات البصرية عند "مصطفي الفقي":
وفي مقام استجلاء الأثر الفني الممتد، وتخليد ذكرى الأيقونيين الكبار والرموز الخالدة ذوي التنوع الفكري والثقافي، والتذكير بحيوية الفن في إثراء ثقافة المجتمع، افتتح وزير الثقافة الدكتور" أحمد فؤاد هنو" المعرض الاستيعادي للفنان "مصطفى الفقي" في قاعة " أفق" بحضور أسرة الراحل وحشد من الفنانين والنقاد وتلاميذه ومحبيه.

وبفضل الفن قاد لنا خيال الفنان قدرة جسورة على التجريب بالوسائط والأدوات وترويضها لنقل ما يعتمل في داخله من أفكار وأحاسيس، بما يصدر السحر والتأثير والعاطفية التعبيرية، وجعل المتلقي (يرى ما لا يرى)، في مواكبة منه لحداثة معاصرة منطلقة من أرضية ترتكز على وعي مكين بالأصول والجذور المصرية ووجهة لفكر عميق. فتجلياته الفنية هي عوالم خاصة يستعيض بها عن الواقع والمظهرية السطحية، فمطلقا لم يأت الفن ليحاكي الواقع ويوازي الطبيعة، بل هو طرح ورؤية فلسفية للحياة والطبيعة معا في تجربة يتماهى فيها (الخيالي مع الواقعي) لإبداع تأليفات بصرية مستحدثة لمضامين قديمة، وضخ عناصر ومواقف لها قيمتها التفسيرية الذاتية.

لقد استطاع الفنان "مصطفى الفقي" عبر قدراته الشخصية والفنية تلمس مناطق رحيبة (لحيوية الاتصال بالكون والطبيعة والروحانيات- والاستقبال العاطفي والشاعري) في هيئات وقوالب جمالية ذات هوية ومصرية تتكئ على جوانب تعبيرية ورمزية روحية تصدر نوع من القداسة والروحانية السماوية المليئة بالصدق، والبعد الآني المباشر المقروء الى ما هو أبعد سرمدي، لتجسيد العواطف الخاصة والانفعال والتدفقية، والسحر المقدس الذي يؤطر (التفسيرات الماورائية- المستويات النورانية والإشراق- القدسية الروحانية- رهبة الداكن مع الأحاسيس الوجدانية والفكرية للفنان).

وعندما أعاد الفيلسوف "نيتشه" بمفهومه عن إرادة القوة (الاعتبار للجسدي) في مقابل الروحي، ووجه قوة الإرادة الإبداعية نحو جمالية الجسد، اصطبغت الكتل البصرية لدي "مصطفى الفقي" بحالة إنسانية، حيث تهمس وتتنفس وتتحرك ورابطة داخل أسطورة النور ودراما الضياء، عبر رسالة اللغة اللونية، فيما يسمي ب (أنسنة الكتل) التي تبدو تلك الكتل وكأنها انسلخت من واقعيتها، لشاعرية وتعبيرات مرمزة، عبر نبض حسي روحي يحمل عمق غير مباشر وفلسفة الحقيقة، لتصدير (الرهبة والتجاوب والإلتحام والإرشاد الروحي) بجانب تحديد التأثير العاطفي للمشهد البصري والبحث عن الحقائق مع الارتماء في المطلق.
وأصبحت أشروحاته الفنية، عبارة عن وجود إنساني وتكوينات أدمية (تصارع السكون) وتنبري مع (صخب الموقف) (وتنجذب للجمود) (وتتماشى مع الحركة والحياة) (من البرودة الى الدفء، ومن السكون الى التوهج) ( بين التدرج الضوئي واللوني، والنورانية المباغتة للقتامة الحالكة) (والتموج والتدرج والتماهي والغموض والضبابية والوضوح وشتى التمظهرات البصرية) لتدشين معادلات فنية أساسها عاطفة وتقارب مع تلك الشخوص، في توازنات مجردة وترميزيه خالصة من الاستهلاكيات النمطية لقوانين بنائية الخطاب البصري. لصالح نواظم مشفرة مصبوغة بمجالات الدهشة، لبكرية الطرح (تحول الخفي والباطني والمراد إيصاله إلى مرئي فطن).
|