القاهرة 14 يناير 2025 الساعة 10:06 ص

عاطف محمد عبد المجيد
الريادة ليست مجرد سبق في الزمان أو الفعل، لأنها من دون توأمها السيامي الملتصق بها وهو التأثير المبدع والبصمة الخالدة لن تكون شيئًا، بل تتحول إلى مجرد رقم بلا أي معنى، والقيادة ليست مجرد منصب، فلها هي الأخرى توأمها السيامي وهو الإنجاز العبقري والسيرة التي تتحدى الزمن، ودون هذا التوأم الملتصق يتحول صاحب المنصب من قائد إلى مجرد موظف، جلس بعض الوقت في مكان القيادة ثم غادره، دون أن يترك أي أثر أو تأثير.
هذا ما يقوله الكاتب محمد الشافعي مستهلًّا به كتابه "رواد وقادة" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، وفيه يرى أنه حين يدّعي أي شخص أو كيان أنه صاحب ريادة، فعلينا أن نمحص وندقق في ما تركه من تأثير وعطاء يجعله صاحب سبق حقيقي في الزمان أو الفعل، فإن امتلك بصمة عطاء واضحة الملامح سلمنا له بالريادة، وأن أي شخص يدّعي أنه قائد، فعلينا أن ندرس بدقة إنجازه العملي ومدى الإضافة التي قدمها في مجال عمله وما هي الآثار الإنسانية الإيجابية التي تركها في نفوس مرؤوسيه، فإن امتلك القيمة المضافة والروح الإنسانية سلمنا له راية القيادة. هنا وانطلاقًا من هذه المعايير الصارمة، يقدم محمد الشافعي دراسات عن كواكب امتلكوا عن حق كل آليات الريادة والقيادة، إذ استطاع كل منهم، كل في مجاله، أن يترك بصمات شديدة الخصوصية، ستظل محفورة على جدران الخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن هؤلاء الرواد والقادة يكتب عن حافظ إبراهيم، رشدي سعيد، أحمد هيكل، حسن دياب، بليغ حمدي، محمد سيد طنطاوي، فاروق إبراهيم، خالد محمد خالد، جابر عصفور، عزيز صدقي، متعرضًا لما قدموه في حياتهم وجعلهم، في نظره، روادًا وقادة، حتى وإن رأى بعضهم أن أسماء من بين هؤلاء كانوا يحتاجون إلى المزيد من العمل والإنجاز حتى يحق لهم أن يوصفوا بالرواد أو بالقادة.
متحدثًا عن حافظ إبراهيم يكتب الشافعي قائلًا إنه رغم هذا العطاء الوطني والإنجاز الشعري الخالد فإن الشاعر الثائر الذي كان لسان وطنه وضمير أمته عاش مظلومًا ومات مظلومًا، ولا يزال حتى الآن مظلومًا، إذ لا يرقى سجل التكريمات التي حظي بها إلى قيمة وقامة إبداعه وعطائه، ساردًا عطاءه في مجال الشعر والترجمة والكتابة النثرية.
بينما حينما يكتب عن د. رشدي سعيد يقول إنه عميق النظرة، واسع الأفق، متوهج العقل، متقد الذهن، موسوعي الرؤية، عاشق حفرَ خريطة الوطن على خلاياه واجتهد في إعمال عقله وتوظيف علمه وخبراته للكشف عن كنوز الوطن والمحافظة على مقدراته، ذاكرًا أنه رائد متفرد في علم الجيولوجيا، ورغم ذلك كان النيل عشقه الأكبر، وقد اهتم اهتمامًا خاصًا بدراسات نهر النيل للدرجة التي جعلت منه راهبًا في محراب النيل، وقد عاش عاشقًا لمصر ومخلصًا لقضية النيل، رافضًا أي توجهات ضد قناعاته الوطنية.
الشافعي يصف د. أحمد هيكل، وهو يتحدث عنه، قائلًا إنه شاعر راودته عرائس الشعر عن إبداعه، فأبى واستعصم بالمعاني الشم التي ترسم على جدران القلوب عشق الوطن ونبل المشاعر، وهو باحث يرفع رايات الجد والاجتهاد وإعمال العقل، فعشقته الأفكار البكر وأسلمته حقول الريادة في البحث والإنجاز، وهو معلم ينثر على طلابه سحائب الإلهام فتمطر فهمًا وتنويرًا لتروي الأفهام العطشى والأرواح التي امتلأت شوقًا للعلم والتعلم، وهو صاحب دور كبير في مجال مقاومة التطرف والإرهاب، وهو من أوائل الذين حذروا من العولمة قائلًا عنها إنها الشبح الذي يبغي تحطيم الثقافات والهويات من أجل ثقافة واحدة ذات بُعد سياسي معروف لا يدعو إلى التحاور بقدر ما يؤكد سياسة الهيمنة والسيطرة والاغتصاب.
بينما يقول عن بليغ حمدي، الذي يصفه بأنه بلبل يترنم وقلب يتألم، كان نحيل القوام كأنه راهب ناسك، وجهه مجهد وشاحب كأنه عاشق يكابد آلام الفراق والجوى، عيناه ذكيتان تفيضان مودة واشتياقًا، إنه طفل مسته أيادي آلهة الموسيقى والفنون لتحفر أسرار الموسيقى على خلاياه وتجعله المنذور لآلهة النغم، فلما شب عن الطوق فاضت نغماته ناعمة كنسمات العطر، أنيقة كحبات الماس، حنونة كقطرات الندى، قوية كجذور شجر الكافور، مبهجة كسنابل القمح، طيبة كأشجار التوت، أصيلة وكأنها الخريطة الجينية لهذا الشعب العريق، إذ تحول هذا الفتى الموهوب المسكون بالموسيقى والأنغام إلى أحد الذين يمتلكون مفاتيح الوجدان المصري لسنوات طويلة.
فيما حين يكتب عن فاروق إبراهيم الذي يراه عندليبًا للتصوير، يقول الشافعي إنه تجرع كأس المعاناة حتى الثمالة، وكاد أن يسقط في هاوية الضياع والانحراف، وقد بدأ من قاع القاع ليحلق في سماء الإبداع والنجومية بأجنحة الإرادة والموهبة، وقبلها حضن الأم التي انتشلت ابنها من هاوية الخوف واليأس لتصنع له عالمًا صغيرًا من الأمن والأمان، ذاكرًا أنه استطاع أن يحقق المعادلة الأصعب عندما تحول إلى نجم لامع وسط نجوم الفن، خاصة بين أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وفي الوقت نفسه حقق وجودًا قويًّا ولافتًا في عالم السياسة من خلال اقترابه الشديد والغريب من الرئيس أنور السادات، ثم لكون المصور الخاص بالرئيس حسني مبارك، ملخصًا رحلة حياته قائلًا عنها إنها رحلة شديدة الإثارة إذ كان من الممكن أن تنتهي مبكرًا جدًّا عند طفل مشرد من أطفال الشوارع، لكنها امتدت لتصنع نجمًا لامعًا من نجوم التصوير في الوطن العربي.
هنا أيضًا يكتب محمد الشافعي عن فارس التحدي وعملاق الإنجازات، عن د. عزيز صدقي الذي ينعته بأنه "أبو الصناعة المصرية" الذي كان صاحب الريادة والبصمة الأولى كأول وزير للصناعة في تاريخ مصر الذي يضرب في عمق التاريخ، ذاكرًا أنه كان يحتضن العقول والسواعد، ينثر مفردات الحياة الكريمة في كل ربوع الوطن، يغير وجه الحياة، صارخًا في كل جنبات الدنيا: نعم نستطيع، وقد عمل على إنشاء عواصم لبعض الصناعات كالحديد والصلب في حلوان، الألمونيوم في نجع حمادي، السكر في الصعيد، الأسمدة في أسوان والإسكندرية والسويس، الغزل والنسيج في كل محافظات مصر، البترول في السويس والإنتاج الحربي في القاهرة.
كذلك يكتب الشافعي هنا عن د. جابر عصفور واصفًا إياه بالمثقف الموسوعي والناقد الفذ المستنير الذي استطاع أن يحفر اسمه على جدران الخلود مع عظماء الفكر والثقافة والأدب، كما يكتب عن خالد محمد خالد إمام المحاورين وفارس الحرية الشجاع الذي لا يخشى السلطة أو السلطان، الذي يقنع الخاصة ويفهمه العامة، يفهم الدين على أنه إعمار للنفس البشرية من خلال منظومة أخلاقية تسعى إلى إعمار الكون، مؤمنًا بوحدة الفكر الإنساني.
|