القاهرة 14 يناير 2025 الساعة 10:02 ص

تحقيق: مصطفى علي عمار
يعد الأدب اللبناني، بجميع أنواعه وأشكاله، مرآة حقيقية تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي لبلاد تمزج بين الحرب والسلام، وبين التحديات والأمل.
من خلال النصوص الأدبية التي كتبها الأدباء اللبنانيون، يتجلى تأثير الصراع على المجتمعات وسبل العيش، فضلًا عن الصمود في وجه المآسي. في هذا التحقيق الصحفي، نغوص في تأثير الحرب على الأدب اللبناني، وكيف كانت هذه الأعمال حاملة لرسائل الأمل، وتعبيرًا عن الصراع من أجل الحرية والتعايش.
وفي ظل الحرب والسلام التقينا بكبار الأدباء في لبنان والوطن العربي وعرضنا عليهم هذه الأسئلة: كيف أثرت الحرب على الأدب اللبناني؟ وما التأثيرات الثقافية للحرب على الأدب اللبناني؟ وما أهم الأعمال والمواضيع الأدبية اللبنانية التي تناولت الحرب؟ وكيف استجاب الأدب اللبناني لتحديات السلام؟ وما رؤية الأدب اللبناني لمستقبل البلاد؟
-
لارا ملّاك: الأدب اللبناني يحاول بسط رؤيةٍ جديدةٍ تحمي المستقبل من فلسفة الهدم والعبث
ابتدرنا بالكاتبة اللبنانية "د. لارا ملّاك" لتحدثنا عن الرؤية العامة بين الأدباء الإنسانية لمستقبل لبنان فقالت:
لا شكّ في أنّ النّصّ وليد القلق، أو من الأجدى القول إنّه قلقٌ يولدُ من قلق. لهذا ربّما، عرّفه هوسرل قائلًا إنّه حدثٌ نفسيّ. وحين نشير إلى أيّ حدثٍ نفسيّ، فإنّنا نطرح الفرديّة ونعرّيها ونعرّي ذات الفرد الموجود خارج النّصّ ثمّ داخله. أمّا حين تصطدم الفرديّة بالجماعة وصراعاتها ومآسيها وما يجعلها تنتظم ضمن هويّةٍ واحدة، فتولد في الفرد مشاعر وأفكارٌ وآراء. وحين يكون الحضور الفرديّ حضورًا يُنتج النّصّ ويسعى إلى تبنّي هويّةٍ لغويّةٍ خاصّةٍ تعبّر أحيانًا عن الجماعة، وأحيانًا عن التّفاعل معها ومع قضاياها، يتبنّى الأدب توجيه الرّؤية الجماعيّة المستقبليّة.
توضح: أمّا إذا أردنا أن نتابع عن كثب حركة النّصّ اللّبنانيّ لدى جيل ما بعد الحرب الأهليّة من الأديبات والأدباء، فيمكن الإضاءة على عدّة نقاط.
أوّلًا، انخرط الأدباء - إناثًا وذكورًا - في الرّمزيّة الوجوديّة الكبرى، بعد أن ولّد الصّراع الطّائفيّ الدّمويّ أسئلةً وجوديّةً لها علاقة بهويّة الإنسان وبهويّة فعله وسلوكه.
ثانيًا، تخلّى هؤلاء عن الصّوت الواحد، فلم تعد العاطفة الشّخصيّة هي الرّكيزة الأولى للنّصّ - وإن بقيت طبعًا إحداها -. والهدف من ذلك ليس تهميش الأنا بل رفعها إلى مرتبة السّؤال الإنسانيّ. وفي ذلك ربّما، رفضٌ للصّوت الواحد الّذي انغمس يومًا في النّزاع، واتّجاهٌ نحو الأصوات الكثيرة ضمن النّصّ الواحد الّتي تحاكي الوجود.
ثالثًا، يسعى هؤلاء إلى ابتكار لغتهم، لا نسخها. وأرى في ذلك تخطّي ما مضى نحو رؤيةٍ حديثةٍ تخاطب قلق هذا العصر وتطوّعه. والرّؤية اللّغويّة ليست مفرداتٍ وتناسق عباراتٍ فقط، بل هي رؤيةٌ فكريّةٌ تعِدُ بمستقبلٍ جديد.
من خلال كلّ ما سبق، يمكن القول إنّ الأدب اللّبنانيّ المعاصر ينطلق من الماضي، ومن خلاله يحاول واضعوه بسط رؤيةٍ جديدةٍ تحمي المستقبل من فلسفة الهدم والعبث والعنف.
-
سليمان شعيب: نزوح الأدباء والكتاب اللبنانيين إلى بلاد أخرى بسبب الحرب أنتج تحول في الموضوعات والأساليب الأدبية
يضيف: الكاتب والناقد المصري د. سليمان جادو شعيب فيقول:
عندما اندلعت الحرب اللبنانية التي استمرت لعدة سنوات طويلة منذ 1975م حتى عام 1990م، فقد تركت تأثيرات كبيرة وعميقة على المجتمع اللبناني بصفة عامة، وعلى الأدب والثقافة بصفة خاصة، لا سيما الأعمال الروائية التي أبدعها الأدباء اللبنانيون، والتي عكست الواقع الأليم الذي عاشه جيل الأدباء والكتاب والمفكرين والمثقفين اللبنانيين في تلك الفترة العصيبة من جراء تلك الحرب الكارثية، على اعتبار أن الأديب ابن بيئته ومجتمعه.
لذا نجد ذلك قد تجسد بشكل واضح من خلال ما أبدعه الأديب الروائي حسن داود في روايته الشهيرة بعنوان " بناية ماتيلد"، كما رأينا بعض التجارب الإنسانية العميقة الأخرى، والتي تجلت في عدة روايات، أمثال: "رحلة غاندي الصغير" لإلياس خوري، و" الظل والصدى" ليوسف حبشي الأشقر، و"حكاية زهرة" لحنان الشيخ، و"حارث المياه" لهدى بركات، و"جسر الحجر" لليلى عسيران، و"الإقلاع عكس الزمن" لإميلي نصرالله. كما أن الحرب الإسرائيلية الغاشمة على لبنان، أثرت تأثيراً بالغاً على الأدب والإبداع، فوجدنا مثل رشيد الضعيف يصدر رواية بعنوان"المستبد" عن تلك الحرب التي عكست التحولات في بنية المجتمع اللبناني، والتي أثرت بصورة كبيرة في تفكك النسيج الاجتماعي في ذلك المجتمع.
والتأثيرات الثقافية للحرب على الأدب اللبناني، يمكن لنا أن نوجزها بأن عدداً كبيراً من الأدباء والكتاب والمفكرين والمثقفين اللبنانيين قد نزحوا إلى بلاد أخرى من جراء تلك الحرب الغاشمة، فنتج عن ذلك تحول كبير في الموضوعات والأساليب الأدبية، كما أن عدداً من الكتاب اللبنانيين تناولوا في كتاباتهم الإبداعية موضوعات تدور حول الخسارة والنزوح والصدمة، وأيضاً أثرت الحرب اللبنانية على الأدب اللبناني من حيث الدوافع والاتجاهات لعقود طويلة قادمة.
-
عادل نايف البعيني: انصهرت الروايات بنار الحرب وعكست صور المعاناة والأمل والصراع من أجل المعنى والبقاء
وينتقل بنا الكاتب والناقد السوري عادل نايف البعيني إلى تأثير الحرب على الأدب اللبناني وخاصة الرواية فيقول:
لا أحد ينكر دور الحروب وتأثيرها على المجتمع بصورة عامة وعلى الأدب بصورة خاصة، مع ظهور أعمال أدبية مهمة، على الرغم من تحوّلها أحيانا إلى بوق دعائي لمصلحة هذه الحرب أو تلك.
موضحا أن الأدب والحرب كلاهما نشاط وعمل ينجزه الإنسان سواء كان بشكل فردي أو جماعي، لهدف ما أو غاية، ولأن الإنسان كائن عاقل ومفكر، لذا نرى أن إنجازه لهذه الأعمال سيكون، إما للتعبير عن ذاته وحاجاته وأحاسيسه، وإما للدفاع عن نفسه وممتلكاته ووجوده.
فالأدب تأثر بالحرب بحيث ظهرت أنواع وطرق جديدة للتعبير الأدبي مما يعرف بأدب الحرب، وفي المقابل أثرت الأعمال الأدبية في الحرب من خلال تأثيرها في الإنسان وتحريك مشاعره وتحريضه وإلهاب حماسته للمشاركة في المعارك، مما أدى إلى إطالة أمد الحروب وإبقاء ويلاتها وبطولاتها في ذاكرة الفرد والشعوب.
ولقد كان تأثير الحروب على الأدب متفاوتا بين الدول ولعل لبنان أكثر البلدان العربية تعرضا للحروب سواء من حيث قربها من فلسطين، والاعتداءات الإسرائيلية على جنوبها، أو بسبب الحروب الأهلية المتكررة، إضافة للطغيان السوري من خلال سيطرته على لبنان. فانعكس كل ذلك على نتاجه الأدبي، حيث صور أدباء لبنان مفرزات تلك الحروب، من خلال الروايات التي كتبها روائيون كثر أذكر منهم رواية (المستبد) لـ رشيد الضعيف.
يضيف: إضافة لنماذج روائية من نتاجات كُتبت في الحرب اللبنانية كرواية "رحلة غاندي الصغير" لـ إلياس خوري ، و "الظل والصدى" لـ يوسف حبشي الأشقر.
تعد الحرب من الثيمات المركزية في الرواية اللبنانية لأنها ساهمت في تصوير الواقع الذي عاشه اللبنانيون لأعوام طويلة، وما برحوا. والكاتب كما يعلم الجميع ابن مجتمعه، ويعبر عن أحواله فقد حضرت ويلات الحروب وأهوالها في معظم النتاج الأدبي للروائيين اللبنانيين، فكانت الحرب حاضرة ومؤثرة في جميع كتاباتهم.
وقد انصهرت الروايات بنار الحرب وعكست في مرآة صافية صوراً حية للمعاناة والأمل والصراع من أجل المعنى والبقاء، في ظل ظروف قاهرة تدفع إلى الموت الواقعي عبر رصاصة شاردة، أو الموت قهراً على فراق الأحبة. لذا وجد الروائيون اللبنانيون في الرواية ملاذاً لهم لمعالجة مشاعر الدمار والخسارة والانتماء والخيانة والحب، والبقاء في ظل تهديد الموت.
كما تجاوز تأثير الحرب في الأدب اللبناني حدود الزمان والمكان، ولم يقتصر فقط على الكتّاب الذين عاشوا الحروب مباشرة، فبالنسبة إلى جيل الكتّاب اللبنانيين الشباب الذين لم يختبروا الحرب مباشرة، فقد ظلت آثار الحرب حاضرة ومؤثرة في أعمالهم، وهذا ما نجده مثلاً في رواية “اعترافات” لربيع جابر، و”أستديو بيروت” لهالة كوثراني، و”حرب شوارع” لشارل شهوان.
كان للهزة العنيفة التي أحدثها الاجتياح الإسرائيلي للبنان وما تلاه من حروب أهلية أن تركت بصمة واضحة على بنية الرواية اللبنانية، فأصبحت أداة قوية للتعبير والتساؤل عن اليقين وتوثيق الأحداث وكشف تجارب الضحايا والمهمشين وقصصهم.
ولا شك بأن موضوع كهذا يحتاج لعشرات الصفحات ليعطي الموضوع حقه، لاتساع المجال عند الحديث عن الأدب في الحروب. وما تنتجه من نتاجات أدبية شعرية نثرية روائية قصصية. وقد اقتصرت على الرواية راجيا أن أكون قد قدمت المفيد.
-
زيد الطهراوي: العدوان الإسرائيلي على لبنان سبباً لصدمة سكنت قلوب الأدباء ونصوصهم فكتبوا أدباً صارخاً
وعن أهم الأعمال والمواضيع الأدبية اللبنانية التي تناولت الحرب يحدثنا الشاعر الأردني زيد الطهراوي فيقول:
لقد كان العدوان الإسرائيلي على لبنان سبباً كافياً للصدمة التي سكنت قلوب الأدباء و نصوصهم فيكتبون أدباً صارخاً و باكياً أو تسكتهم الصدمة فيتوقفون عن الكتابة مدة زمنية إلى أن تقل آثار هذه الصدمة مع مرور الزمن.
فمن الشعراء من اهتم بوصف المدن التي دمرها العدوان، ومنهم الشاعر شوقي بزيغ الذي رثى مدينة صور التي عانت من الدمار عام 1981م و لكنَّ هذا الرثاء مليء بالتفاؤل والعناد يقول الشاعر:
"والآن يا صور/ أيتها الطعنةُ الأبدية في جسد البحر/ والسقطة المستقيمة نحو الفراغ/ الذي يملأ الروح/ آن الأوان لكي أكتب الأغنية/ مستعيراً جميع المراثي التي كًتبت/ في رثاء المدن".
والشاعر أنسي الحاج الذي قال : "أجلس على عشب لبنان المحروق وكلي موت/ ولم يبق فيّ من حياة/غير الألم".
وقد اهتم بعض الأدباء بتوثيق العدوان وإظهار فواجعه، ومنهم الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006م في "يوميات الحرب آلام الذاكرة ":
(ذكّرتني الانفجارات وكومات الدخان، بين غارة وغارة، أنه كان لي منزل هناك. كنت أخمّن من خلال الدخان، أماكن الإصابة واحتمالاتها. خمّنتُ كثيرًا.. ولكنني أقلعت عن ذلك. كتبت في صدر: انتهى، وأقفلت الباب).
ومن الشعراء من دعا إلى الصمود وتحمل العذاب والقتل والذبح إلى أن يزول العدوان فيقول الشاعر موسى شعيب وهو يدعو إلى الإقامة في الجنوب اللبناني ورفض الهجرة:
"هنا باقون كالأَزَلِ
نشُدُّ جذورنا بجذورنا الأُوَلِ
نعانق شوكَ هذي الأرض بالمُقَلِ
ألم تُخلق سوى الأفواه للقُبَلِ؟
هنا باقون لن نَبَرْحْ
وإنْ يُهدَمْ لنا بيتٌ، وإنْ نُقتَلْ، وإنْ نُذْبَحْ
فهذي الريح موّال لنا يصدحْ
وهذا الحقل أطفال لنا تمرحْ
هنا باقون مثل الصخرِ لن نبرحْ
ويختتم: وفي إدانة صارخة للعدوان تقول الشاعرة اللبنانية نادية تويني :
في فم المدن الأسود يدق جرس الزهور الحزين
مات البلد جمالاً مقتولاً بقهقهة قنبلة في الأرض حفرت بسمة".
-
أيمن دراوشة: استفاد الأدب اللبناني من الانتشار العالمي لتعريف العالم بتحديات الحرب وطموحات السلام
وختاما يحدثنا الناقد القطري أيمن دراوشة عن استجابة الأدب اللبناني لتحديات السلام فيقول:
الاستجابة لتحديات السلام تمت بأساليب متعددة، إذ يمثل السلام مفهومًا محوريًا في بلد عاش تجارب مريرة من الحروب الأهلية والاضطرابات. تجلّت استجابة الأدب اللبناني لهذه التحديات عبر ما يلي:
1. إعادة بناء الهوية الوطنية
الأدباء اللبنانيون سعوا إلى تعزيز قيم التعايش والهوية الوطنية عبر نصوصهم، مبرزين أهمية الحوار والسلام كبديل للصراعات. هذه الجهود تجلت في أعمال مثل قصائد جبران خليل جبران وشعر ميشال طراد، التي ربطت السلام بالحب للوطن والإنسانية.
2. نبذ الحروب وتفكيك الصراعات
الكثير من الأعمال الأدبية اللبنانية انتقدت الحروب والنزاعات الطائفية بشكل مباشر. على سبيل المثال، رواية "ريح الجنوب" لحنان الشيخ قدّمت تصويرًا صارخًا للتدمير الذي خلفته الحرب الأهلية على الأفراد والمجتمعات.
3. الدعوة للسلام عبر الرمزية
بعض الأدباء لجأوا إلى الرمزية للتعبير عن تطلعاتهم للسلام، حيث استخدمت الطبيعة والصور الجمالية لتجسيد الأمل والتغيير ومن الأدباء اللبنانيين على سبيل المثال لا الحصر، الشاعر أمين نخلة وأدونيس مثالان على هذا النهج.
4. تمكين صوت الفئات المهمّشة
تناول الأدب اللبناني قضايا اللاجئين والمهاجرين والمهمّشين، مسلطًا الضوء على أهمية العدالة الاجتماعية كشرط لتحقيق السلام.
5. الأدب العالمي بوصفه منصة لبنانية
استفاد الأدب اللبناني من الانتشار العالمي، حيث أصبح وسيلة لتعريف العالم بتحديات لبنان وطموحه إلى السلام، كما يظهر في كتابات المبدعين المغتربين.
6. الفنون التشاركية
وذلك بالتعاون مع فنانين ومسرحيين للترويج لرسائل السلام، مثل الأعمال المسرحية المقتبسة من الأدب اللبناني التي تناولت موضوعات التعايش والصلح. والسلام.
7. التأريخ والتوثيق
الأدب اللبناني قام بتوثيق آثار الحرب والانقسامات الطائفية، مثل أعمال الروائيين الذين استخدموا السرد لاستعادة الأحداث وتقديم شهادات حية عن المآسي حيث تناولت بعض تلك الروايات تناقضات المجتمع اللبناني في ظل الحرب.
واختصارا فقد استجاب الأدب اللبناني لتحديات السلام بمزيج من التأريخ، النقد، الدعوة للأمل، وإعادة بناء القيم الإنسانية، مما جعله وسيلة فاعلة للتعبير عن جراح الماضي وآمال المستقبل.
|