القاهرة 14 يناير 2025 الساعة 09:56 ص

بقلم: د. حسين عبد البصير
تعتبر القاهرة واحدة من أهم العواصم الثقافية والتاريخية في العالم العربي والإسلامي، حيث تحمل في طياتها مجموعة كبيرة من المعالم الدينية والثقافية التي تمثل أوج تطور الفن المعماري الإسلامي عبر العصور. من بين أبرز هذه المعالم، تأتي المساجد التاريخية التي تزين القاهرة وتحكي قصصًا عن حضارة عريقة تمتد لآلاف السنين. من أبرز هذه المساجد التاريخية، مسجد أحمد بن طولون، ومسجد السلطان حسن، ومسجد الرفاعي. تُعد هذه المساجد ليس فقط أماكن للعبادة، بل هي أيضًا مدارس معمارية تعكس تطور الفن المعماري الإسلامي في مصر عبر العصور المختلفة.
-
مسجد ابن طولون: رائد العمارة العباسية في مصر
يعد مسجد أحمد بن طولون واحدًا من أقدم وأهم المساجد في القاهرة. بُني في القرن التاسع الميلادي، وتحديدًا في العام 879 الميلادي بأمر من أحمد بن طولون، والي مصر في العصر العباسي. يعد هذا المسجد أحد أبرز الأمثلة على العمارة العباسية، ويُعتبر من أكبر المساجد التي تم تشييدها في فترة حكم العباسيين في مصر.
يمتد مسجد أحمد بن طولون على مساحة شاسعة تبلغ حوالي 6.4 أفدنة، ويُعتبر من أكبر المساجد في القاهرة القديمة. ويعتمد تصميم المسجد على طراز بسيط في تنسيقه، لكنه يعكس عظمة فن العمارة العباسية. يتوسط المسجد صحن واسع مفتوح، وتحيط به أربعة أروقة تحتوي على أعمدة ضخمة. ويعد هذا الأسلوب من أبرز ملامح العمارة العباسية في تلك الفترة.
من أبرز السمات المعمارية لهذا المسجد هو المئذنة "الملوية" التي تعد إحدى المآذن المميزة في العالم الإسلامي. تشير الدراسات المعمارية إلى أن هذه المئذنة هي تقليد لمئذنة مسجد سامراء في العراق في فترة الخلافة العباسية.
يمثل هذا المسجد انعكاسًا للعمارة الإسلامية المبكرة التي كانت تدمج بين البساطة والفخامة في الوقت ذاته. تعد عمارة وزخرفة المساجد في تلك الفترة نقطة التقاء بين العباسيين والفن الإسلامي في مراحل مبكرة.
كان مسجد أحمد بن طولون ليس مكانًا للعبادة فقط، بل كان أيضًا معلمًا دينيًا وثقافيًا بارزًا في القاهرة العباسية. ومنذ بنائه، كان المسجد مركزًا للعلم والتعليم، حيث كان تُدرس فيه علوم الشريعة الإسلامية واللغة العربية. وكان المسجد أيضًا وجهة للزوار من مختلف أنحاء العالم الإسلامي الذين يأتون لتعلم العلوم الدينية من العلماء الذين كانوا يُدرّسون فيه.
-
مسجد ومدرسة السلطان حسن: قمة الفن المعماري المملوكي
يُعتبر مسجد ومدرسة السلطان حسن من أشهر المعالم الإسلامية في القاهرة، ويعد من أعظم المساجد التي بُنيت في العصر المملوكي. تم تشييد هذا المسجد في الفترة من 1356 إلى 1363 ميلادية في عهد السلطان الملك الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون. يُعد هذا المسجد من أروع الأمثلة على العمارة الإسلامية في العصور المملوكية، ويعكس التطور الكبير في فنون البناء والتصميم في تلك الفترة.
يمتاز مسجد السلطان حسن بتصميمه الفريد والذي يجمع بين العظمة المعمارية والجمال الزخرفي. يمتد المسجد على مساحة كبيرة تشمل صحنًا فسيحًا تحيط به أربعة أروقة ضخمة، وكل رواق مخصص لمذهب من المذاهب السنية الأربعة. ويعد الصحن الواسع أحد أبرز عناصر المسجد، حيث يُعكس فيه الطراز المملوكي الذي كان يتسم بالتنظيم الهندسي الدقيق.
تتميز الواجهة الرئيسة للمسجد بعناصر زخرفية رائعة ونقوش دقيقة تظهر البراعة العالية في فنون النقش المعماري. ويظهر ذلك بوضوح في المدخل الرئيس الذي يتميز بالزخارف الإسلامية المتقنة بشكل رائع. كما يحتوي المسجد على القبة المربعة المزخرفة الجميلة التي تضفي على المسجد جمالاً استثنائيًا.
تعد المآذن من أبرز معالم المسجد. وبه مئذنتان كبيرتان تبرزان بشكل ملحوظ في سماء القاهرة، وتعدان من أضخم المآذن في العالم الإسلامي، ومن رموز العمارة المملوكية، ويصل ارتفاع أحدهما إلى حوالي 82 مترًا.
لم يكن مسجد السلطان حسن مكانًا للعبادة فقط، بل كان أيضًا مركزًا علميًا ودينيًا مهمًا. في عهد السلطان حسن، تم إنشاء مدرسة علمية داخل المسجد لتعليم مختلف العلوم الإسلامية مثل الفقه والتفسير. بالإضافة إلى ذلك، فإن المسجد كان يُستخدم كمكان لجمع العلماء والفقهاء لمناقشة المسائل الدينية والفكرية.
-
مسجد الرفاعي: آخر المعالم العثمانية
يعد مسجد الرفاعي واحدًا من أبرز المساجد التي تم تشييدها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. بُني المسجد في الفترة من 1869 إلى 1912 في عهد الخديو إسماعيل، ويعد أحد أبرز الأمثلة على العمارة العثمانية المتأخرة في مصر. يعتبر هذا المسجد نموذجًا متقنًا في جمع فنون العمارة العثمانية والفاطمية، ويتميز بتصميمه الفخم الذي يتماشى مع متطلبات العصر الحديث في ذلك الوقت.
يتميز مسجد الرفاعي بتصميمه الضخم، وبزخرفته الرائعة، وبقبتين جميلتين. تعكسان الطراز العثماني الذي يتسم بالهيبة والجلال، وتُعتبر من أجمل القباب التي تم تصميمها في عمارة المساجد الإسلامية. وزُخرف السقف بالأعمال الفنية المعقدة التي تشمل زخارف نباتية وهندسية تعكس تطور الزخرفة في الفترات العثمانية.
يضم المسجد أيضًا مئذنتين عاليتين تتميزان بتصميماتهما الدقيقة والمزخرفة. وعلى الرغم من أن المسجد قد تم تشييده في أواخر العصر العثماني، فإنه يحمل في طياته تأثيرات من العمارة الفاطمية، حيث تظهر الزخارف المشغولة على الجدران والأعمدة لتشكل لوحة فنية رائعة.
لم يكن مسجد الرفاعي مجرد مكان للعبادة، بل كان أيضًا مكانًا للعديد من الأنشطة الاجتماعية والدينية. على الرغم من أنه تم بناؤه في العصر الحديث، فإن المسجد يضم العديد من الأضرحة التي تعود لعدد من الشخصيات البارزة، بما في ذلك قبر الملك فاروق الأول آخر ملوك مصر. ويُعتبر المسجد مكانًا مهمًا في قلب القاهرة، حيث يجذب الزوار والمصلين من جميع أنحاء العالم.
تعد المساجد التاريخية في القاهرة، مثل مسجد أحمد بن طولون، ومسجد السلطان حسن، ومسجد الرفاعي، من أعظم معالم المدينة التي تروي قصصًا عن تطور العمارة الإسلامية في مصر. من خلال هذه المساجد، يمكننا رؤية تأثيرات مختلفة من فترات زمنية متباينة، بدءًا من العصر العباسي، مرورا بإبداع العمارة في العصر المملوكي، وصولاً إلى العصر العثماني. هذه المساجد ليست مجرد أماكن للصلاة، بل هي مراكز ثقافية ودينية تمثل الإرث الحضاري للعالم الإسلامي في القاهرة.
|