القاهرة 14 يناير 2025 الساعة 09:52 ص

قصة: أمل زيادة
قبل أن تزهر حقول النرجس فوق قبعات الجنود، صعد ثلاثتنا لمؤخرة العربة بعد أن أبرمنا اتفاقية مع سائق الشاحنة، اتفقنا أن ينقلنا لأي مكان في الجانب الآخر، أيًا كانت وجهته، المهم أن نبتعد عن رائحة الموت ومرمى البارود والنار، أخذ منا كل ما نملك من متاع وطعام ونقود.
تساءلت:
ألا تشفق على حالنا؟ ألا ترى أنك أخذت كل ما معنا؟!
ألا تأخذك بنا رحمة؟! ألا تمل من جمع ما ليس لك؟! ألم تكتفِ من ادخار الأموال؟!
ألا تعي أن مصائرنا واحدة وطرقنا متشابكة، نوهم أنفسنا أن آخر النفق المظلم قد نجد نورًا... قطعًا نور الجحيم لمن هم مثلك، ممن يأكلون على كافة الموائد.
اللعنة عليكم يا تجار الحروب، لا فرق بينكم وبين العدو في شيء، تهتمون بكل شيء إلا نحن.
أنت وأمثالك الوجه الآخر للعملة التي تكبر وتستفحل وقت الأزمات، عملتنا تحمل وجه المحتل والأخرى لكم!
استفقت من شرودي ورفاقي يحثوني على الصعود، لم نتوقف كثيرًا أمام ما أخذ منا، المهم أن نصل لمبتغانا، أنا مزارع أستطيع تدبر أمري أينما حللت، وصديقي معلم لغة عربية يمكنه التأقلم والنجاة بفضل إجادته للتدريس، أما صديقي الآخر يعمل كاتبًا لا يجيد سوى نظم الكلمات في أبيات شعرية تهون علينا حاضرنا وترسم لنا مستقبلنا.
أتوقع أن يجد ما يعينه على قسوة الواقع، على الجانب الآخر من الأمل، بفضل إجادته لبيع الأحلام.
ما أجمل أن تبث الحب والصمود! ما أجمل أن تعيش حروفك وأن تصل للآخرين ليتأثروا بها!
أخبرنا السائق بضرورة الاختباء جيدًا وعدم إصدار أي صوت أو إحداث جلبة.
شاحنته عبارة عن ثلاجة كبيرة ينقل بواسطتها الطعام من داخل فلسطين لخارجها.
غادر رام الله بهدوء ونحن نتشح بأكوام من عيدان البرسيم.
يقول إن تغليف أقفاص الفاكهة بهذه العيدان تحافظ عليها نضرة، تمكن السائق من تجاوز أول حاجز بنجاح.
وبالقرب من الحاجز الرئيس، أوقف الشاحنة على جانب الطريق بمنأى عن الكاميرات التي تكشف الطرق.
فتح الباب الخلفي للثلاجة وهو يتلفت حوله بحذر هامسًا:
الحقوا بي!!
لحقنا به، سرنا في طرق جانبية تخفيها الغابات التي حرص المحتل على إبقائها والمحافظة عليها، جدارًا عازلًا يحميه، من يدخلها تبتلعه ولا يعود.
توقف السائق في منتصف الطريق الذي يتقدمنا إليه.. قام بالحفر أسفل شجرة يبدو عليها الوهن مثلنا.. أخرج لفافة بها كيس بلاستيك صغير..
قال:
هذا الغبار رماد أولادي الذين حرقوهم أمام عيني..
لا تتعجبوا أني أجمع الأموال الكثيرة وأواصل الليل بالنهار؛ لأني أرغب في تكوين جيش قوي يمكنه مواجهة هذا الظلم.
مات قلبي يوم دفنتهم هنا، لا تغرنكم الصورة ولا تخدعنكم الحكايا فخلف كل وجه ألف قصة ومئة ألم، سأقوم بتوصيلكم وسأستمر بفعل ذلك، حتى يفرغ هذا الكيس من الرماد، مع كل رحلة أقوم بنثر بعض منهم، علهم يتنعمون بالحرية التي سلبت منهم ومنا..!
تأكدوا أنه كلما تقلص حجم الكيس كلما اقتربت النهاية، عندما تصلون لوجهتكم لا تنسوا أن هناك عشرات بل مئات مثلي أقسموا أن يأخذوا بالثأر، وإن غدًا لناظره قريب.
نثر بعض الغبار في الهواء وعلى وجهه ابتسامة أخذت تتسع وتتسع..
قام بدفن الباقي وعادوا أدراجهم..
طلب منهم الدخول داخل أكبر عمق للثلاجة أعطاهم الكثير من الملابس الثقيلة للتدفئة طلب منهم الالتصاق ببعضهم البعض في أحد الأركان، للحصول على المزيد من الدفء، قام بتزويدهم بالبطاطين الصوف.
مشددًا على عدم القيام بأية حركة أو إصدار أي صوت، رص أمامهم أكوامًا من صناديق الفاكهة أخفتهم تمامًا عن الأعين، أغلق الباب وهو يقول لهم: لن يطول الأمر، انطلقت السيارة واقتربت من البوابة الرئيسة للمعبر.
ناول أوراقه لأحد الجنود لفحصها متسائلًا:
ماذا تحمل اليوم؟
فاكهة!
سئمنا الفاكهة، ألا تملكون غيرها..
لدي سجائر.
مد يده بالعلبة إليه.. أخذها الجندي قائلًا:
لديكم تبغ جيد، أحب حقًا تبغكم، ماذا تضعون به حتى يكون بهذه الجودة؟!
لدينا الطبيعة، لدينا شجر، لدينا نحل يصنع لنا أجود أنواع العسل..
لدينا فلسطين يا رجل، قالها وهو يضحك بصوت عالٍ!!
انزعج الجندي عندما جاء على ذكر اسم فلسطين.. قال بغضب:
فتشوا السيارة.
بدأ يعد بهدوء: واحد.. اثنان.. ثلاثة.. أربعة.. وهم ما زالوا يفتشون السيارة من كل جانب..
قال السائق: المرة المقبلة سأحضر لك لفافة تبغ سأعدها لك خصيصًا..
قال الجندي وهو يراقب عمليات التفتيش: حسنًا.. اتفقنًا..
أشار الجندي لباقي الجنود: كفى..
أعاد إليه أوراقه وسمح له بالعبور..
قاد السيارة وهو يراهم يتضاءلون في الحجم كلما ابتعد..
وقلبه يدعو أن يصمد رفاق الطريق، تأخر عليهم كثيرًا.. لن أستطيع تجاوز الحد المسموح للسرعة، لن أتمكن من تخفيف السرعة الآن، لن أتمكن من التوقف، لا أريد لفت انتباههم، قام بإيقاف مؤشر التجميد.
وبعد أن ابتعد عن دائرة الخطر أوقف السيارة وهبط مسرعًا وفتح الباب وقفز للداخل وهو يزيح الصناديق مناديًا عليهم: أين أنتم يا رفاق؟!
لم يتلقَ ردًا!
تسلل الخوف لداخله أسقط الصناديق بضربة قدم قوية، وجدهم نائمين وعلى وجوههم ابتسامة، اقترب منهم، حاول إيقاظهم لم يستطع، هتف بغضب..
لا تموتوا الآن!
كف عن الابتسام يا هذا!
تمازحوني أعلم؟!
أفيقوا.. أفيقوا بالله عليكم.. نحن قاب قوسين أو أدنى من الحرية..
وانخرط في بكاءٍ حار.
|