القاهرة 07 يناير 2025 الساعة 05:35 م

بقلم: د. حسان صبحي حسان
تنطلق قوة التجريد من اختزالية تنتفض من التعانق بالواقع والارتباط بمظاهره الشكلانية، لتوسم التجريدية الغنائية بتأسيس عوالم خاصة تحتفي بقوة الانفعال، والتحول الدينامي في مستويات البنيوية، وإعادة كل ما هو محيط بواقعة بصيغات فنية برؤية جديدة تعبر عما بدواخل الفنان وأحاسيسه وخياله، عبر مخططات الألوان وضربات الفرشاة (والأسلوبيات الاختزالية للأشكال) والتي أخذت الاهمية الأكبر من (الموضوع) باعتبار ان التجريد هو التأليف الشكلي والبحث المعرفي، نحو جوهر الأشياء وحقائقها، والتعبير عن ذلك في أشكال موجزة تحمل بداخلها قدرات الفنان وخبراته.
الخيال التجريدي والربط بين الفكرة والصورة:
يمثل الفنان "صالح النجار" أحد أبرز حراس الهوية التجريدية، والمخلصين لتعاليم التجريدية التعبيرية مع ومضات الرمزية التي تعانق أسطورية خاصة، في محاولات الفنان للتعبير عن فلسفة محددة، وتصدير الحداثة كشكل لقوة الإنسان الذي يكرس طاقته من أجل خلق الأشكال الجديدة، لتنطوي أطروحاته الفنية على تحولات جذرية في الهيئة التعبيرية والمفاهيمية وممارسات إبداعية انتقلت لمنعطفات حداثية ، واحتفت بحساسية شديدة في التكوينات وترتيبات المخططات اللونية والملمسية، وتكثيف قوة الألوان، وتصدير الموحي والمفعم والطاقي بما يعزز فلسفة الربط بين الفكرة والصورة، ورؤية الفنان كنتاج لانطباعات ترسخت عن حقائق ثابتة. حيث يستدعي العلامات المرسومة بعناية ودقة من خياله ويجاورها بإيماءات صوريه مرسومة بالتعاطف والقرب.
فالفنان "صالح النجار" عضو بنقابة الفنانين التشكيليين العراقيين، وعضو نقابة الفنانين التشكيليين الأردنيين، وأقام العديد من المعارض الفردية والجماعية: منها المعرض الفردي الأول لباعة مكتبة خانقين العامة 1980، والمعرض الشخصي الثاني ببغداد بقاعة التحرير 1990، والمعرض الشخصي الثالث بالأردن 1997 بقاعة المركز الثقافي الملكي، ومعرض الفن العراقي المعاصر بقاعة نقابة الفنانين التشكيليين العراقيين بغداد 1993، ومعرض الفن العراقي المعاصر جاليري عاليه عمان 1993، والمعرض المشترك لمجموعه الفنانين في قاعة الرواق بغداد 1994، والمعرض المشترك تون بريطانيا 2009، والمعرض الشخصي الرابع بقاعة متحف السليمانية 2010، ومعرض شخصي أسود 23 بغداد دكانه رؤيه مؤسسة رؤيه فون بغداد 2021، ومعرض شخصي بغداد واحد اسطنبول جاليري كلمات 2021، ومعرض مشترك في المتحف الروسي بلغراد 2020، ومعرض الفن اسطنبول 2021، وبينالي لانجكاوي سول 1999، وحصل على العديد من الجوائز والتقديرات المحلية والدولية منها : الجائزة الأولى في مسابقة الفنون التشكيلية في السليمانية 2007، ولديه العديد من المقتنيات في العديد من الدول العربية والعالمية في اسطنبول والسعودية والإمارات وبريطانيا والأردن.
ليسطر الفنان عالم خاص حافل بالجسارة والمغامرة، للملمة (مدركات الواقع التمثيلي، والاختزال التجريدي والاحتفاء بالزمكانيه) مع الاحتفاظ بجلال وحضور الشخصية وهويتها وإعادة تحوير المرئيات داخل منظومات شكلانية تربط بين الفكرة والصورة، وتنتقل بالفعل الى مساحات تتوازي مع التمكن البنائي المحكم بما يعضد درجات الاثارة البصرية والحداثية. وتوظيف تقنيات عديدة مثل تقنية "الكولاج التلصيقي" واظهار الأبعاد الثلاثة واختلاف الملامس والأشكال من القماش والورق والبلاستيك والخيوط والمساحات الملونة كنوع من أشكال الفن المفاهيمي، وتجسيد فني خلاق يجمع بين التصوير والنحت، عبر استرسال رومانسي يحتفي باختزال التفصيليات لتصدير قيم ديناميكيه مضافة، بغرض خلق وتكثيف لملكات البصر والبصيرة. وتوظيف تقنية "الديكوباج" التي تعمد لترتيب القصاصات مع الأوراق الملونة وتجميعها معا بطريقة الطبقات، لتدشين هيئة بصرية مستحدثة ومساحات سيمفونية بما يتسق مع رؤية وفهم منضبط للمعنى الدلالي البصري لتوظيف اللون. واستخدام تقنية "الجراتاج" التي تعمد إلى خدش او كشط الطلاءات وازالة بعض الاصباغ اللونية من فوق المسطح التصويري بما يؤسس لإحساس حركي قوي يعضد فعل التجاوب مع المتلقي نحو الاندماج عبر مستويات دالة.
ونحو فهم عميق لمفهوم التنوع وكثافة التجربة وتعدد الرؤى، والربط بين الفكرة والصورة، استخدام الفنان "صالح النجار" تقنيات تعبيرية إيمائية جريئة حتمية تنبع من صدق ونفسيه المبدع بعد أن ينسجها إلهامه في قوالب تعبيرية تجريبية رائدة، أغرق بها مسطح تراكيبه المرئية بحقول من الوسائط المتعددة والابتكار الشكلي الجريء في تجاوز للمعايير الاتباعية من حيث اختيار التقنيات وشخوص أعماله والموضوعات ملتحفا في ذلك بهوية وشخصية مميزة والتركيز على الجوانب التعبيرية والفلسفية ونفض الارتباطات والأفكار العقلانية المألوفة. ليبتكر الفنان قالبا فنيا جديدا ونوعا مستحدثا من المساحات التصويرية، كشفته قدرات التعبيرية التجريدية لديه وامتلاك الأدوات والوسائط.
فإنطلق الفنان من خلال الخطوط التهشيرية والشبكات المربعة، والنسيج الشبكي بالأبيض والأسود، والملامس السطحية وفاعلية اللون التعبيرية وكثافاته وتداخلاته، حيث وظف خطوط وبقع لونية خالصة خاوية من أي تدرجات تقليدية مشحونة مفعمة نابضة، ولنظاره وحيوية الأفكار يمزج الفنان مساحات ملونة مع القصاصات والبقع اللونية ولمسات الفرشاة النابضة اليدوية، واستخدام الخطوط اللونية المتصلة والمتقطعة التي تحدث الانسجام مع النسق الكلي لدراما العمل في محاولات تأكيد الفنان للبعد العاطفي والتعبير والفلسفي وامتلاك وجدانية المتلقي واجتراره لساحة المساحات البصرية، لتحمل الخطابات البصرية بداخلها العديد من المتناقضات بين (الصلابة والرهافة- الحكائية والاقتضاب- القصدية والعفوية) لتنطلق مفهوميه أعماله نحو دمج ارهاصاته بالطبيعة الجوانية للذات عبر عوالمه النفسية والتي تنصهر لتدشين براح روحي أثيري.
وإستخدام قصاصات ورقية مع نصوص كتابية متنوعة الأحجام ذات شفرات سردية، ومساحات لونية مناسبة متدرجة ومنسكبة أحيانا مع شرائط وقصاصات ملونه عفوية الأطراف، وأخرى منضبطة حددت بأدوات القص، مع استخدام شبكات بلاستيك سوداء سهله القص والتشكيل من خلال تراكم مستوياتها المتتالية والتي تكون شفافيات وتراكبات تتحكم في تحديد مناطق الفاتح والداكن وتحديد المسارات البصرية داخل العمل. حيث ترسم تلك الشبكيات البلاستيكية شخوص أعماله من تراكيب معقدة تعبر عن معاني إنسانية عميقة واطفاء تصورات فلسفية تستقي من اللاشعور والتحرر من التمركز حول الذهني العقلي لشخوص وطيور ونباتات ومراكب وحيوانات كالخيل والغزال وعلاقات الإنسان مع الحيوان في الحياة اليومية، في اسهام يعزز اكتساب الفهم العميق للذات وتعزيز الخبرات الحياتية باستخدام التشبيهات المجازية والصور الجمالية والأفكار الحيوية.
بلاغة اختزال المضمون الفكري والتعبير عن المعاني الإنسانية:
عبر الانتقال من عالم الواقع الى عالم التعبير والجليل والجميل، تمثل الأطروحات الفنية للفنان "صالح النجار" جهد إبداعي يصدر تأثيرات عاطفية وأشروحات متحررة ذات تأمل صوفي تنزع لتأطير (الفلسفي والفكري والذهني)، حيث تتأثر هياكله المرئية حسب (طبيعة الوسيط وطرق استخدامه في ناتج الشكل) متكئ على التجريد والتعمق الدلالي والتحريفات الشكلانيه التي تثير النشوة الشاعرية (بما يكثف المحتوى والوجود الحسي داخل ذاتية المتلقي للرسالة وإغراقه في تفكير عميق وفي حالة من التكثيف العاطفي) في معادلة واعية لدى الفنان تعلي ما بين الذاتي والصوتي والبصري في حوار وجودي داخل عوالم لها أبعادها الفلسفية والروحية والتعبيرية.
ونحو التأطير البلاغي لإختزال المضمون الفكري، وتأسيس المعادلات البصرية داخل سياق أو سيناريو معين في منظومات ذات مستوى أدبي فني موسيقي، وتصدير توجهات تعبيرية تجريدية بأنساق معاصرة ومواكبة للحداثة وأسلوبية تجريدية منحت قوالبه الفنية طابعا اختزاليا مصطبغ بعمق مفاهيمي رصين، كترجمة صورية إنسانية تجمع في جرأة بين عناصر التصوير الحر ودينامية توظيف الوسائط المتعددة لتشكيل لغة بصرية فريدة تعلي من المشاعر العاطفية والمعاني السامية، وتجسد لمعنى الحرية الفنية الذي يسطر ديناميات حيوية تنبثق من المعاني الإنسانية وتجسد الانسان في علاقاته وأحواله.
ليمتلك بذلك الفنان الفعل التوحدي مع شكلانية محددة ارتكازية في تصدير محيطه البصري وعوالم بصرية خاصة تكشف لنا عن مساحات مرئية مختلطة مع مساحات لا مرئية ليست ضد لها، والتي يتقن الفنان الولوج إليها في فلسفة وملكة أنطولوجية، لاحتضان تجربة الالتحام بالعالم عبر استعادة الحقائق المعرفية، فضلا عن البعد الإنساني الذي يشغل مساحة حيوية داخل شروحاته الفنية لمكانته الخاصة لدى الفنان في تصدير التعابير والمعاني والدلالات والتعالق الحسي والروحي بعيدا عن تجسيد الظاهر من الأشياء والمعالم بمتانة ووهج وبساطة مقدسة منبثقة من قدرات الفنان المكينة كمصور وبين التأمل البريء في جوانيات الإنسان.
لقد سعى الفنان لتأسيس حوار هامس بين (ذاته- وأشكاله الرسومية) بين (أفكاره وخياله التجريدي- وعالمية الطرح)، حوار تقوم فيه (عاطفة الفنان) بشحن ميكانزمات ابداعه وتحفزه نحو اختزاليه شكلانيه تنتهج ايماءات تصويرية تفكك مبادئ التمثيل الاتباعية، والموازنات بين (عفوية الأداء والبنيوية) التي تعزز الفكرة والخط الفلسفي لطرح الفنان، ليجمع الفنان مابين(اتساع الأفق الثقافي وعمق الفكر التأملي)وبين(الحرية الإبداعية والمحافظة الرجعية)واطلاق الفنان لمخيلته التجريدية وقدرته في التلخيص المجازي لواقعه علي نحو وجودي وطلاقة تلقائية،لصالح هيئات أثيرية تخطت التفاصيل والملامح،والقبض علي الجوهر والشكل الخالص والنقائية،وابداع تجريدية تأملية يتحد فيها كل ماهو عقلي وعاطفي وشاعري.
لذا انطلقت محاولات الفنان لاستيعاب المحيط الإنساني والولوج لحوار متبادل معه وتحليل تلك الحالة، وترجمته بفطنة كنوع من استلهامه كشاحذ داخل الأبجدية البصرية للفنان، في منجزات بصرية حداثية تحتفي بالشخوص الإنسانية، وإحساساتها العاطفية وإيماءاتها، لتصبح الصورة الإنسانية مشحونة بالطاقة التعبيرية والأبعاد الرمزية والتلميحات المفاهيمية، عبر حيوية وراديكالية. وهو ما يفسر استعانته بمجموعات لونية خاصة وخلفيات مسطحة بتدرجات محدودة، والإرتكال للألوان القوية الجريئة ذات التعبير، حيث ساهم (اللون الأحمر الأصفر وسائر الألوان الساخنة) في التركيز على الامتداد اللامتناهي والفضائية.



|