القاهرة 07 يناير 2025 الساعة 10:54 ص
بقلم: د. هويدا صالح
حين تملأ امرأة جيوبها بالحجارة، وتسير إلى نهر الأوز وتغرق مالذي كان يدور في خلدها؟ لقد كانت كاتبة متحققة وراكمت عددا جيدا من الأعمال الإبداعية، ومع ذلك أثقلت جيوبها وغرقت وأطلقت صرخة في وجه العالم. إنها الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف التي كانت حالتها العقلية انعكاسًا لعودة لمرض الاكتئاب، والذي من المحتمل أنه تفاقم بفعل اندلاع الحرب في أوروبا. كانت تبلغ من العمر 59 عامًا، ومؤلفة لثمانية روايات، من بينها أورلاندو، السيدة دالاواي، وإلى المنارة"، بالإضافة إلى العديد من الأعمال غير الروائية.
كانت هذه الرواية من آخر أعمال فرجينيا وولف، وقد نشرها زوجها بعد وفاتها عام 1941، وتعتمد على تقنية المسرح داخل المسرح، حيث يحكون في المسرحية التي يقيمها أهل القرية كل عام تاريخ إنجلترا. تدور أحداث الرواية قبيل الحرب العالمية الثانية، حيث تستضيف القرية عرضها السنوي في منزل صيفي، حيث يقيم أهل القرية عرضا مسرحيا سنويا. تناقش المسرحية فترات مختلفة من تاريخ الأدب الإنجليزي وتقدمها على المسرح: شكسبير والإليزابيثيون، الكوميديا ??الإلهية والعصر الفيكتوري في الدراما.
تناقش الكاتبة في روايتها ظهور الفاشية وإرهاصات الحرب العالمية الثانية.
يعد النقاد هذه الرواية أفضل أعمال فرجينيا وولف وأنضجها فنيا.
أكد لها كل من ناشرها وزوجها، ليونارد وولف، جودة روايتها" بين الفصول" (Between the Acts). وعندما نُشرت الرواية بعد وفاتها في يوليو من العام نفسه، أضاف ليونارد ملاحظة يوضح فيها أن المخطوطة لم تكن قد خضعت للمراجعة النهائية وقت وفاة زوجته. لكنه كتب: "لا أعتقد أنها كانت ستُجري أي تغييرات كبيرة أو جوهرية عليها، على الرغم من أنها ربما كانت ستُجري عددًا لا بأس به من التصحيحات أو المراجعات الصغيرة قبل اعتماد النسخة النهائية."
رغم أنه من المستحيل معرفة كيف كان من الممكن أن تتقدم مراجعات رواية بين الفصول إلا أنه يمكننا القول بثقة إنها ليست رواية سخيفة أو سطحية. وعلى الرغم من الطابع الكوميدي الذي يسمح به سياقها وأحداثها – حيث تصف الرواية عرضًا مسرحيًا يُقام في أراضي منزل ريفي – فإنها تستحضر وتجسد، كما كانت وولف تأمل، "كل الحياة، كل الفنون، كل المشردين، وكل التائهين.
طموح الرواية وطريقة سردها المتشظي، ومقاطع من الشعر النثري، والتنقل السريع بين وعي شخصياتها المختلفة – يتميز بالأصالة والجسارة في الخروج على الحبكة التقليدية للسرد الروائي مع قدر كبير من الثقة والاتزان. لذا، ليس من المستغرب أن تصف الكاتبة ألكسندرا هاريس، في كتابها الرائع الرومانسيون الحداثيون رواية بين الفصول بأنها "التعبير الأغنى والأكثر وعيًا عن هذا الاتجاه نحو رؤية غير نقية، شاملة، وإنجليزية للغاية".
لاحظ النقاد ميل فيرجينيا وولف إلى دمج مناقشات حول الظروف الاجتماعية وإمكانية التغيير في أعمالها المتأخرة، لا سيما فيما يتعلق بالمرأة. ففي عام 1937، نشرت روايتها الأكثر مبيعًا "السنوات" التي تتبعت حياة عائلة بارجيتير على مدى خمسة عقود، واستكشفت آفاق شخصياتها النسائية وحدودها.
بعد عام، أصدرت وولف عملًا جدليًا غير خيالي كان قد تبلور بالتوازي مع رواية ا أصدرت وولف عملا واقعيا بعنوان " ثلاثة جنيهات" وسردتها بتقنية الرسائل وأرسلتها إلى سياسي مجهول تخبره فيها عن الطرق المختلفة التي قد تُمنع بها الحروب، وكيف أن الوضع الاجتماعي للنساء حال دون أن يكنّ قادرات على لعب دور كامل. كتبت وولف:
"السؤال الذي يعنينا هو: ما المساعدة الممكنة التي يمكننا تقديمها لكم لحماية الثقافة والحرية الفكرية – نحن، اللواتي تم إقصاؤنا من الجامعات مرارًا وتكرارًا، ولم يُسمح لنا بالدخول إليها إلا مؤخرًا وبشروط مقيدة للغاية؛ نحن، اللواتي لم نتلقَّ تعليمًا مدفوع الأجر على الإطلاق، أو تلقيناه بشكل ضئيل بالكاد يمكننا معه قراءة لغتنا الأم وكتابتها؛ نحن، اللواتي نُعتبر في الواقع أعضاء ليس في طبقة المثقفين، بل في طبقة الجاهلين".
كان العمل بمثابة دعوة نقدية للتفكير في الأدوار الاجتماعية والفكرية للمرأة وتأثيرها على قضايا كبرى مثل الحرب والثقافة.
بعد أن أنهت وولف عملها على " ثلاثة جنيهات"، وفي خضم حزنها على وفاة ابن شقيقتها جوليان بيل، الذي قُتل في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1937، وجهت تركيزها إلى روايتها بين الفصول بدأت العمل عليها في عام 1938، حين كانت نذر الحرب تخيم على الأفق، واستمرت في كتابتها حتى عام 1941، في وقت كان فيه الصراع قد اندلع بالفعل وكانت لندن نفسها تحت الهجوم.
كانت وولف تفكر في تسمية الرواية قاعة بوينتز وهو المكان الذي تبدأ فيه الأحداث قبل ستة أسابيع من اندلاع الحرب: في منزل ريفي "متوسط الحجم" قد يبدو جذابًا للقارئ المعاصر، لكنه يوصف بأنه "متواضع للغاية" بحيث لا يستحق إدراجه في كتب الدليل السياحي.
تبدأ الرواية عندما يجتمع آل أوليفرز معًا في منزلهم في قاعة بوينتس في المساء الذي يسبق المسابقة السنوية. يقوم أحد الجيران بزيارة السيد بارت أوليفر. يجلسون يتحدثون عن المشكلة التي تواجهها القرية في الحصول على المياه النظيفة.
يظهر من السرد أن زوجة ابن أوليفرز معجبة بهذا الجار الذي التقت به في ذكرى حفل تنس الذي شاركت فيه روبرت هينز اللعب. ولبرود الحياة الجنسية بينها وبين زوجها جايلز أوليفر الذي انشغل عنها بالأعمال التي يؤديها في لندن، حيث يضارب في البورصة، وقعت في حب الجار.
تحمل الرواية صراعا بين خطابين، الخطاب الذكوري لبناء الإمبراطورية والرأسمالية التي يجسدها بارثولوميو أوليفر، والخطاب النسوي عن الحياة المنزلية والعائلية التي تجسدها أخته، السيدة سويثين.
بينما كانت وولف تنهي روايتها، شعرت مرة أخرى أن عقلها بدأ ينكسر، كما يشهد على ذلك الملاحظة التي تركتها لليونارد قبل وفاتها:
"عزيزي، أشعر بأنني متأكدة أنني أصاب بالجنون مرة أخرى. أشعر أننا لا يمكننا أن نمر بتلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى. ولن أتعافى هذه المرة."
كانت هذه الكلمات لحظة شديدة العاطفة، تعكس المعاناة المستمرة التي كانت وولف تعيشها بسبب مرضها النفسي، الذي أخذ منها في نهاية المطاف. إنها رواية عن الحرب والحب والخيانة والحياة العاطفية للنساء.
|