القاهرة 31 ديسمبر 2024 الساعة 12:13 م

بقلم: د. حسان صبحي حسان
ذهب الفيلسوف الإيطالي "بنديتو كروتشر" إلي أن الفن هو تعبير عن عاطفة أو حدس أو شعور، يصدره الخيال والتصور الإنسان بهدف تدشين البهجة والتفاعلية مع العمل، ونقل الإنسان من عالمه اليومي الممل لعالم مثالي مفعم بالجميل والجليل والتسامي. ومال الفيلسوف المجري "لوكاتش" إلى غائية تنحاز نحو تقديم صورة عن الواقع ينحل فيها التناقض بين (المظهر والواقع، الجزئي والعام، المباشر والتصوري) حتى ينصهر ذلك الجانبين في وحدة تلقائية، داخل الانطباع المباشر للعمل الفني، وتقديم شعور بوحدة لا تنفصم. وهو ما تسق مع إشارات الكاتب الانجليزي "اوسكار وايلد" "بأن الحياة تقلد الفن أكثر مما يقلدها" فالأشياء التي ينتجها الفن ماهي الا تحريض ابداعي نتاج الخيال وجسارة المغامرة، ليأتي تمازج الواقع بالخيال الذاتي والموضوعي لتخصيب رؤى وتراكيب بصرية، يتماهى فيها اللون والشكل بعفوية ساحرة.
وفي مدارات البحث عن الجمال، لا يستمد الإبداع الفني مقوماته فقط من الطبيعة، بل يمتد لانعطافة كبيرة تضم المخيلة الفنية المخصبة، التي تسعي نحو تلمس مراحل فنية أكثر تطورية، واقتحام عوالم غير مكتشفة، وهو ما دلل عليه "أرسطو" حول الارتباطية بين الخيال والتجربة الحسية، وتأكيده علي الخيال كامتداد لنشاط الأحاسيس، وقرين للإبداع عبر (تمازج بين العاطفة، وتجسيد التصورات ولملمة أفكار الفنان وصقلها، وامتلاك الحرفية والوسائط التي توظف ذلك الخيال). ليمتلك بذلك الخيال قدرات وممكنات تسليح ذاتية الفنان بروح المغامرة، وجسارة اقتحام مساحات أبعد من مجرد محاكاة الواقع، لصالح تسامي يعيد صياغة ذلك الواقع من جديد، والتنقيب عن الحقيقة، لإبداع ما هو أكثر من الأشياء وتصدير الروح الجديدة، فلا تستطيع رؤية العالم شاعريا الا إذا أعيد إبداعه من جديد. فالخيال إلزامية للفكرة والعاطفة، وتعضيد لثقل وزن التجربة الفنية.
وتأتي أعمال الفنانة "رندة فخري" لتتماس موضوعاتها مع الجمهور بصدق جلي، عبر طابع درامي خصب، ونضارة فكرية متجددة لا تعرف لحظات الأفول، فلديها فنا لون بإبداع خاص امتزج بمفاهيمه جادة غير اتباعية، ونشاط روحاني موسوم بالخيال، فتدثرت بمشاهد سحر الشرق والمصرية، حيث اتخذت من التصوير رسالة إنسانية عززتها موهبتها النابهة واستعدادها وثقافتها ومخيلتها المحلقة الحداثية، بدراية الخبيرة الأكاديمية، ووعي ثاقب، وعنفوان وطلاقة إبداعية فذة، ليتبلور تفردها في التماس والتعالقية بكل حواسها وجدانها لعوالم موازية ذات جوانب أسطورية ورؤى فانتازية سامية تنبض بالبراءة، ليدرك المتلقي من خلال القراءة البصرية لأعمالها (غرام الفنانة) بعوالمها، والزمكانية الأسطورية، لتصدير درجات من التباسط والإنسجام والبهجة، والتي تحقق الغائية من أكثر الطرق دون انتقاص ومتاهات وجودية.
وفي محاولات إثراء الخطاب البصري وعالم الرؤية، أفاضت الفنانة بقوة تموجات متتالية من الدرجات والطبقات اللونية المتراصة والمتتالية، عبر مستويات محددة وهندسة مؤنسنة، ورشاقة الانتفاض من الزوائد والثرثرة الشكلانية والذهنيات المفرطة في أيقوناتها البصرية، للعبور لعوالم هادئة مخصبة بأجواء بريئة طفولية حالمة تمثل بوح الفنانة عن عوالمها الخاصة، عبر لمساتها المفعمة، والتهشيرات الثرية، والتنقلات الدينامية بين الفاتح والداكن في حنايا التكوين. لتتلمس شكلانية مصطبغة بمضمون إنساني عميق، يزاوج في رصانة فيما بين (النورانية- وطاقيه التعبير، وانعكاسها في بدن الخامة والوسيط المستخدم- وتدفق وجريان العاطفة في نسيج الفكرة ونقائها في صورة متوافقة مع أحاسيس ومشاعر الفنانة- والخيط الرفيع بين الخيالي الفانتازي والواقعي- وما بين الخفي الاسطوري المستتر والتجلي الحاضر العاطفي- والصفاء الروح الداخلي والصخب الضجيجي الخارجي- وحضور التجاوب التفاعلي مع شكلانية الأعمال الفنية)
حكايات تسردها "الفنانة" عبر مخيلة متوقظة، وبحث فكري جمالي رصين، تسرد الفنانة "رندة فخري" روايات حكائية، لإبداع هياكل مرئية مركبة تكشف عما يستقر في السرداب النفسي للإنسان، والتنقيب عما ترسب في الوعي والوجدانية الإنسانية، وتجاربها الحياتية، نوعت الفنانة "رندة فخري" الطبيعة الشكلانية في شروحاتها البصرية، لتنبري شخوص أدمية بملامح تشريحية تعبر عن حالات بين الفرح والحزن، ونظرات ذات تأمل وفكر، وشخصيات إنسانية وملائكية ذوي قدسية في المضمون والمثالية والطاقة، مع طيور وأطفال تعزف الموسيقى مع ألعابها الخشبية، وسط الورود والتوريقات النباتية، وشخوص هائمة داخل عوالم تعج بالسحر والغموض العاطفي، تتحرك فيه قطط أليفة، وعرائس ماريونيت، وبغبغاوات ملونة، وشخوص ترتدي وجوه حيوانية تخفي ملامحها الغامضة، في رونق وبهاء وجمال، كرسالة للتواصل بين كل كائنات الحياة بين الطير والحيوان والانسان.
فالخطاب البصري للفنانة "رندة فخري" بمثابة خبيئة من الحكايات والأبعاد الإنسانية، وعوالم عاطفية احتمت واستقوت بها الفنانة، فترجمتها برصانة وحميمية وعشق، كمحركات وشاحذات لهياكلها المرئية، في نسق خيالي يعج بالتعبيرية والمعالجات التقنية الخاصة، والصياغات الفنية لشخصياتها، وهو ما ينسج ترابطا وتعاطفا بين رسائل العمل وشعور المتلقي، للغوص في مشاهد إنسانية ملهمة تلقيها شاعرة حكاءه، وفيلسوفة لديها لغتها النبيلة، وعازفة تنثر نغمات موسيقية تنبض بقدره على ترجمة الأفكار، وتكشف لوجهات النظر الجمالية الخاصة التي تدفق نحو غايات فكرية جمالية وتعبيرية مفعمة، كنتاج لتأمل وتشخيص حقائق وجودية، وتفسير للواقع ومكتنزه وأساطيره، بهدف اجترار الفنان لفك الشفرة الأم، والولوج لعوالم باطنية جوانية وطاقات النور، التي تستشرف من خلالها مكنونات وجدانية وزخم روحي صيروري.
وتأتي قدراتها التقنية والتكنيكية، لتعزز سيطرة " رندة فخري" على الفكرة، وتجسيد الخيال والأحلام والأمنيات، من خلال معزوفات موسيقية عزفتها يد الفنانة التي لمست تلك الوحدة بين الأشياء، وتأسيس سيمفونيات تتردد نغماتها همسا، صاعدة وهابطة، ليصبح العمل الفني لديها مساحة تفاعلية ذات أبعاد حقيقية ملموسة، وإطار مسرحي يسجل سياقات وطبائع ميثولوجية مثقله بالايحاءات، ووشمها بتقنيات جمالية ونسق ادراكي بليغ، لما ترسب وعلق في مخيلتها عن أحوال نستولوجية قديمة، كرؤية موضوعية للحياة والواقع من منظريه الفنانة، وانبثاقيه خوالجها الداخلية بما يعمق بمتانة التشكيل الفني المعاصر، وتخصيبه بالدلالات والمعاني والأسلوبيات التقنية، لتسطير فن يأخذ العقل والقلب وتذهب النفس في تفسيراته.
فإغترفت الفنانة "رندة فخري" من بحور ومناحي إنسانية دافئة تنطق (بفرح وقهر- وعناء وبراح- وقساوة ولين- وضعف وقوة- واختلاط وانزواء- وحوار وصمت- ووضوح وغموض) مع طيور وحيوانات ونباتات وورود وأشجار ومربعات شطرنجيه، وتداخل وتوالد الترددات والتوريقات الرسومية بصدق مكين، وهمس الحوار الكوني بين مفردات الحياة فنري الإنسان والحيوانات والورود الكل ينصهر في السرداب في بوتقة واحدة، والذي نسجه الهام الفنانة وقدرتها التشكيلية، للانتقال بين الواقع الظاهري للماورائيه والضمنية في عوالم أخرى موازية، والتنقيب عن أبعاد درامية وتصورات ذات طابع فكري نابض وهيم عاطفي حالم، لتصدير أشكال تعبيرية فصيحة وتعبير أيقوني، وسحر يفصح عن خلجات ومشاعر الفنانة، وتأليف عوامل بصريه ناطقة، لإبراز العمل في رونق وجاذبية إبداعية، يتكشف ويتكثف الإحساس بالإيقاع.
لذا امتلكت الفنانة ملكات العبور إلى ذواتنا وفهم المحيط، في أطروحات ذات تشكيل لوني وبناء بصري داخلي معبر، يتجرد من السياق التمثيلي الحكاء لصالح المغزى والخيال والتحليق الميثولوجي الذي يروض الوسائط لتأطير طاقات تعبيريه وعاطفية وروحية، وكذلك التجريب في المناحي الأسلوبية والتقنية والمذهبية الجمالية متمسكة بمواضيع تعززها الهوية والذاتية، لبلوره أسلوبية ميثولوجية فكرية في ضوء رؤية تنبع من الداخل الجواني ونفسية الفنانة والمحيط العصراني الذي تتعايش فيه، لاستحضار كل ما يقع فيما العوالم الماورائية.
وكما أشار الأيقوني " فاسيلي كاندنسكي" في مغزى ووظيفة اللون (بأنه الأبجدية التي تترجم العاطفة، والجسر الذي يحمل الأفكار، ويستحضر الماضي) وهو ما تسعى له الفنانة "رندة فخري" عبر انتقائية لمخططات لونية دون غيرها، وتراتيب الألوان الحارة مع الباردة، وشدات اللون، ودرجات تشبعها، ومجموعات لونية ليست صارخة، بل هامسة موسيقية تتسق وشخوص وموضوعات العمل، كنصوص وكتابات ورسائل مشفرة، والحضور اللوني الداعم للشخصيات الرئيسية وتدثيرها برداء الشاعرية، وتسكينها في رسوخ داخل فراغات أثيرية حالمة، ووميض التوريقات النغمية عبر درجات لونية رهيفة مشربه بنثرات من النورانية والإشراق.
|