القاهرة 31 ديسمبر 2024 الساعة 09:38 ص

قصة: عمر أبو القاسم الككلي
وهو يقطع الشارع، مغصوصاً بفداحة الانسحاق ممتلئاً بهاجس غامض، لاحظ أن امرأة تنظر إليه بود ولين. هبت نسمة دافئة في برودة دمائه. فكر: "يجب أن أتشبت بشيء يخفف من نهش الشعور بالسقوط". اصطنع بسمة مقتضبة بعثها من خلال غصته.. ردت المرأة بابتسامة عريضة. ازداد هبوب النسيم الدافيء.. "يجب أن أتشبت …". اتجه إليها.. مد يده مرتبكاً:
- مرحباً..
فوجئت المرأة. مدت يدها متداركة:
- مرحباً!..
أحس بلمس يدها المستريب المتعلثم. سيطر على نفسه:
- أرجو ألا يكون لديك مانع من أن نتمشى قليلاً.
- نتمشى أين؟!!
أحس، من نبرتها، أنها تريد أن تحذر من التفكير في أشياء معينة.
- حيث ترتاحين. لن أثقل عليك. سوف نتمشى قليلاً ونتحدث. هذا كل الأمر.
ابتسم مشجعاً. ابتسمت المرأة مطمئنة:
- لا بأس. نتمشى ونتحدث.
سارا معاً. كان الرجل يحس أنها شخص يمكن يأنس إليه وينفتح. لم يشغل نفسه، كثيراً، بالبحث عن بداية للحديث."اللحظات الأولى مربكة دائماً. وإذا كانت تأنس حقيقة، فإن الكلام غير ذي أهمية كبرى، كما أنه سينشأ عفوياً"....
أعاده الصمت لأساه وانسحاقه: [غمروا رأسه في الماء الحار. صعقوه بالكهرباء. ضربوه بالعصي وقضبان الحديد على قدميه. لسعوا لحمه بالسياط. وضعوه، كثيراً، في زنزانة منخفضة السقف لا تسمح له بمد قامته، لا تسمح له بالجلوس براحة، حيطانها مغلفة بحصى خشن حاد، يرتفع الماء في أرضيتها حتى الكعبين، مضاءة دائماً بمصباح يصدر طنيناً وضوءاً أصفر قوياً. كانوا يجبرونه على أن يزحف وينبح "إنك تنبح أفضل من الكلاب!"، أو ينهق "إنها المرة الأولى التي نتعامل فيها مع حمار!". "ما أصعب استنطاق حمار!". أزالوا شعر رأسه بالنار. نتفوا شعر بطنه والأماكن الأخرى نتفاً وحشياً. كانوا كثيراً ما يرغمونه على تناول مقدار من الملح، ثم يجردونه من لباسه، ويربطونه واقفاً، وحين يجف لعابه ويستبد به الجفاف يمنعون عنه الماء. يتوسل. يثقل لسانه. يحركه بصعوبة كي لا يلتصق بسقف فمه. ينخرط في العويل. يتسلون بإراقة الماء على الأرض وعلى صدره وساقيه. "ليبصق أحدكم في فمي على الأقل". يفتح أحدهم بنطلونه: "اعترف أو امتص من هذا ". يغرقون في الضحك الداعر.."أرجوكم. ابصقوا في فمي. أرجوكم. أو فاقتلوني."يفقد القدرة على فتح عينيه أو الكلام. عندها يسعفونه. غزاه المرض والذبول المذيب. لم يعد يحتمل. صار الموت رحمة].
قال الرجل:
- ربما بدا أسلوبي غريباً. لكني أحب أن أكون صريحاً. إنني أضج بالوحشةوالفداحة وأتمنى شخصاً يشعرني بالأنس ويمكنني من لم شتات ذاتي.
ردت المرأة بابتسامة دافئة .
- أرجو ألا يفهم كلامي على غير الوجه الذي أعنيه. إن استئناس امرأة بي يرطب خاطري ببعض المسرة..
كان الرجل يرغب أن تقول شيئاً حنوناً . لكن المرأة ردت بابتسامة .../ خشي أن تكون غير مطمئنة وأنها تشعر بالتورط والندم..
- لعلي أثقل عليك!.
ردت، مطأطئة، بابتسامة خجولة. أحس،في موقفها، بالعفوية والطفولية والود. لكنه كان يريد أن يسمع كلاماً صريحاً.
- لم تجيبي!
- لا أحد يجبرني على السير معك!
- أريدك أن تتكلمي كي أشعر بارتياحك حقيقة.
رفعت المرأة رأسها. نظرت إليه مبتسمة:
- حسناً!. إنك لا تثـقل علي، وإني مرتاحة لوجودك معي، لكني لا أجد موضوعاً للحديث. ثم إني مهمومة.
صار تيار الهاجس الغامض أكثر اندفاقاً. أحس برغبة في الهذيان..
- ما أعتى الهم، وأضعف الفرح!.
- لم أفهم !.
- كنت أهذي!.. يضايقك هذا؟!.
- أبداً!. فقط اعتقدت أنك ترد على كلامي!.
كانا قد وصلا جوار حديقة عامة. قالت المرأة:
- لقد سرت اليوم كثيراً!.
- نتريح هنا!.
توغلا في الحديقة. جلسا، جنباً لجنب، على مقعد خشبي. سرح الرجل بتفكيره. كان دائماً يحلم أن يلتقي بامرأة لا يعرفها ولا تعرفه.. ينجذبان لبعض فجأة.. يتآلفان سريعاً كما لو كانا على علاقة حميمة منذ أمد بعيد.. يعبان من ينابيع الحب والمتعة والهناء ولا يفترقان. ضحك في داخله:"هل صار بعض أحلامي يتحقق!". تابع، بنظره، أطفالاً يطاردون بعضهم في عنفوان وسلاسة، ونسوة يبدو أنهن يثرثرن حديثاً مكروراً، وشباناً يتسكعون في استيحاش ومرارة.. شعر بفظاظة الصمت. التفت إلى المرأة. ابتسمت بخجل وحنان. قال لها:
- أرجو ألا يضايقك هذا الصمت، الذي يبدو أنه لا مفر منه!.
قالت المرأة خافضة رأسها متلهية بفرك كفيها:
- أحياناً لا يكون الكلام مهماً كثيراً... / ليس الصمت،وحده، هو الذي يجلب الضجر.
"لقد أحدثوا في عطباً يستحيل إصلاحه. تطاردني الكوابيس حتى في أحلام اليقظة. إني أتخبط في بحر من الإحباط والعجز واحتقار الذات، و لم يبق إلا أن أتشبت بامرأة. لعل هذا يهبني بعض الراحة". وضع يديه في جيبيه مدارياً ارتباكه. أحس بلمس ورقة مثنية. أخرجها. كانت متآكلة في ثنياتها ولونها كالحاً. تفحصها. قالت المرأة فاتحة سبيل الحديث:
- هل بها شيء مهم؟.
رد الرجل في مرارة :
- كان مهماً، ربما؟. شيء كتبته منذ زمن انفصلت عنه. أقرأ عليك؟.
- إذا أحببت. أريد أن أسمع.
قرأ في حسرة :
"البحر صحراء من الزرقة الغافية والماء. و أنا أحضن الأفق وأغني للقادم – المستحيل. أكاشف البحر سري فيربكني بالصمت الذي لا يفصح والإيماءة الغامضة. في غفلة من وجع الحزن أغفو وأحلم بامرأة مستحيلة".
قالت مداعبة:
- لا أعرف كيف ستكون هذه المرأة المستحيلة!.
- لا أدري!.
- كيف؟!. أنت من يحلم بها!.
- كان ذلك منذ زمن انفصلت عنه!.
- و الآن ؟!.
- لم أعد أحلم بشيء!.
- غير معقول !!.
- لقد وقعت من قطار الحالمين!.
- لست أفهم !.
قال الرجل محاولاً كظم مرارته والقبض على هدوئه:
- لم أعد احلم بشيء. إني لم أعد أحلم بشيء. هذا غريب ومفجع، لكني لم أعد أحلم بشيء.
صمتت المرأة. قال الرجل:
- آسف. إني متوتر. آسف جداً.
- لا عليك. لم يكن من حقي أن أسألك.
- أبداً. ليس هذا ما أريدك أن تحسي به!
- إني أعذرك. لك خصوصياتك التي لا ينبغي أن أعرفها …/ من أول لقاء على الأقل!.
صمت الرجل منقبضاً مرتبكاً متحاشياً النظر إلى المرأة. ظلت المرأة تتأمله بشفقة وحيرة. استغرق الرجل في مراقبة طفلة تطارد عصفوراً صغيراً. يطير العصفور مسافة قصيرة، ثم يضطر -تحت وطأة التعب والعجز- أن يحط على الأرض. تدركه الطفلة.. تحاول الارتماء عليه.. يفلت، مرتجفاً مصمماً، من بين يديها مبتعداً قليلاً. تدركه.. ترتمي.. يفلت، بغرابة، مصدراً صوتاً موجعاً..تمكنت منه. أمسكته بين راحتيها بحرص وفرح ولطف، وعادت راكضة نحو أمها، استوقفها الرجل متلطفاً:
- تعالي.. أمسكت عصفوراً.. كيف أمسكته …
ردت الطفلة باعتزاز:
- ركضت خلفه. إنه صغير لا يستطيع الطيران مثل الكبار!
- هل طاردته طويلاً..
كانت الطفلة قد أمسكت العصفور بيد وأخذت تمسده، بلطف، باليد الأخرى:
- لقد أعياني. كلما أهم بمسكه يفلت مني !.
وقربته إلى صدرها في ابتهاج.
- هل يعجبك كثيراً؟.
- نعم !.
- ماذا ستفعلين به ؟.
- سنذبحه !.
- لكنه صغير وليس به لحم.
- سألعب به.
- يهرب منك أو يموت.
- نضعه في قفص.
- ليس من عصافير الأقفاص. سيموت أو يقتل نفسه.
سكتت الطفلة حائرة .
- أعطه لي وسأعطيك نقوداً .
- ماذا ستفعل به؟!.
- أطلقه يذهب إلى أمه.
- يذهب إلى أمه؟!.
- ألا تقلق عليك أمك إذا لم تعودي إلى المنزل؟!.
- تقلق كثيراً.
- هو أيضاً له أم تقلق عليه. ولا بد أنها تبحث عنه.
مد لها النقود. أحمر وجهها وترددت. ثم تم التبادل وانصرفت ماشية. قالت المرأة مبتسمة:
- ماذا ستفعل به؟!
- أطلقه يذهب إلى حاله!.
ضحكت المرأة:
- لقد لاحظت الطفلة أنه صغير ولا يقوى على الطيران!.
- يعني ………؟!.
- يعني أنك إذا أطلقته سيمسكه طفل آخر!
نظر الرجل في عينيها الودودتين مبتسما:
- لقد فاتني ذلك ! .
سكتت المرأة منشرحة. نظر الرجل حوله. كانت الطفلة واقفة تراقب ماذا يحدث للعصفور. ناداها الرجل. قدمت بهدوء.
- خذي عصفورك. احتفظي به.
أخذته مسرورة :
- والنقود؟!.
- احتفظي بها.
- لماذا لم تطلقه؟!.
- لقد تعبت كثيراً حتى أمسكت به!.
ركضت الطفلة مبتعدة. قالت المرأة:
- إنك رقيق!.
- كلنا رقيق!.
ردت المرأة ضاحكة:
- لا أقصد ذلك!.
- على أية حال..
قالت المرأة وصوتها صار ملطفاً بنكهة معينة:
- أنت رقيق حقاً، وتبعث حولك نوعاً من الألفة واللطافة.
انثال شيء في أعماق الرجل:"هل أخيراً …!!! …/ أ أطرح هجير لهفي المبرح بساطاً، أم أتماسك منتظراً جودة الغيث …".
- - أنت ودودة ومؤنسة، وجميلة.
اكتسى وجهها بحمرة الخجل والاغتباط . قال الرجل:
- إنها صدفة مذهلة أن ألتقي بك اليوم. لعلك لا تدركين مدى اغتباطي بك..
طأطأت المرأة هامسة بخفوت:
- أنا أيضاً.
- أنت أيضاً ماذا ؟!.
- أنا أيضاً مغتبطة.
ظل الرجل يتأملها ويباس أعماقه يرتوي غبطة:
"أ أحلم أم أن حلماً يتحقق!!!!…". قال لها:
- ما رأيك أن نتمشى على الكورنيش ونراقب البحر..
ردت المرأة وصوتها مترع بالنكهة المعينة:
- تحب مراقبة البحر..!!
- وأنت معي.
نهضت المرأة. سارا متلاصقين..
- ألم تكن تراقبه قبلاً!..
- معك سيكون للأشياء رونق آخر..
تلاصق الجسدان أكثر.. قالت المرأة:
- قلت، حين التقينا، أنك تتمنى شخصاً يشعرك بالاطمئنان ويجعلك تستجمع ذاتك.
- نعم .
همست:
- يسعدني جداً لو أستطيع أن أكون هذا الشخص..
أمسك يدها، بغتة، وهو يرتجف من اختضاض الفرح داخله..
- حقاً ؟؟؟!!!..
"أصرخ من هول الفرح وأرقص عارياً كالنبع منفلتاً نشوان كنهود العذارى وكالبوح والموج، أم أكتنز تألقي وأغفو كالطفل في أرجوحة الحنان …" . داعب يدها بامتنان..
- إن وجودي مع رجل يحتاج إلي، يخفف كثيراً من قساوة القبضة التي تعتصر فؤادي.
عاوده، فجأة، تيار الهاجس الغامض. احتفظ بيدها المستسلمة المتوددة دون أن يتكلم .قالت المرأة مداعبة:
- لكني لا أعتقد أني امرأة مستحيلة!
ضحك وهو يضغط يدها صامتاً.
وصلا الكورنيش القريب من الحديقة. ترك يدها واتكآ متلاصقين. كان الأفق ينحني غامضاً مكابراً والبحر يتمدد متكاسلاً متلذذاً. تذكر رغبته القديمة في أن يسبح هو وامرأة في البحر عاريين، ويركضا على الشاطيء، ساعة الشروق، كمهار البراري، ثم يندغما على وشوشة الموج وابتهاج الرمل، وتذكر أنه جاسد امرأة، في الحلم، مرة وهما يفترشان البحر. لكنه ، الآن يرغب لو يسبح، عارياً، في خط الشعاع المنعكس المتلألئ في خفوت وكآبة، الذي تنشره البرتقالة المتوهجة بالدم.. ثم يغرق هنالك، بعيداً، في اللجة، في سكون ودعة وليونة، كما يغرق الوعي في طراوة النعاس. كانت طيور البحر البيضاء تحوم متفرقة تحت السماء المغبشة.. أحياناً يسف طير على وجه الماء، ثم يندفع سريعاً صاعداً في أناقة. تخيل نفسه يتحول إلى طير برتقالي اللون ينطلق، مفجوعاً بالقهر والشوق، صوب الشمس المتوهجة التي تكابد لحظة النزع، ويظل يطير حتى الإنهاك، ثم يسقط في البحر ويغرق في هشاشة الزبد مثلما تغرق أنفاس الرضيع النائم في الصمت. طغى عليه ذلك الهاجس الغامض وصار يكون أطياف إيحاءات و تيارات من القشعريرة في طوايا الشعور وانبثـقت بذاكرته سطور حفظها من قصيدة ما:
"كيف التقينا
كيف اختصرنا مسافة غربتنا في ثوان
كأن جنونك يعرف وجه جنوني
كأنهما أخوان."*
التفت اليها:
- من كان يتوقع هذا اللقاء !!!.
ابتسمت في خجل شفيف:
- المهم أنه وقع!..
أمسك يدها..
- المهم أنه وقع.
ضغطت المرأة على يده..
- يدك باردة!..
صارت أطياف الإيحاءات أقل هلامية والقشعريرة أكثر انثيالاً. سألها بحزن فجائعي:
- هل سنلتقي ثانية؟!!
شرد سؤاله انسجامها.. قالت مقطبة:
- ما المانع؟!!؟.
- لدي إحساس ما بأني سوف لن أتمكن من لقائك.. إنني سعيد بهذا اللقاء على أية حال.
ضغطت يده الباردة في حنان كان يحلم به طيلة حياته..
- أرجوك: لا تفزع روعة اللحظة!
- لا تؤاخذيني. أحببت ، فقط، أن أصارحك بهواجسي.
- هل دائماً يدك باردة؟!!.
- لا أعرف. لم يحدث أن بقيت في يد شخص آخر بهذه الصورة!!.
- ابتسمت المرأة في ارتياح وتوهج:
- لا تخف. لن أشعر بالغيرة..
- للأسف، حتى لو كنت تغارين، ليس هناك ما يبعث على الغيرة.
ضحكت المرأة :
- تريدني أن أصدق!!
طيور البحر ما زالت تحوم، والبراح المائي يبدو أكثر سرية وحميمية تحت نعاس وهج الشفق، وقرص الشمس صار كأحمر ما يكون وهو يجهد نفسه في الاحتفاظ برمقه الأخير. قال الرجل:
- ننزل إلى الشاطيء؟.
- أعتقد أن الوقت متأخر.
- لن نمكث طويلاً.
ما زال ممسكاً يدها. ضغط عليها بتوسل:
- ستكون المرة الوحيدة التي تقف فيها معي امرأة على الشاطيء.
وهو يقول "الوحيدة" كان الهاجس الغامض قد وضح تماماً، وصار يشعر بوخز طفيف في قلبه. قالت المرأة:
- لماذا تقول "الوحيدة"، ولا تقول "الأولى"!!!.
- ننزل؟.
قالت في انصياع ودود.
- ننزل ..
ترك يدها. سارا خطوات بمحاذاة الكورنيش. نزلا سلماً حجرياً. بين جدار الكورنيش والبحر يستلقي فراغ كبير تتبعثر في جزء منه بعض القوارب والمراكب الصغيرة التي نما حول بطونها العشب وحال لونها وتآكل خشبها، وكان البحر منكفئاً على نفسه يشع غموضاً ولا مبالاة، تحدث أمواجه وشوشة وشهيقاً وزفيراً زاخرين. ظل الرجل مستغرقاً في ألفة غريبة ينظر إلى الأفق المضرج والطيور اللاهية والزبد الهش والشمس الآفلة، غير غافل عن الوخز المتنامي في القلب. عب من النسيم المترع بروائح السمك والطحلب والملح والكآبة المرجفة. التفت ناحيتها:
- الذي رأى كيف وقع لقاؤنا: ثبت لديه أننا نعيش علاقة منذ زمن بعيد!.
ردت المرأة ضاحكة:
- الحقيقة أن هذا الشخص مصيب إلى حد!
- كيف ؟!
- لقد أخفيت عنك أني أعرفك، على نحو ما، قبل الآن!
استشرى الاندهاش في الرجل:
- غريب !!؟؟
- لقد تغيرت ملامحك كثيرا!. تعرفت عليك بصعوبة!.
- غريب!!.. من أين تعرفينني؟!
- أخي يعرفك. رأيت صورا لك عنده، ويحدثني عنك أحيانا. ورأيتك معه مرتين أو ثلاثا.
سألها عن اسم أخيها. حين ذكرته: ازداد، بغتة، ألم قلبه بشكل حاد. "اعترف أو امتص من هذا" . "سوف أعترف.سوف أعترف وبعدها اقتلوني. اقتلوني. اقتلوني. اقتلوني فإني لا أستطيع الحياة بين الناس مطارداً بلعنة سقوطي"..
- أين هو الآن؟!.
- لقد اختفى منذ شهور. ذهبنا إلى أصدقائه الذين نعرف أماكن سكنهم، فوجدنا بعضهم قد اختفى أيضاً. فيما بعد علمنا أن هناك اعتقالات والسبب غير معروف!
لاحظت المرأة أنه انحنى قليلاً ضاغطاً على قلبه براحتيه مغمضاً عينيه عاضاً شفته السفلى.
شعرت بالهلع. أمسكته من كتفيه:
- ماذا بك؟؟!.. ماذا بك؟!
- قلبي. قلبي..
كان يتكلم بعسر..
- أريد أن أتمدد قليلاً .
ساعدته على الجلوس.. ساعدته في أن يتمدد على ظهره. وضعت يدها على يديه الضاغطتين على قلبه..
- سوف أنادي من الشارع أحداً يساعدني.
أمسك يدها …
- لا داعي .. لا فائدة. حدثتك عن ذلك الإحساس.
ضغطت على يده..
- سوف أنادي أحداً.
همت بالنهوض. مد يده:
- كلا!… أرجوك.. دعيني أموت بهدوء!
تذكر أنه كان يقول لأصدقائه بأنه يفضل الموت بين يدي البحر. كان يمزح. لكن كان لديه شعور مبهم بأنه جاد. شعر ببرودة العرق على جبهته وباقي جسمه. أخذ يدها بين يديه.. قربها من شفتيه.. لثمها بلطف وارتياح. مد يده متحسساً نعومة شعرها..
- إذا رأيت أخاك ثانية، أرجوك ألا تحدثيه عني!.
كانت يده المنهكة المتشنجة لا تزال تداعب شعرها..
- أرجوك.. أريد أن تقبليني قبل أن أموت..
مررت يدها تحت رأسه. ارتكزت بالأخرى على الأرض من الجهة الثانية.. قربت وجهها ببطء.. أخذت شفته السفلى بين شفتيها. أحس بطراوة وارتعاش شفتيها وسخونة وملوحة دموعها.. حين رفعت رأسها أمسك بيدها:
- لا تبكي.
ترك يدها ضاغطاً قلبه منتفضاً من اشتطاط الألم. ازداد نزيف العرق وتغضنت قسمات وجهه. كانت المرأة تشاهد الحالة في ارتباك ووجع متغلغلين. غامت عيناه وصار يسمع خضيض الأمواج خفيضاً ساحراً ويحس أنه يهبط، بطيئاً بطيئاً، نحو قاع البحر والبرودة اللطيفة تدغدغ لحمه، ويتوحد والغياب.. سكن الجسد نهائياً. انتفضت المرأة مذعورة. أطلقت عويلاً مفجوعاً كان دفيناً. الشمس اختفت تماماً، وطيور البحر متهيئة للرحيل، وتلفع البحر بظلام شفيف وصوت الأمواج صار أكثر ضجيجاً، في حين تخبو بقايا الشفق في الأفق.
• مقدمة (لراوية شعبي):
وكانت خيول الظلام
تحمحم بين الزوايا
وتصهل في كل قفل معلق
وفي كل عروة رعب تلف الرتاج
وتصهل.. تصهل تصهل ….
تصبح أصواتها نغمات التوافق
وإيقاع صوت القرار وصوت الجواب".**
* محمد عمران
** محمد عفيفي مطر.
|