القاهرة 23 ديسمبر 2024 الساعة 10:29 ص

بقلم: د.حسان صبحي حسان
من خلال نظرة عميقة شمولية لا ينطلق الفن من المواقف واللحظات العابرة العارضة، ولكنه ينفذ إلى صفاء الشكل وحبكة التكوين وتطهير الأشكال من خصائصها العضوية والطبيعية، والتجرد من التفاصيل الزائدة، للإمساك بالنقائية وجوهر الحقائق لتتبلور مدركات بصرية لا تستجيب لأي صورة مسبقة، لكنها تتغذى من أحاسيس وخبرات الفنان، وإعلاء التقنية توازيا مع البعد المادي والفكري والفلسفي، لتدشين منظومات ذات مستوى أدبي شعري تعبيري، فالفن نتاج الفكرة، ومنافسة للطبيعة في سمو على الواقع وارتقاء الجمال الفني على الجمال الطبيعي، وبكيفية خاصة وعاطفية وروحانية تتوازى مع رهافة الحس والعاطفة.
الفن ليس مجرد لغة بصرية،بل أداة تحويل واختزال وتغيير،وثمرة فاعلية إنسانية ومشاركة متصلة لاختصار الواقع والتعبير عن المعاني والحالات المعاصرة،وتصدير الحقائق الجديدة،التي تتلمس إيقاعا ديناميا بتمثيل عنصري الزمان والمكان، بما يصدر على السطح التصويري حساسية فياضة وتداعيات تعبيرية وصورية من مخزون الأحداث وذاكرته الأيقونية،تحقق التوازن وتضبط الإيقاع بين العناصر، لتدشين التكامل والانسجام، والاتساق مع كل الأصعدة التعبيرية والترميزية، في منظومة تجتر وجدانية المتلقي لساحة العمل الفني لتأسيس حوار بينه وبين عناصر الفنان، فالفن بمحاكاته للواقع هو تكرار رتيب ووهم بصري يتعامل مع حاسة واحدة،
-
"الطبيعة" والتعبير عن الحقائق ومعادل الكمال:
وضع الفلاسفة (الفن) في مقابل (الطبيعة) باعتبار رغبة الإنسان في استخدام الطبيعة عن طريق الفن، وتطويعها اتساقا مع فلسفته وتكيفا مع توجهاته الفكرية والجمالية، ليصبحالفن وسيلة التواصل، والبوح والتصريح برأي أو إحساس والتأسيس لرؤية أخرى للعالم، وهو إجمالا تعبير وتجسيد للجمال المثالي، وآليه لتقوية الحب والالتصاقية بين الإنسان والطبيعة، كبديل للغة اللفظية في تفسير ووصف المحتوى، في محاولاتابتكار أشكال سارة ذات بهجة، تفسر الواقع ومكتنزه وأسراره وأساطيره، بهدف إشباع احساسنا بالجمال، وهو ما أكده الفيلسوف "أروين ايدمان"عندما اعتبر الفن بمثابة (الحدث- والرؤية) وأنه الوسيلة الفاعلة لتفسير الحياة، وتصدير الأحاسيس والمشاعر العاطفية، ووجهات النظر الجمالية، وإبداع ينحو نحو غايات جمالية.
وحسب إشارات "الإلهام الأرسطي" فإن الفنان يستمد أصول أعماله من الواقع في رؤية تجابه المحاكاة الواقعية وتتجاوزها، للسمو فوق مستوى الواقعي وتلمس عالم المثال ودرج الأرواحية، بهدف الانبعاث الفكري وتعزيز الخطاب البصري والتبصر بالعالم من عدسات الهوية والموروث والثقافة، لإيصال الفكرة والصوت الفني بأنساق معاصرة ذات طبيعة عالمية، حيث يسعى الفن لمحاولات تجسيد حقائق الوجود وانعكاسها في نفسية المتلقي، وخلق نسخ حداثية منها، وتصدير مظاهر من الكون على نحو أكثر فعالية وشفافية ذي عمق ضمني ودلالي، عبر توظيف خاص للمهارة والخيال مع المغامرة، لإبداع بيئات فكرية وخبرات جمالية يشترك فيها الفنان مع الآخر،فانحاز تصريح "هيجل" أن العمل الفني مهما كانت جوانب النقص به يظل أسمي من المنظر الطبيعي لتشبعه بممكنات تحقيق للروح الإنسانية، وتوازت معه فلسفة "أفلاطون" حول الكمال الطبيعي والأمثلة ومعادلات الطبيعة، فالمثال العقلي للشجرة هو (الكامل المثالي) أما أشجار الطبيعة فهي صور ناقصة ومؤقتة وفانية لهذا المثال الباقي، وهو ما جعله يتساءل دوما نحو ماهيةوفائدة عكوفالفنان علىتصدير صورة (لأصل زائف). فمهمة الفنان لديهم تنطلق بعد تخليصه من فكرة التنقيب عن محاكاة الطبيعة، ينطلق الفن كقدرة على تجسيد الخيال في صورة مادية ملموسة، والتعبير عن الحقائق والمعادل للكمال.
-
البهجة اللونية والحقيقة في الخطاب البصري" لعبد الوهاب عبد المحسن":
وفي إطار صياغة ونحت مشهد الفنون البصرية، الذي يسطر ومضات فكريه ذات رؤى فنية مغايره تسهم في تغير المفهوم، تنبري العديد من الأسماء الأيقونية، في مقدمتهم الفنان الدكتور "عبد الوهاب عبد المحسن" صاحب الأشروحات الفنية والمشاريع الطموحة التي تعالقتمع المتطلبات المادية والفكرية في دروب دعم الهوية والخصوصية، في تجلّإبداعي ونسيج تعبيري فصيح، يسرد قصصا فلسفية ترتكل لتشكيلات من طبيعة"البرلس" مصطبغةبمضامين حدسية ذات خصوصية وهوية كيانية محددة، وشحنات عاطفية تتلمس جوهر الحقائق المنظمة والمعارف الداخلية لطبيعة الأشكال، وتزاوج بين النفس والروح، عبر استحضار الفنان لأدواته ووسائطه بتأسيسات معرفية محددة وانسجام وتوازي مع البيئة المناخية للفكرة وطرق تصدير التعبير عن الحدث.
ويمثل الفنان "عبد الوهاب عبد المحسن" أحد المواهب الفذة الرائدة في المشهد البصري المصري، وشخصية فنية برنامجية نابهة شديدة الخصوصية، بما يمتلكه من مشروع فني اتسم بالصدق والسجية والحضور والقيمة المضافة، وموسوم بشخصية مشحونة بعواطف درامية وتصورات ذي طابع مفاهيمي نابض ولغة رصينة تمايزه عن أقرانه من الفنانين، والميل نحو التجريب في بنية العمل الفني من النواحي الأسلوبية والمفاهيمية المذهبية الجمالية، متمسكا بالأصول المصرية في شخصيته وموضوعاته التعبيرية، لتتحرر الرؤية الفنية لديه والتي تتغذى من بيئة (البرلس) تحت مظلة حداثية التفكير، وفلسفة تراكيبه الفنية ذات المدلولات والإشارات العاطفية والشاعرية، تشكيل عوالم، تخصّب واقعا مرئيًا بديلا يستقوي بأبعاد دلالية وأيدولوجية وأنطولوجية، يتمازج فيه حلمه مع الحقيقة والواقع في رحاب كيانات ذات بنية حداثية وحضور محفز لإثارة وجدان المتلقي وحالته النفسية، وترسيخ البهجة، وتعميق كل ماهو جوهري غنائي، عبر مواضيع تعززها الهوية والذاتية، لبلورة أسلوبية تعبيرية في ضوء رؤيته الجوانيه لذاته وعصره.
وقد حصل الفنان "عبد الوهاب عبد المحسن" علي بكالوريوس كلية الفنون الجميلة قسم جرافيك جامعة الإسكندرية 1976 و- دبلوم الدراسات العليا جرافيك 1986 -ماجستير فن الجرافيك كلية الفنون الجميلة جامعة حلوان موضوع الرسالة: ( فن الجرافيك المعاصر بالإسكندرية) 1993 . دكتوراه الفلسفة في الفنون الجميلة جامعة حلوان - موضوع البحث (رؤية تشكيلية معاصرة لرسالة الغفران لأبى العلاء المعرى من خلال فن الحفر) 1998 . ولديه العديد من العضويات: -عضو نقابة الفنانين التشكيليين،عضو جمعية الحفر الدولية SMTG كراكوف بولندا. الوظائف والمهن التى اضطلع بها الفنان -فنان تشكيلى . أخصائى فنون تشكيلية بالثقافة الجماهيرية. - مدرس التصميم بأكاديمية الفن والتصميم (المعهد العالى للفنون التطبيقية) . أسس وقام بالتدريس بقسم الجرافيك فى جامعة الزيتونة ـ الأردن 2002 : 2004 . رئيس الإدارة المركزية للشئون الفنية بالهيئة العامة لقصور الثقافة.عضو لجنة الفنون الشعبية بالمجلس الأعلى للثقافة.
وحصل على العديد من الجوائز: الجائزة الأولى للجرافيك فى مسابقة الشباب (المجلس الاعلى للشباب) 1977. - الجائزة الأولى للجرافيك فى مسابقة الصحراء (المركز القومى للفنون التشكيلية)1987.الجائزة الثانية للجرافيك فى مسابقة النبات (المركز القومى للفنون التشكيلية) 1988.الجائزة الثانية الكبرى فى مسابقة النيل (المركز القومى للفنون التشكيلية) 1992.الجائزة الأولى للجرافيك فى مسابقة بينالى بورسعيد القومى الأول 1992،الجوائز الدولية: - جائزة لجنة التحكيم فى بينالى الإسكندرية الثامن عشر لفن الجرافيك 1994. - جائزة شرفية فى ترينالى الجرافيك الثانى بالقاهرة 1997.جائزة لجنة التحكيم فى ترينالى الجرافيك الثالث 2000.جائزة شرفية فى ترينالى الجرافيك الدولى بيتولا بمقدونيا 2006.
-
(البرلس) مابين (الأسطورة- والبعد الفكري والموروث الثقافي):
الفن هو صياغة المعنى فيما وراء اللغة، وطرح المضمون بأدوات فاعلة لديها القدرة على استثارة وجدانية المتلقي وتلمس مشاعره وأحاسيسه، وليس مخاطبة فهمه فقط، ليمثل استحضار التراث الميثولوجي من جديد،حتمية وجوبية لتحطيم الثوابت والأنطولوجيات الاتباعية،لتأسيس فلسفة تحتفي بقيمه الميثولوجي، وتنقل الفنان لعوالم تدفعه لخلق أساطيره وتصويرها في حراك نابض استناد لمبدأ السحر التعاطفي، وهي محاور تجربة الفنان "عبدالوهاب عبد المحسن"ومحرك فكري روحي انعكس على تكويناته،لاستنطاق العناصر الطبيعية ذات المزاج البيئي لمنطقة (البرلس) بعين المتأمل الحالم في صياغات فنية، ومحاولاته لاستحضار كل مايقع فيما وراء العوالم المرئية،وتأتي الطبيعة لتمثل الملهم والدافع الذي يمتلك صفات (التنوع- التغير- التجدد المستمر- والتحول الديمومي) في كل وقت وزمان. لتهب من (يقتحم أغوارها ويراقبها ويتأملها ويحللها) ملكة رؤية الحياة والواقع بشكل مختلف، وشحن مخزونه الثقافي بمستويات فذة، والقدرة على تجديد خطابه البصري بنسق حداثي، والتنقل من درج فنية معاصرة، والقدرة على تحديد المعالجات لمشاهد متعددة، وطرح رؤى لونية متناوعة.
وفي مسألة التعالق ونفض الإبداع عن محاكاة الطبيعة، وتصدير سحر تشكيلي متعدد الرؤى والدلالات، تتوارى الصياغات البصرية والهيئات في صالح اللون وعلاقاته وقيمه الظلية والملمسية.في تجرد من السياق التمثيلي لصالح المغزى والخيال،والتحليق الميتافيزيقي،والغنائية الميثولوجية واستدعاء التأثيرات الدرامية التي تعضد الأثر النفسي الباقي في جوانية المتلقي وترويض الوسائط لتأطير الطاقات الروحانية والحقائق عبر منهجية رصينة، والكمال الذي يوجد في الفكرة لديه أو المثال، واقتحام التشكيل المعاصر بأسلوب حديث، واجتذاب وجدانية المتلقي، وإشراك حسه الشعوري والعنصر البصري له.
لتنبري (البرلس) كقبلة للإبداع والبهجة، والمنطقة الساحلية، والبيئة الملهمة ذات العمق والعبق التاريخي، والخصوصية الجغرافية. وبحيرتها العامرة المسكونة بالأساطير والحكاوي والخيال، والتي تمكن من حالة الوجد الروحي معها مكانيا والتعالقية بها، فدائما ما تمثل طبيعة (البرلس) محرضا للأطروحات الفنية الوصفية للفنان" عبد الوهاب عبد المحسن"، عبر التمعن في الطبيعة والاستنباط من أشكالها لاستخلاص الأفكار، وتوليد ممكنات تشحذ الرسائل التي تدفع الغايات، فلكل بيئة عناصرها ومفرداتها وأساطيرها وأسرارها وحكاياتها، وتتمتع (البرلس) بثراء وعمق ثقافي وتاريخي وميثولوجي ممتد، فهي عاصمة الإقليم الشمالي لمصر قبل توحيد القطرين على يد الملك نعرمر، ومركز ومنبت لأسطورةإيزيس وأوزوريس المصرية، ومنطقة المشايخ والأولياء والصالحين، وحضن الأساطير المرتبطة بالكائنات (كأساطير المياة، والأسماك والأشجار والحيوانات) بما يخصبها كمناخ وبيئة وحيز جغرافي ذي ثراء فكري وبصري ملهم.
وتتصدر الارتباطية اللصيقة لديه بالجغرافيا والأرض وبحيرة البرلس،غنائية رمزية وميثولوجية مشبعة بالحلم النابض المشحون بعواطف وانفعالات تفجر مشاعر المتلقي مع رسالة العمل، وهو ما حفز الفنان لإعلاء فعل الخيال والوجدانية لاقتحام مناطق عوالم سحرية أوسع من الواقع المرئي المحيط، صاغ الفنان مراكب تتماهى فوق مسطحات مائية بعذوبة مع دراما عناصر العمل وكتلته اللونية، ومع طاقة الأحمر الساخن، والأشجار التي تتحرك في تكرار موسيقي وطبيعة إيقاعية حركية خالصة الاختزال التلخيصي، كأشجار مسحورة مع ظلالها الخافتة ذات معالجات تمهد للتأثير النفسي والحسي الذي يرتقي في مواضيع شروحاته الى مدارات التعبيرات الدرامية، وبحيرات مائية تعبر عن حالات مختلفة من (الغموض والراحة والتقلب والهياج والهدوء). كموضوعات تعبر بصدق وخصوصية عن ذلك الواقع الذي نشأ وترعرع فيه الفنان، وارتبط به ذهنيا ووجدانيا وروحيا.
وتنطلق فلسفة الفنان في تناول الطبيعة عبر تغيير الرؤى من خلال (القرب- والبعد) فعندما تأتي المسافة قريبة تنبري الأعمال الفنية بتفصيلياتها، لتصدير قوالب فنية يغلب عليها التعبيريةالتجريدية. بينما يصدر نتاج التأمل العميق (ومد المسافة بين الفنان والمنظر) إلى صياغة عناصر مكتملة في هيئات كلية تنحو من سرد التفاصيل الدقيقة والزائلة غير الضرورية، والتركيز على المجموع وإهمال الجزء. فبدلا من رسم الجناح وتفاصيله أو ملمسه أو إيقاعه اللوني، يرسم الطائر كاملا في المشهدية الكاملة.
ليحقق "عبد الوهاب عبد المحسن" خلال تلك المغامرة (الطامحة)(تواصلية) في استلهام بيئة (البرلس)تراكيب متحررة بلغة العاطفة والذكاء حيوية متوقدة، قوامها أطياف نهارية لسينتوجرافي (البرلس) تنفس برائحة المكان وعبقه السحري، وتشع مجالات مغناطيسية لمعنى الهوية والفرادة التي تعززها طاقية الألوان الرهيفة، كنتاج للتأثر بالبيئة والمحيط الذي نشأ فيه، ومعطى للعصر الراهن، لتعميق مفهوم الواقع، عبر تدافق واضح لخصوصية رصينة، وشغف مفتوح نحو التجريب والاكتشاف للتجديد في نماذج التفكير المختلفة، والبعد الدرامي الذي يجسد الحالة النفسية للفنان، وتلمس الحلول والمعالجات، وتنمية الرؤية الواعية، وطرق الملاحظة الدقيقة لمتغيرات الظواهر، والدمج العضوي بين الكادر التصوير والعناصر المفسرة له.
-
الدفقة الانفعالية ودراما الحوار البصري الدينامي:
وجعل"عبد الوهاب عبد المحسن" من أعماله الفنية إطارا تسجيليا لمسودة تعبيرية، تصب في تجسيد انفعالات وإيماءات عديدة ولحظات الاستغراق في التفكير، والاختلاء بالذات، واستعراض مساحات بصرية تفاعلية، وكأنها تمتلك أبعادا حقيقية ملموسة، وتعبيرات مصيرية حتمية تنبع بصدق من نفسية الفنان وذاتيته، بعد أن ينسجها إلهامه وخبراته السابقة وبحثه العلمي والفني، في قوالب فلسفية رصينة تعززها أشكاله التعبيرية الفصيحة، فانحاز للفكاك من الاتباعيات الشكلية والصيغات التقليدية للعناصر، لصالح العيش في عالم صنعه هو بنفسه بحس روحاني متحرر يجمع بين (الحساسية والإحكام) عبر (مداخل تجريبية في صياغة العناصر على نحو مختزل، وتوظيف عناصر محددة ومنهج تكويني يزاوج البراءة والعفوية الانفعالية في تسطير أفكاره- وبين التمكن في إحكام العلاقات والتوازنات البنائية والإنشائية في دراما الحوار البصري الدينامي).
تكوينات خالصة وليدة الدفقة الانفعالية لعدد من المساحات والكتل وعروق لونية وخدوش درامية وعنفوان الخط، حيث يصور الفنان لجزر وأرض ممتدة زراعية وساحلية مفعمة بالحيوية، ومساحات أحيانا داكنة وفاتحة توحي بالمياه والأنهار،وأشجار مسحورة درامية تنشر سيقانها وفروعها على أرضيات نابضة، مع نغمات أثيرية لطيور تتحرك وتهمس في رومانسية وشعرية داعمة لدراما المشهد، فيرى في طبيعة (البرلس) أشكالا استهوته بصورٍ موحية، ويجد من خلفها أشياء وكتلا لونية وخطوطا تهشيرية ونقاطا وخطوطا انفعالية، تعبر عن ديناميكية وطلاقة إبداعية، تمكن الفنان من ترويض عناصره وعلاقاته البصرية في كلٍّ متكامل حيوي.
إنه العالم الشاعري "لعبد الوهاب عبد المحسن" ذي الإحساس الفياض، الذي يتصف بأنه شديد الارتباطية بالبيئة المصرية، والامتلاء بالعناصر التي استلهمها من المنظر الأدبي الشاعري بمنطقة (البرلس) حيث الحياة التي تنبض بكائنات وأسراب الطيور والأسماك ومرتفعات فوق مياه ضحلة وأشجار تعمق المغزى القدري لفلسفة الفنان، وعدم الانحراف إلى الزخرفة والتزيينيه لتأسيس حالة درامية تعبيرية جديرة برائد تصويري، ينمو في خطاباته البصرية ويتغذى على مدخلات ومثيرات تتصل بتكوينه الشخصي وتكوينه المؤسس على تلمس حقائق الأشياء، وامتلاك التقنيات والمهارات، وخبرات السيطرة على المساحة وإكسابها شحنات تعبيرية هي نتائج إحساسه الصادق بموضوعه في توليد بارع وحساس.
وعبر تعاظم ملكات البصيرة لديه، والاستغراق في العمل والمعايشة الفنية، وامتلاك بعد سيكولوجي وهدوء مشاعري داخلي وسلام انعكس على بنائياته وبراحه الفني، وصفاء النفس الذي مكنه من التواصلية مع الكون والطبيعة، يجعله فقط يرسم الكائنات التي يعرف ويجيد الحديث والتواصل معها، وقدرة على تنقيه استقبال أصوات وصدى عناصر الطبيعة.تنامت مصادر رؤيته وكثفت دراما التعبير،وعمقت من مفاهيم السيمولوجي والمعاني المتعلقة بالدال والمدلول وتوظيف الشيء لهدف محدد عبر معاني وتنظيمات رمزية شاعرية تمكث في الذهنية والوجدانية لفترات، لرسم ملامح ذات تكوين فكري،تقفز من الثوابت التي تعطل العرفي لصالح سمات فنية جمالية شديدة الحميمية والدفقة الانفعالية، بهدف تمجيد الروحي وتطهير اللغة البصرية من تبعيتها للتفرد بالفصاحة القائمة بذاتها.
فوظف"الفنان"عناصره كأشكال وقوالب موسيقية غنائية إيقاعيه تقسم مساحة العمل لفضاءات حالمة،وخلق فضاءات شعريةنورانية وتألق روحي تمنح المتلقي متنفس خاص،يتخذ اللون فيه دورا تأمليا ميتافيزيقيا،وبعدا بصريا ومتوالية وجدانية ومحركا فاعلا ديناميا ينطق بالنورانية ويشخص الذات والروح والمعاني غير المقروءة في تراكيب المفهوم،وموجا متواليًا متدافعا في قيمه وسياقه لدى الفنان وتصوراته حول موجودات "البرلس"وبوعي وإعمال فكر وخيال وحلم ومهارة تؤسس ترجمة تعبيرية بالغة الإقناع، استعرض الفنان تجاربه البانورامية في التصدي لملامس السطوح، وترويض طاقة اللون ومخططاته المعمقة، والبعد الدرامي الصيروري من خلال الارتكال للتباينات القوية بين القتامة والضوء المبهر، ودفع مناطق النور مفاجئة ومباغتة داخل أماكن الظل، واتجاه مجموعاته اللونية إلى الشاعرية الشفافة، التي تلعب رمزيا دور النوتة الموسيقية التي تصدر النغمات الصداحة.
فاللون لديه طاقة سحرية، وقوة تعبيرية ومفتاح أبجديته البصرية، فتاره يرتكل لتوظيف كنه اللون دون إضافةأو مزج، للإفادة من قوة وإشراق اللون وحضوره، وتاره تأتي الألوان مخلوطة لتعطي الإحساس بالتجانس، وشخذ الشاعرية ورومانسية المنظر ودينامية عناصر السرد البصري، في تحكم أدائي مكين أفرزته ثقافة الفنان وفلسفته الرومانسية وملكات التجريب لديه،عبر توظيف عناصر متعددة عبر متغيرات تشكيلية لونية من حيث الشدة ودرجة التشبع والكنة، واتجاهات وقوة الخطوط التهشيرية، وتنوع المساحات وحضورها، وتراتيب الداكن والفاتح ونبض التقنيات الملمسية، والتعبير عن العمق وتراتيب الأشكال، ومسارات النقاط الإيقاعية ذات الكثافات المتنوعة في مواقع مختارة. خلال قدرة مكينة في السيطرة على لغة البناء التكويني البصري (التقنيات الرسومية-الظل والنور- التسطيح والتجسيم- تراتيب العناصر- المنظور الفني- أسس التصميم من إيقاع ووحدة وتوزان- والأداءات التقنية وأسلوبيات المعالجة) وتوحيد العناصر في كلٍّ متسق الأجزاء.





|