القاهرة 19 ديسمبر 2024 الساعة 02:13 م

كتبت: د. إنجي عبد المنعم
في هذه الأجواء التي نمر بها في عالمنا الحاضر؛ أحداث وحروب وثورات وعنف وبيانات ضخمة وعدد لا نهائي من المعلومات، يستشعر الإنسان الحديث عجز عقله عن مواكبة كل ذلك، واحتياجه لقسط ولو بسيط من الراحة، فرصة للتنفس، ومساحة للهدوء.
هذا بالضبط ما يشعر به زوار معرض "نفس عميق" للفنان الدكتور خالد سرور الذي افتتح فى السادسة مساء الثلاثاء بقاعة "جاليري ياسين" في الزمالك، بحضور عدد من الفنانين ومحبي الفن التشكيلي ومن المقرر أن يستمر المعرض حتى يوم 2 يناير 2025.
يكرر علماء النفس المعاصرون كثيرًا ويشددون على أهمية أن ينال الإنسان قسطًا من الراحة، خاصة وسط الأزمات، وأن عدم الراحة هي بالفعل طريقة لتعذيب البشر، الراحة هي احتياج أساسي وليست مجرد رفاهية.
يبدو أن "سرور" ركّز على التعبير عن الروتين اليومي أو العلاقات الإنسانية من خلال هذه المشاهد، ونلاحظ أن الفنان ما زال محافظًا على روح الطفولة التي بداخله والتي تظهر جليا في اللوحات.
يضم المعرض 15 عملا فنيًا، في إحدى اللوحات بالأبيض والأسود، تتميز بمشهد مزدحم ومنمق بخطوط سوداء جريئة على خلفية بيضاء. يصور عناصر مختلفة مثل الأشجار والمباني وشخصية على دراجة، وكلها مقدمة بطريقة مرحة ومجردة. التركيبة مفعمة بالحيوية، وتتضمن أشكالًا عضوية وأنماطا هندسية، مما يخلق إحساسًا بالحركة والطاقة. يبدو أن النمط العام يمزج عناصر النزوة مع الجمالية الرسومية.
وفي لوحة (الخطوبة) شخصيتين مجردتين بأجسام برتقالية وأرجل سوداء، على خلفية داكنة. يبدو أن الشخصيات تميل أو تجلس معًا، مما ينقل إحساسًا بالرفقة أو القرب. استخدام الألوان الجريئة والأشكال البسيطة يمنح العمل الفني طابعًا عصريًا ومعبرًا.
اختيار الألوان في هذه اللوحات يتميز بجرأة وتباين ملفتين للانتباه، حيث تم استخدام ألوان زاهية ومبهجة مثل الأزرق الداكن، الأخضر الفاتح، الأحمر، والأصفر. هذا الاختيار يخلق جوًا من الحيوية والبهجة، ويعكس ربما أسلوبًا فنّيًا يُشبه الفن الفطري أو الفن البدائي، الذي يعتمد على التعبير العفوي والابتعاد عن التفاصيل الواقعية.
الدمج بين الألوان المتضادة مثل الأزرق الداكن والأحمر يعطي اللوحة إحساسًا بالحركة والطاقة. كذلك، تبرز التفاصيل مثل الأسماك والزهور من خلال الخطوط السوداء السميكة التي تضيف تحديدًا واضحًا.
تبدو أنها تحمل أسلوبًا بسيطًا ومعبّرًا، حيث تظهر شخصيتان في بيئة منزلية تقليدية مع تفاصيل مثل النوافذ المفتوحة، الحبال المعلقة، والطائر الملوّن. الألوان المستخدمة نابضة بالحياة، مما يعطي اللوحة إحساسًا بالفرح والبساطة الريفية.
الكتلة والفراغ في هذه اللوحة يتفاعلان بشكل مثير وملفت للنظر، الكتل تتمثل في العناصر المادية مثل الشمس الصفراء، الفتاة، النافذة، والقمر تملأ المساحة بشكل مُحدد وواضح. هذه الكتل مرسومة بخطوط سميكة وألوان متباينة مما يمنحها حضورًا قويًا في اللوحة.
كما استخدم الفنان الأشكال الهندسية مثل المثلثات، والمستطيلات التي تضفي طابعًا صلبًا يعزز ثبات هذه العناصر.
الفراغ.. الخلفية ذات اللون الأحمر الداكن تلعب دور الفراغ الذي يمنح الكتل مساحة للتنفس ويساعد في تسليط الضوء عليها، فالفراغ هنا قام بدوره لكن يبقى التساؤل في.. لماذا جعل الفنان هذا الفراغ باللون الأحمر؟ فالمعروف أن اللون الأحمر هو لون متوهج وفكرة هذه اللوحات في التنفس واستخدام ألوان هادئة وتعطي مساحة للراحة.
هناك مناطق فارغة حول العناصر المختلفة تعزز الشعور بالحركة والانسيابية، خاصة مع الخطوط الملتوية السوداء التي تعبر عن الحركة أو الحبال المتدلية.
التباين بين الكتلة والفراغ في هذه اللوحة يخلق ديناميكية وحيوية، ويعطي إحساسًا بالحركة والخيال، مع تركيز واضح على الطفلة المتدلية التي تبدو كأنها تمسك بخط يمتد إلى الشمس.
يذكر أن الفنان خالد سرور أستاذ فن التصميم بكلية التربية الفنية بالزمالك، شغل منصب رئيس قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة لعدة سنوات، وهو عضو نقابة الفنانين التشكيليين والعديد من الجماعات والجمعيات الفنية في مصر.
نفس عميق هي التجربة الأحدث للفنان خالد سرور، حيث يقول الفنان: "مع مرور الوقت، وفي خضم الحياة، حيث تتكاثر وتتنامى التحديات، يجد الإنسان نفسه محاصرًا في دائرة لا تنتهي من التوتر والانشغال الدائم والمشاكل المتلاحقة، هذا الإيقاع المحموم يجعلنا نسير وكأننا في سباق لا نهاية له، وهنا يبرز الاحتياج إلى نفس عميق، ليس فقط كفعل بيولوجي من شهيق وزفير، بل كفعل روحي يعيد التوازن إلى النفس ويمنحها هدنة ضرورية، هذا النفس العميق هو استراحة من ضجيج العالم، لحظة هدوء تأخذك بعيدا عن الركض المستمر، تقودك إلى سكينة داخلية".
وأضاف، "هذا الشعور اللامادي انعكس بشكل واضح عند طرح لوحات معرضي نفس عميق، فبات جليا في لوحاته تراكب العناصر داخل التكوين وازدحامها في مواضع مختلفة من كل لوحة، وتشابكت الألوان الناصعة والخطوط المتواترة باختلاف أحجامها وحركاتها في مقابل فراغات كبيرة أيضًا في نفس ذات اللوحة، وهو ما يجسد الفكرة الأساسية من المعرض، فالفراغ هنا في مقابل تكتل وازدحام العناصر ليس غيابًا ولا كما مهملا، بل هو حضورًا مقصودًا ذا دلالة ومعنى كل مساحة فارغة هنا هي بمثابة فرصة لـ"نفس عميق".
تم اختيار "سرور" عام 2007 قوميسيرا مساعد لجناح مصر ببينالي فينيسيا، قوميسير جناح مصر في بينالي فيينا، وحصل على العديد من الجوائز والمنح الفنية أهمها منحة للولايات المتحدة الأمريكية، له مقتنيات بالعديد من الهيئات والمؤسسات والمتاحف وعدد من الدول العربية والأجنبية لدى أشخاص.
ويشارك د. سرور في العديد من التظاهرات والمعارض بالحركة التشكيلية منذ 1985 وحتى الآن، وله العديد من المعارض الخاصة والجماعية بمصر والخارج.



|