القاهرة 22 يناير 2013 الساعة 01:55 م
كنت فى الشارع ألعب مع العيال حين رأيت (راشد ) يقف أمامى بشحمه و لحمه .
كان يسحب حمارتين ، على كل واحدة بردعة زاهية الألوان .
انزرعت فى الأرض كشجرة ،و دارت عيناى بينه و بين الركوبتين المتأهبتين للجرى، تجذبان الحبلين الملتفين حول يديه!
كان منهمكا فى ترويضهما بعصا رفيعة من التوت!
راشد من مخلوقات الصيف ، نحن الآن فى منتصف الشتاء. الأرض مبتلة و الوحل يملأ الأركان ، والمدرسة مفتوحة ، و أبى سمح لى باللعب لأن اليوم الخميس !
تجمع العيال حوله ، شخط فيهم ورفع ساقه المبرومة مهددا .
ابتعدوا ، وتركونى لا أصدق أننى أمام الذى يسعدنى طول الإجازة!
اقترب منى و قال بزهو:
- خالك عطيه بعثنى لأحضرك حالا! لديه الليلة حفل ومنشد و ذكر.
حاولت أن أرد فلم أستطع ، لأن دقات قلبى ارتفعت ، وهلت روائح اللعب والسهر و السروح إلى الغيط !
تذكرت الشتاء و الوحل والمدرسة ، لكن ركنا من قلبى ظل مضيئا .
ليلة واحدة هناك تكفى لادخال السعادة على.
لقد جئت فى موعدك يا راشد!
الآن فقط امتلكت لسانى وقلت له:
-وهل طلبت جدتى أيضا احضارى؟
-نعم بكل تأكيد
سرت معه إلى البيت وخرج والداى يتفرجان على الرجل الضئيل ، و البهيمتين المناكفتين ، والعيال الذين يراقبون من بعيد !
قلت لهما:
-عم راشد جار خالى عطية ، أرسله ليصحبنى !
بدأ حائرا هل يصافح أبى ، أم يكتفى بهزرأسه الطويل المملوء بالأخاديد.
أخيرا نقل الرسنين إلى يده اليسرى وصافحه قائلا بفرقعة:
-أنا راشد قراقص من عزبة سليمان ، الحاج عطية أرسلنى لأحضر محمود ! لديه الليلة منشد و ذكر.
امتلأت الأخاديد بالفرح و نظر إلى مبشرا .
- قال أبى :
- نحن فى أيام مدرسة و لابد أن يذاكر و ...
نعم نعم ، لن يغيب سوى الليلة و فى الصباح سأعود به ، الحاجة جدته أكدت ذلك .
- كيف حال صحتها ؟
- بخير ، بكل خير ، هى من أشرف على وضع البردعتين ، وشددت على حضورى ، وابننا محمود يعرف مشاغلى !
قالت أمى:
- دعه يذهب مع عمه !
فى لحظة وضعنى على البردعة و قفز إلى الثانية ، طرنا من الشارع وكان العيال يرمقون بقلق و لهفة ، لكننى كنت منبهرا فلم أبادلهم النظرات.
كنا قبل المغرب بقليل ، والطريق ندية تثقبها الحوافر أثر نخسات مؤلمة بالعصا!
انطلق راشد يكمل حكايات قديمة.
لم أكن أسمع كل شىء لأن ذهنى سبق إلى العزبة ، ثمة سرادق و نورو منشد و ذاكرون يتمايلون!
العصافيرعائدة و البهائم تسيرإلى حظائرها تفكر فى الطعام و الراحة و الهدوء .
كانت الترعة قد اكتست بلون الظلام ، وتصاعد من جوفها صوت المخلوقات المختبئة . لا زال راشد يحكى، و بين لحظة و أخرى أهز رأسى لأشجعه كاتما خوفى!
حين وصلنا أمام بيت خالى كان الظلام قد ثقل وغطى كل شىء ، لم يكن الكلوب الذى يضىء المدخل موجودا .
انزلنى ووضعنى على الأرض فطرقت الباب ، فتحت لى جدتى وفى يدها لمبة صغيرة .
- محمود ! ماالذى جاء بك الآن ؟
التفت فلم أجد أثرا لراشد ، وقفت واجما ، فنادت خالى من الداخل
جاء بملابس البيت ، جلباب من الكستور وطاقية صوف :
-محمود؟ ماذا جرى ؟ هل أمك بخير؟
اندفعت أبكى ووجدتنى أجرى بكل قوتى ، فاندفع خالى خلفى حافيا ، كنت
كالريح أخوض فى الأرض المبتلة و يخزنى البرد كالإبر فلا أبالى :
- أرجع يا ولد !
ظللت أجرى وانكفئ فى الظلام بشجاعة حتى دخلت بيتنا و ارتميت على حجر أمى فيما جلس خالى يلهث من التعب.