القاهرة 20 نوفمبر 2024 الساعة 01:22 م
بقلم: د. حسان صبحي حسان
يمثل الخطاب الإبداعي نشاط يقوم به الفنان في مغامرة تخالف المألوف وترفض التعامل معه على انه أمر واقع واجب الانحباس داخل قدسيته، وتطرح الحداثي غير المتوقع، الذي يخاطب الوجدان بسحره قبل أن يخاطب البصيرة، وهو أيضا الاحتشاد لإثارة كينونة الذات وإعادة ربط الاتصال باللاوعي للتخفيف من معاناة خلفتها آثار سلبية على النفس فيزيحها الفن ويحولها الى طاقات إيجابية روحانية تعزز السكينة، لتجسيد معادلات بصرية فلسفية تبوح بالإبداع، وعميق المعاني والتأويلات والانطولوجي، بما يخصب ادراكية المتلقي ووجدانيته.
لذا لا تقتصر الرؤي الإبداعية عند الفنان علي مجرد الطرح الإبداعي لظواهر شكلية وحلول تلقائية لعناصر استلهمها من الطبيعة ومعالجات من فنان يمتلك أدواته فقط، وانما هي نتاج فاعل وحصيلة تأمل الفنان الطويل المتعمق لمحيطه الزماني والجغرافي والسيسيولوجي وعلاقات الطبيعة التشكيلية، وما تكتنزه من انساق ومخزون دفين من المرئيات، والمهارة الذهنية والتقنية لديه في طرق استدعاء مخزون الذاكرة وما تراكم في مخيلته عن طبيعته ومرئياته، داخل أنساق مستحدثه تعزز الفعل الإبداعي لتجربته، وتعضد الفكرة العامة للعمل الفني ورمزيته.
والجينيالوجيا نوع من التفكير الفلسفي والذي يرتكن بالأساس الي دراسة النشأة والتكوين للوقوف عند الأصل في المفهوم، وكمصطلح هو دراسة معمقة للجذور الخفية والنزول الي الأعماق وجوانيات الأشياء وبداياتها عبر سلخها من كل مفهوم، والاستنادية الي الماضي والبعد الأسطوري، والاستدلال الفكري للمعاني، للتنقيب عن الحقائق والأصول والأخلاق، والبحث في المسببات والمغزي الذي أدي لظهور تأويل وتفسير دون غيره، والبحث عن الكيفية والعلاقات المضمرة والقوي الفاعلة المتسيدة للمغزي والجوهرية
• دراما "الغريزة والتاريخ" وتجذر المعني عند سامي البلشي:
وفي القاهرة يشهد أتيليه العرب للثقافة والفنون برئاسة الناقد الفني الأستاذ هشام قنديل، بجاليري ضي الزمالك، افتتاح معرضي الفنانين "هشام نوار" بعنوان "الجميلات النائمات"، ومعرض "الغريزة والتاريخ " للدكتور سامي البلشي، وتصدير أطروحات ميثولوجية يتم الولوج فيها نحو تحليل مقاربات هامة تتعلق بجينيالوجيا الفن، وتدشين دعامات فكرية للاستناد البحثي والمعرفي والخروج عن مألوف العالم الطبيعي دون التلميح المباشر، لتحطيم الاتباعيات المعرفية والقيمية والأنطولوجية التقليدية.
والفنان "سامي البلشي" كراديكالي فاعل يمتلك قدرات الابحار بعقلية منفتحة في عوالم مميزه ببصمته الدامغة، للايلاج في ذلك العالم الرحيب والمنحنى الذي يعج بالتعبيرات الترميزية والتصورات المنمقة البليغة التي تقفز فوق حدود التقليدي، والنهج الاتباعي في إظهار التفصيلات والأفكار، لصالح اعلاء طاقه التعبير، وتوظيف التقنيات الأدائية التي تساعد على إثراء الرسالة، حيث يقدم الفنان دراما تعبيرية راديكالية، وقصائد تلامس الشعور ذات وحدة اسلوبية رابطة دالة داخل النطاق التصويري في معرضه "الغريزة"، والذي ارتكزت اشروحاته الفنية فيه علي فنتازيا وتوجه فكري عميق، لطرح الرؤية البصرية وحلولها الجمالية والرمزية بفلسفته الخاصة، عبر عرض قضايا إنسانية واجتماعية وفكرية في جرأة وجسارة وفصاحة بلاغية وغوص في جوانيات الشخصية المصرية وعاداتها وعوالمها الساحرة في الريف والحضر لإجترار (مدارات المرأة ) في يومياتها وحالاتها وتنقيبها عن الملاذ والملجأ الأمن وسط أجواء الصخب والهمس والحزن والمرح والجد والتهكم، ما بين (الأمن والمخاطر-والثبات والانطلاق ) وتناقضات العلاقات الإنسانية، وتأثير القوي المجتمعية علي الدور الإنساني للمرأة.
لذا فقد جاءت أعمال الفنان "سامي البلشي" لتحمل قيم إنسانية شديدة الخصوصية والنبض والحضور الوهاج، ترجمت لصور ناطقة ذات منحني حداثي، في تواز رصين بين اللغة الشعرية والفن البصري، مستلهما عنصر المرأة كمحرض تشكيلي، العلاقات فى سياقها الطبيعي بين الرجل والمرأة، خاصة فى المجتمعات الريفية، وأشكال الحياة ( في الأفراح، وفي المناسبات ، وبنات البحر، وداخل البيت في حوار مع الذات أو الأخر، ومع اللعب وممارسة الأنشطة الرياضية والبهلوانية) وتتبع التغيرات والصدامات بين الغريزة والتاريخ ، بهدف تلمس الحداثي والقضايا النابضة ، عبر بهجة لونية وسيكولوجي دلالي للون شاحذ لطاقة التعبير والشاعرية وعمق الهوية لدي الفنان،وعبر فهم عميق وبحث فني رصين ودراسات ممنهجه تحليلية متعمقة لجوانيات الطبيعة وعناصرها .
شخوص نابضة ممتلئة بالحياة والعافية والهمة، وطاقية تدفعها نحو تعزيز الفعل والاقبال علي الحياة، ومعالجات فلسفية حررتها المبالغات في النسب والهيئات الشكلية، انطلاقا من الفنتازيا الساخرة التي تمرر الفكرة وتبلورها في حضور يعلو به سيكولوجي اللون ودراما الساخن والبارد وتوزيع الظلال التي تغلف شخوصه بثقل وزني ورسوخ داعم لفلسفة الفنان نحو ( معركة المرأة التي كانت فيها دائما ضحية للانتقال من الغريزة إلى التاريخ، ووجودها دائما فى مرمى الهدف تواجه مرة وتهرب مرات، وكلما انتصرت الغريزة على التاريخ تحقق لها الأمان والسعادة، وكلما حدث العكس حدث التحول أو الهروب ) .
• لغة "الجسد الأدمي" عند هشام نوار:
وبدء من الفكرة ولحظة انبثاقها في ذهنيه الفنان، حتى تشخيصها، عمدت الأشروحات البصرية للفنان "هشام نوار" رؤي طليعية تتجافي مع المحددات والتوقعات المعتادة، واستنطاق بلاغي وجيز يلتحف بمفهوم اعاده اكتشاف لغة (الجسد الأدمي) حسيا ووجوديا، من خلال وعي وخصوصيه ورؤيه تتجاور في خريطة الفنان الابداعية والمعرفية مسارات الرموز والطقوس والمفاهيم والاشارات والعلامات الايقونيه الدالة على الوجود الخالص الذي يصدر رسائل الإنسانية، للانزياح بعيدا عن القواعد الثابتة والقيم السائدة، والتحرر والتجرد من معوقات التعبير عن الأفكار والمشاعر، وهجر الأفكار والقوالب الجامدة النمطية، في معرض "الجميلات النائمات" .
حيث استنطقت تجربته الإبداعية تصدير المعادلات الشكلانية لقضايا مجتمعية وموضوعات راهنة ومفاهيم فلسفية ورسائل وجدانيه كثيفة المعاني تخاطب الضمير، وترويض ذلك بقوه داخليه وصدق يروم ويشكل المحسوس الجمالي لبلوره الفكرة، عبر المعاصرة والتجديد واستلهام التقنيات والتوجهات الحداثية (من مستويات) :
أ): خبراته السابقة وقدراته المكينة في (مجال النحت والمجسمات ثلاثية الأبعاد)، وهو ما أضفي على شخوصه التصويرية، تراكيب تقدمية تحتفي بقيمة الكتلة وتعضد حضورها، من خلال فطنة تشكيلية ومكتنز جمالي تعبيري فلسفي يفيض بالوجدانيات، للإمساك بالموضوعات الجذابة التي تتكئ علي الروح الإنسانية وتجليات المرأة وايماءاتها وحركاتها وهمسها وصدحها في صيغ تستجلي المعني، في صدق يعكس التقني والعفوي المندفع من الروح الخيرة للفنان وداخله الطيب النقي.
ب):المعادلة الرصينة بين "المعاصرة وتحقيق الهوية الذاتية" عبر استلهام التراث كنقطة ارتكاز لبحث فني بصري، وتصدير صيغ بصرية تعبيرية تنقب عن الهوية والخصوصية.
وجاءت أعمال الفنان " هشام نوار " بمثابة تحية للأديب القدير “ ياسوناري كاواباتا " واحتفاء بروايته الحالمة “ الجميلات النائمات " التي تشخص سعي عدد من العجائز إلى التمسك بلحظات من السعادة والبهجة والمتعة الحسية، حتى لو كان على حساب مجموعة من الجميلات النائمات، وتدور أحداث القصة داخل منزل غامض ، ويدخل هؤلاء العجائز الغرف السرية للنائمات كأنُّهم يدخلون إلى معبد بعض الكاهنات ، حيث تركت هذه الملامح أثرها في نفس وروح الفنان ، لتتعاظم الصياغات الشكلانية والهيئات، توازيا مع طاقات اللون وعلاقاته وقيمه الظلية والملمسية، وتسطير حالات فنية ذات نبض وشاعريه، كثفت فيها لغة التبانات والنورانية والضياء، لشخذ الاحساس بالتوهج والفاعلية التعبيرية المصطبغة بشاعرية هامسة ودلالات عاطفية تدعمها جرأة تطبيق اللون ومخططاته الفكرية، لتعزيز قوة العاطفة خلال عوالم فنية ساحرة خلابة ذات أعماق ومستويات دلالية متناوعة.
لتأتي جميلات هشام نوار النائمات وكأنهن يحلمن بجميلات كاواباتا، في احتفاء وتقدير وتحية للجسد بصريا وأدبيا عبر كتل ذات ثقل وزني ورسوخ يستقر في جلوس، يستسلم لقوي الجاذبية الأرضية، جميلات بأجساد نحتية تلقي برؤوسها على اياديها المنضمة، وشعور ممتدة بخصلاتها المتموجة في تواز مع إيقاع الحلم، وخطوط لينه رشيقه منسابة داعمة للجمال النائم المستلقي، وأجساد وأيادي متقوسة تدلل علي التوازي والاندماج مع الفعل، بما يعزز صدارة الشكل وحركته التعبيرية وتفصيلياته الجوهرية،
ولم تأتي كل جميلات "هشام نوار" (في ثبات ونوم) بل جاءت بعضهن في يحو واستفاقة ونشاط وحركة حيوية، منفردة نابضة ومع عناصر أخري داخل أجواء محفزة، في فعل يؤطر ( حيوية كتلة الجسد كأحد غايات الفنان – والتفسيرات والتأويل الانطولوجي للحالة التي تخاطب وجدانية المتلقي ) من خلال الربط والانسجام فيما بين الكتل اللونية المغلفة بالخواطر والأحاسيس والهمس، توازيا مع حيوية الحركة والعناية باتجاهاتها وحكمة توزيعها عبر أماكن محدده بعينها والتركيز على لغة التباينات، بما يتقاطع لتشكل حالة ملهمه تدفع نحو استثارة المخيلة والتفاعل الدؤوب.
وصاغ الفنان "هشام نوار" خطوطه ومساحاته وكتله في دينامية إيقاعية وتحوير ومبالغات واختزال سردي، داخل نسيج يحقق قوى الترابط والتجاذب، لتتحول داخل هذا النسق الإدراكي لمفهوم يتفاعل ويتوحد مع التنظيم الفراغي المستحدث، وتأسيس خلفيات ذات كتل لونية نابضة بدرجات لونيه حالمة، تخصب أجواء أعماله بطقس وحاله من السحر والأثيرية والروح الأسطورية، وتدشين بيئة ملائمة تسكن فيها الكتل اللونية، لتصدير خطابات بصرية كتمثيل فاعل حيوي، بهدف الإفصاح عن جماليات وبلاغة بصرية.
|