القاهرة 19 نوفمبر 2024 الساعة 10:58 ص
إبراهيم المليكي ـ الجزائر
في كتابه "في جنيالوجيا الشَّـر: قراءاتٌ تأويليّة في مُنتخباتٍ من السّردِ الأردنيّ"، يلقي د. خلدون امْنيعم الضوء على مفهوم الشرّ كأحد المفاهيم القارّة في التّجربة الإنسانيّة، والمتشكّل في هُويّات متعدّدة ميثولوجيّة ودينيّة وفلسفيّة، تتقاطع في تجلّيات واقعيّة للمشهد الإنساني، ما يجعل كشف أصوله وانبعاثاته فعلا عصياً، إذ يمارس الدينيّ والميثولوجيّ والثّقافي والسّياسيّ معًا فعاليّة الحجب والتّعمية على جذور انبثاقه، وحركيّة أفعاله، خاصَّةً في الخطابات السّردية، التي تتخلّق بوصفها تجربةً فنيّةً جماليّة، تحجب أكثر ممّا تكشف.
ويؤكد امنيعم في كتابه الصادر مؤخراً عن "الآن ناشرون وموزعون" أن قراءته لمفهوم الشَّر ليست المطلب الرّئيس لقراءاته التّأويليّة للنّصوص السّردية، فلكلّ مجموعة قصصيّة أو رواية خصوصيّتها في تشكيل خطابها المعرفيّ ورؤاها التي تنهض عليها وبها، ما أوجبه أن يقرأ المفهوم من وجهة جنيالوجية، ذات طابع فلسفيّ تّأويلي وفق صيغة تفكيكيّة للخطابات والمفاهيم والظّواهر والأفكار والمعتقدات، لمعرفة مكوّناتها والفواعل المتحكِّمة في إنتاجها وصيرورتها، وقراءتها بوصفها ركامًا من التّأويلات أو الأقنعة، التي تخفي أكثر ممّا تكشف، إذ تقدّم نفسها على أنّها الحقيقة المطلقة أو المثل والقيم العليا، حيث يرى امنيعم أن الجينالوجيا آليّة قرائيّة تفكيكيّة سبَّاقة زمنيّا لآليات تحليل الخطابات، تبحث في الأنساق الكامنة والخفيّة المحجوبة عن الظّهور، وتعيد تشكيلها في مقولات رمزيّة مفتوحة على فعل التّأويل، لتعريتها، وكشف آليّة تشكُّلها، وتغلغلها ثقافيّا؛ ذلك أنّ سؤال الجنيالوجيا، سؤال ذو مهمّة تأويليّة، تقوم على مُساءَلة المؤّول بوصفه إرادةً متنكّرةً وثاويةً وراءَ القول، كما أنّه يُسائل المفاهيم، ليس من وجهة ماهيّتها، بل من وجهة ما تضمرُه، وتخفيه، وتحجبُه.
وهو ما اتضح من خلال فلسفة محاور القراءة الأربع التي تضمنها الكتاب حيث تناول المحور الأوّل مسألة "السرد والزمن"، وأقامه الباحث على دراستين أولاهما أجرى فيها مقارنة بين رواية "صحراء التتّار" للروائي الإيطالي دينو بوتزاتي، ومجموعة "كمستير" للقاصّ جعفر العقيلي، وخصّ ثانيتهما بتحليل مجموعة "رباعيّات الفردوس" للقاصّ مخلد بركات، والجامع بين الدراستين تبيّن توظيفَ النصّ السرديّ الزمنَ لاختزان ما اتّصل به من أبعاد فلسفيّة وميثولوجيّة.
أما المحور الثاني فجاء بعنوان "السرد والوجود" وعمّق الباحث النظر من خلاله في مسألة مفهوم الوجود فلسفيّا وإبداعيّا، انطلاقا من نصين روائيّين هما "بعد الحياة بخطوة" ليحيى القيسي، و"هاوية الجنون" ليحيى الحباشنة.
وتناول المحور الثالث قضية "السرد والتاريخ" من خلال منظورين أوّلهما الخطاب ما بعد الكولونيالي وقارب بواسطته رواية "فستق عبيد" للروائيّة سميحة خريس، وثانيهما القراءة السيميائيّة واعتمدها في دراسة رواية "الوبّاص" لتامر راضي.
وسار المحور الرابع "السرد والسلطة" على خطى المحور الثالث في الخروج من بوتقة الفرد والانفتاح على التاريخ والحضارة في أعلى تجلّياتهما، وقد ارتكز التحليل في هذا المحور على منهجين: المنهج السوسيو-النصي مطبّقًا على رواية "خبز وشاي" لأحمد الطراونة، والمنهج الظاهراتي- النصي وقد وظّفه المؤلف في مقاربة رواية "تراب الغريب" لهزاع البراري.
ويشير الباحث إلى أن عنوان الدراسة التي ضمها الكتاب أخذ مشروعيّته من كون ثيمة الشَّر في الرّوايات والمجموعات القصصيّة موضع القراءة، تمظهرت، عبر حضورها، بقوّة وفاعليّة دلاليّة، ما منحها طابعا جينالوجيّا، رصدته القراءةُ عبر تأويل رموزه، التي يتخفّى بلبوسها، من خلال الصّراعات التي ينشط بإقامتها، ومقاربة أسبابه وتجلّياته، كما تمظهر في النصوص السّردية، في علاقة وثيقة بفضاء التّجربة الإنسانيّة الذّاتيّة، وليس البحث في أصوله، أو شرحه، أو عرض تأويلاته في سياقاته التاريخيّة ومحاضنه المعرفيّة، وهو في سياقاته المعاصرة، وإن ظهر جليّا في سياقات اجتماعيّة وثقافيّة ودينيّة، فإنّه يشتغل بوصفه سببًا ونتيجةً في آنٍ معًا، ويرتبط أشدّ الارتباط بغياب آفاق الحريّة والدّيمقراطيّة والتّنمية، بل إنّه يتعاظم ويأخذ حضوره الفاعل في طبيعة النّظام السّياسي العالمي المعاصر.
وقال د.محمد آيت ميهوب في مقدمته عن الكتاب والتي حملت عنوان "شر العالم.. وسحر القص": "جمعٌ من الكتب هذا الكتابُ وحقولٌ من المعارف وفسيفساءٌ من النظريّات والمرجعيّات، ينتقل خلاله القارئ من الأدب إلى الفلسفة، ومن الجينالوجيا إلى السيميولوجيا، ومن البنيويّة إلى التداوليّة، ومن علم النفس إلى علم الاجتماع، ومن الأسطورة إلى التاريخ، ومن الظاهراتيّة إلى التأويليّة، ومن اللّفظ إلى الرمز، ومن التحليل السرديّ إلى الأدب المقارن". مضيفاً: "ممّا لا شكّ فيه أنّ عنوان هذا الكتاب قد شدّك أيها القارئ الكريم وخضّك ودفعك إلى التساؤل بينك وبين نفسك عن المجال المعرفيّ الذي يتحرّك فيه نصّ خلدون أحمد امنيعم: أهو في النقد الأدبيّ أم في القول الفلسفي؟ ذلك أنّ التناص واضح مع نيتشه وكتابيه (جينالوجيا الأخلاق) و(ما وراء الخير والشر)، وقد تعدّدت إشارة المؤلّف إلى مفهوم الشرّ فنزّله منزلته من الفكر الإنسانيّ واتّصاله بالتجربة البشريّة في أبعادها المختلفة، وبيّن طبيعة الصلة بين كتابه وهذا المفهوم الذي يقع وسط مفترق طرق تتقاطع عنده مشاربُ متعدّدة فكريّة ومعرفيّة ودينيّة وأخلاقيّة وفلسفيّة وسياسيّة وسوسيولوجيّة وقانونيّة".
وأكد ميهوب على أن د.امنيعم طوع التحليل التطبيقيّ القائم على قراءة نصوص مفردة، لاستنطاق ما تكتنزه من أبعاد فكريّة وفلسفيّة ومعرفيّة كثيرة متداخلة متشابكة، والاستدلال على قدرة النص السرديّ الجبّارة، ولاسيما النصّ الروائيّ تحديداً، على أن يستضيف ما شاء من الأفكار والمرجعيّات والتجارب الإنسانيّة فيعجنها بطينه ومائه ويبعثها بعثا جديداً وقد اكتست من الأحداث دمًا ومن الشخصيّات لحمًا ومن الأمكنة والأزمنة ماءً.
من الجدير ذكره أن دكتور خلدون امنيعم أكاديمي وخبير تربوي، وباحث في السيميائيات والتصوف والأدب الحديث. درس اللغة العربية وآدابها في جامعة مؤتة 2001، وماجستير الأدب العربي الحديث في جامعة مؤتة 2005، والدكتوراه في النقد الحديث في الجامعة الأردنية 2011.
عمل في وزارة التربية والتعليم القطاعين العام والخاص لغاية عام 2020 مدرسا ومؤلفا ومشرفا للمناهج الوطنية والأجنبية. وهو عضو هيئة تحرير لمجلة أفكار الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية ومجلة الشباب الصادرة عن وزارة الشباب.
يعمل الآن في كتابة سيناريو الأفلام التعليمية وتأليف منهاج اللغة العربية للبرامج الأجنبية في دولة الإمارات العربية المتحدة.
صدر له في الشعر: "أرني أنظر إليك"، 2016، "الان ناشرون وموزعون"،" هسيس الرغبة"، 2019، "الآن ناشرون وموزعون"، ومجموعة "خلل في المشهد السابع" قيد النشر.
وفي النقد الأدبي: "مرايا ونوافذ قراءة في كتب التجارب الشعرية"، 2011، "دار أزمنة"، "دوائر الخفاء الإشارة الصوفية في الخطاب الشعري الحديث"، 2019، وزارة الثقافة الأردنية.
|