القاهرة 12 نوفمبر 2024 الساعة 01:39 م
تأليف: صفاء عبد المنعم
أضواء خافة تتراقص فى آخر النفق.
إنها أضواء مشتتة، إلا أنها بقع نورانية ألمحها عن بعد تزيد، وتحتاج مزيدا من التكثيف والانتشار.
عندما مررت من نفق شبرا(عبود) دخولا إلى شارع ترعة الإسماعيلية، مرورا على معدية عثمان، وصولا إلى شارع مسطرد.. ثم المطرية.
لا أعرف لماذا يرقص قلبي طربا، وتتسع حجراته الداخلية مهللة، كلما أتيت إلى هذا المكان العتيق فى الزمن.
تنتشي روحي، وتهب روائح نادرا ما أشمها في وحدتي أو وسط الزحام، إنها روائح الأماكن التى تغور فى أعماق الروح، وتعشقها النفس.
هنا على تراب هذه الأرض سرت بأقدامي الصغيرة الفرحة منذ ما يقرب من أربعة وستين عاما.
فى بداية الستينيات سوف تولد طفلة رقيقة، هبطت من بطن أمها فى السادسة صباحا دون أن تبكي، نزلت مبتسمة كما قال لها الرواة الحاضرون لحظة الميلاد (الجدة والعمة والجد) والجارة الواقفة عن بعد -أم مريم- التى قالت فى سرها عندما رأت الطفلة الجميلة تنزل إلى الأرض صامتة ومبتسمة (باسم الصليب) فنظرت إليها الداية العجوز وقالت: يوجد شخص غريب بالحجرة هنا.
نظرت الجدة والعمة مبتسمتين وقالتا فى نفس واحد: (ما غريب إلا الشيطان) ثم نظرتا إلى جارتنا الواقفة وقالتا لها: مجّدى سيدك يا أم مريم.
فنطقت المرأة سعيدة بالمولودة القادمة للعالم تبتسم: قدوس اسمه يا ست أم الرزق.
ثم أخذت تردد (يا أم النور هلي علينا، يا أم النور نوري لنا الأمور) ثم مدت يدها للداية وأخذت الطفلة الصغيرة بين ذراعيها وهى تضحك وقالت: باسم الصليب عليكي يا بنتي والله قمر، ربنا يحرسك، ويبارك فيكي، وأخذت تردد (يا أم النور، يا أم النور سهلي كل الأمور) وقبلت الطفلة بين حاجبيها، فوق الجبين البض ووضعتها بجوار أمها. ثم أخذت تنظف الحجرة فى سعادة وحبور، والعمة تصب الماء الساخن النظيف على يد الداية العجوز. وقالت الجدة فى سعادة وهناء: تحبي تسمي بنتك إيه يا أم الرزق؟
ابتسمت الأم فى وداعة ومحبة وهى تضم طفلتها إلى صدرها: اللى تشفيه يا أمه.
نطقت العمة فى سرعة خاطفة: شمس. أسميها (شمس) لأنها بلون الضياء الصافي المشرق، وشعرها أحمر بلون الشمس المشرقة، ثم خرجت من الحجرة تعد الطعام للوالدة، والجدة تجلس على الكنبة أسفل النافذة، تصلي لله شكرا، وهى تسبح على أصابعها شاكرة العلي القدير، وتردد: سبحان الله، سبحان الله، الله أكبر.
وأم مريم الجارة الودود الطيبة، مازالت تخرج وتدخل وتلم ماء الولادة من على الأرض، وهى سعيدة لجارتها الحنون، وتجمع الخلاص داخل طبق كبير وتلفه فى الملح الأبيض، وتضعه خلف باب الحجرة.
ثم اتجهت بنظرها نحو الجدة المستغرقة فى التسبيح: خلاص يا خايتي أنا خلصت.
نظرت الجدة نحوها، وهى تضحك: تسلم أيديك يا بنتي، ربنا يبارك لك فى مريم وتخاويها.
أنزلت الجارة أكمامها المشمرة، وبدأت تشعر بقشعريرة تسري فى جسدها من برد الصباح، فهى منذ الأمس وهى بجوار جارتها المفضلة لديها، وتواصل الليل بالنهار إلى جوارها، والجدة تدعو لها بالستر والصحة، وتدعو لزوجة ابنها أن تضع حملها فى سلام: ربنا يقومك بالسلامة يا بنتي يا رب، تمدي رجلك تنزلي حملك، ويقومك بالسلامة. ويبقى المولود سليم المرة دي. ويسترك يا بنتي ويرزقك بابن الحلال، ادعي يا بت يا أم الرزق لأختك، أنتي فى شدة يا بنتي وبين إيدين الملايكة، وادعي لجوزك بالرزق، وادعي لعمتك بالعَدَل ولي بالصحة ولجارتك أم مريم تخاوي بنتها، ادعي لربنا واطلبي منه. تبتسم الأم الوالده وتضحك فى ألم: ربنا يصلح الحال يا أمه.
للمرة الخامسة تصرخ الأم نفسها هذه الصرخات. وتأتي الداية. وتلد الأم بنتاً جديدة.
ثم صرخت هذه المرة صرخة سريعة: ألحقوني، القرن بيطش مني تاني.
جرى جدي على إثرها خارجا فى سرعة ينادى للداية. وجارتنا أم مريم تجلس إلى جوار أمي على السرير تمسك رأسها، وتدعو لها (يا عدرا ، يا أم الدنيا مشي همي وسهلي كل الأمور) تدخل الداية العجوز، وهى تجرى متلهفة وخلفها طفلة صغيرة فى سن العاشرة تقريبا تحمل بقجة كبيرة بين يديها تنزل أمي من على السرير بمساعدة العمة والجارة ويظل الجد واقفا خارج الباب يدعو الله ويبتهل له. والأب فى الحجرة الأخرى يسجد لله شكرا ويصلي ركعتين لله كي يحمي طفله وينقذ زوجته.
|