القاهرة 05 نوفمبر 2024 الساعة 10:36 ص
بقلم: محمد جمعة توفيق
سوف نبحر سوياً هذه المرة من مصر إلى قلب أمريكا اللاتينية، في رحلة البحث المستمرة عن بناء وتعزيز جسور التفاهم والتبادل الثقافي بين الشعوب والثقافات المختلفة.. حيث سنتعرف على"يوم الموتى"!
يوم الموتى هو أحد أكثر الاحتفالات الرمزية في المكسيك وأمريكا اللاتينية، حيث يتجاوز كونه مجرد ذكرى لأولئك الذين رحلوا عن عالمنا. إنه حوار عميق بين الحياة والموت، وبين الحاضر والماضي، تجاوزت حدوده ليصبح رمزًا عالميًا للتصالح مع الفقد والذاكرة.
يُقام هذا الاحتفال سنويًا في الأول والثاني من تشرين الثاني (نوفمبر)، متزامنًا مع احتفال عيد جميع القديسين وعيد ذكرى الموتى المخلصين في التقاليد الكاثوليكية، لكن جوهره ومعناه يتجاوز بكثير الطابع الديني الأوروبي.
وسوف نستعرض الأبعاد الثقافية والروحية لهذه المناسبة، وجذورها في ثقافات السكان الأصليين، وكيف يُحتفل بها اليوم، وكيف أثّرت في الثقافات الأخرى، بما في ذلك ثقافتنا العربية. سنغوص في تلك الرمزية التي توحد الشعوب وأهمية يوم الموتى كجسر بين الثقافات.
تتجذر احتفالات يوم الموتى في رؤى عالمية عميقة لدى ثقافات السكان الأصليين في أمريكا الوسطى مثل الأزتيك والمايا والبوريبيتشا. كانت هذه الحضارات تربطها علاقة جوهرية بالموت، حيث كانت تعتبره جزءًا طبيعيًا من دورة الحياة بدلاً من كونه نهاية مأساوية. فقد كانوا يؤمنون بوجود عالم سفلي يُدعى ميكتلان، وهو مكان تنطلق إليه أرواح الموتى في رحلة طويلة ومعقدة بعد الموت. ومع ذلك، لم تكن هذه الرحلة مرحلة حزينة، بل جزءًا أساسيا من الوجود الإنساني، مما شكل فارقًا كبيرًا مع الرؤى الأوروبية في تلك الفترة.
وهنا نقارن بين ذلك التشابه الثقافي بفكرة ورحلة الموت بما لدينا من ثقافات عربية بل تتجاوزها في الزمن إن رجعنا إلى العصور القديمة مثل عصور المصريين القدماء وحضارات نقادة وما قبلها.. أليس هي نفس النظرة إلى فكرة الموت!
حسناً.. لنعود إلى أمريكا اللاتينية، فقد اندمجت هذه المعتقدات مع الديانة المسيحية التي جلبها المستعمرون الإسبان في فترة الاستعمار الإسباني لأمريكا اللاتينية التي بدأت رسمياً مع أولى رحلات كولومبوس في أوائل اقرن الخامس عشر تقريباً، واستمرت لعدة قرون؛ مما أنتج تمازجًا ثقافيًا فريدًا أفضى إلى يوم الموتى كما نعرفه اليوم. وهكذا، تحول ما بدأ كمناسبة للسكان الأصليين إلى لقاء بين التقاليد، حيث تُكرَّم ذكريات الأحبة عبر احتفال مفعم بالحيوية والفرح، بخلاف الحزن الذي قد يسود في ثقافات أخرى عند تذكر الراحلين.
يتميز يوم الموتى برمزيته الغنية ومعانيه العميقة التي يحملها كل عنصر من عناصره. ففي المنازل والمقابر المكسيكية، تُنشئ العائلات المذابح والتي تتألف من مستويات متعددة، وزخارف متنوعة، مليئة بالقرابين تكريمًا لأحبائهم، متبعة تقليدًا انتقل من جيل بعد جيل. هذه القرابين ليست مجرد زينة؛ بل إن لكل عنصر منها غاية محددة، تهدف إلى تسهيل اللقاء بين الأحياء والأموات.
-
المذابح والقرابين: تُعرف المذابح باسم أوفريندا، وهي تلك التي تشمل الأطعمة والمشروبات والصور والمقتنيات الشخصية التي كانت مهمة للمتوفى في حياته. تتبع المذابح ترتيبًا دقيقًا يرمز إلى السماء والأرض والعالم السفلي، مما يدمج العناصر الدينية مع ثقافات السكان الأصليين. تسعى العائلات من خلال القرابين إلى إبقاء الصلة مع أسلافهم حية، حيث يخلقون مساحة يعود إليها أرواح المتوفين للاستمتاع مجددًا بملذات الحياة. هذا إلى جانب الشموع البيضاء تحديداً لإضاءة الطريق لروح المتوفى، وكذلك الصور الفوتوغرافية للمتوفين التي تُوضع وسط المذبح، تكريمًا لأرواحهم وتوجيه الدعوة إليهم للمشاركة في الاحتفال.
-
زهور القطيفة (ثيمباسوتشيل): هذه الزهور ذات الألوان الزاهية، والمعروفة باسم "زهرة الأربعمائة بتلة"، هي واحدة من أبرز عناصر الاحتفال، ورمزاً مهماً؛ حيث تُستخدم لتوجيه الأرواح نحو القرابين، حيث تشكل مسارات تربط بين عالم الأحياء وعالم الأموات. يُعتقد أن رائحتها وألوانها الباهرة تمثل إشارة للأرواح العائدة، وتذكر بسطوع الحياة التي كانت.
-
جماجم السكر وخبز الموتى: تُستخدم الجماجم، المزينة بألوان زاهية، وخبز الموتى، المزين بالسكر والأشكال التي تحاكي العظام، كرموز تقبل فكرة الموت كجزء من الحياة. تعكس حلاوة هذه القرابين حلاوة الذكريات واللقاء مع الأحبة. ويُعد كل قضمة من خبز الموتى أو بان دي مورتوس تذكيرًا بأن الموت والحياة هما وجهان لعملة واحدة.
-
البخور والورق المقصوص: وهنا يُستخدم البخور لتنقية الأجواء وطرد الأرواح الشريرة، مما يسمح بوجود الأرواح المحبوبة فقط. أما عن القصاصات الورقية المزخرفة فتُعلق على المذابح، وترمز إلى الرياح والعلاقة بين الحياة والموت.
وبالطبع لن ننسي في تلك الاحتفالية " لا كاترينا "، ذلك الرمز البارز في ثقافة يوم الموتى المكسيكية، حيث تجسد الموت بأسلوب أنيق واحتفالي على وجوه المحتفلين. لقد أبدعها الفنان المكسيكي خوسيه غوادالبى بوسادا في القرن التاسع عشر كنوع من النقد الاجتماعي والسياسي لطبقات المجتمع الراقية. وتُظهر كاترينا أن الموت يأتي للجميع بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية. ولكن سرعان ما انتشرت رسوم كاترينا في الصحف والنشرات، وأصبحت رمزًا للثقافة المكسيكية، تتجاوز وظيفتها كأداة نقدية لتصبح رمزًا للثراء الثقافي المكسيكي والاحتفال بيوم الموتى، كما استُخدمت في الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية ضد الظلم واللامساواة.
-
تأثير يوم الموتى على الثقافة وصداها العالمي
لقد جذب ثراء ورمزية يوم الموتى خيال العالم، خاصة في العقود الأخيرة. ومنذ إدراجه في قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية من قبل اليونسكو في عام 2008، أصبح مصدر إلهام في الأدب والسينما والفنون البصرية. وقد قدمت أفلام من ديزني وبيكسار جوهر هذا الاحتفال لجمهور عالمي؛ مثل فيلم الإنمي الشهير Coco أو كوكو -والذي بالمناسبة ممتع جداً للأطفال والكبار على حدٍ سواء- ورغم أنه من أصل مكسيكي، فقد كان مثالاً بارزاً على كيف يمكن للترجمة أن تنقل لنا -كشعوب عربية- تلك الاحتفالات والتقاليد الناطقة بالإسبانية، مثل يوم الموتى، إلى الجمهور العربي. حتى النسخة المدبلجة للعربية من الفيلم تمكّنت من الحفاظ على أصالة هذه الاحتفالية مع جعلها في متناول من لا يعرفها، مما يولد تقارباً وتقديرًا للثقافة التي تمثلها؛ مظهرةً قيمة الذاكرة وأهمية الحفاظ على ذكريات أحبتنا عبر تذكّرهم.
لم يعزز يوم الموتى فحسب الفهم العالمي للثقافة المكسيكية، بل أثر أيضًا في طريقة تعامل الثقافات الأخرى مع الموت. فعلى سبيل المثال، في العالم العربي، توجد احتفالات وطقوس تكرم ذكرى المتوفين، وإن كانت بطابع أكثر جَدّية. حيث تبرز الزيارات للمقابر خلال عيد الفطر وعيد الأضحى بشكل واضح ومتقارب، إضافة إلى الزيارات التي تُخصص للمتوفين، مما يعكس احترامًا مشابهًا تجاه أولئك الذين غادرونا. وعلى الرغم من اختلاف أشكال الاحتفال، فإن غاية الحفاظ على ذكرى الأحبة تجمع بين التقليدين.
إن عالمية الموت كظاهرة إنسانية تسمح بأن يصبح يوم الموتى جسرًا ثقافيًا بين المكسيك ومناطق أخرى من العالم. ففي السياق العربي -حيث تحظى الأعياد الدينية والطقوس بأهمية كبيرة- أثارت طريقة المكسيكيين في مواجهة الموت بالاحتفال والألوان الفضول والإعجاب. حيث تقدم هذه المناسبة منظورًا مختلفًا حول كيفية تذكر الأحبة، مما يدعو إلى حوار حول كيفية تعاطي الثقافات المختلفة مع الفقد والذكرى.
وعلى مستوى أعمق، يعلمنا يوم الموتى أهمية الحفاظ على الصلة مع أسلافنا. في الثقافات العربية، تتجلى هذه الفكرة في الاحترام العميق للأجداد وفي أهمية نقل التاريخ العائلي شفهيًا. ومن خلال الحكايات والقصص التي تُروى خلال التجمعات العائلية، تُحفظ ذكريات الأسلاف والأجيال الماضية، على غرار ما يقوم به المكسيكيون من سرد للقصص واستذكار للأموات خلال هذه الاحتفالية. وهكذا، يصبح يوم الموتى مثالاً على كيفية تعلّم الثقافات بعضها من بعض، مع الحفاظ على جذورها وتوسيع رؤيتها للعالم.
ديا دي مويرتوس أو يوم الموتى ليس مجرد احتفال مكسيكي؛ بل هو مثال قوي على كيفية تواصل الثقافات عبر الزمان والمكان، وكيفية إيجاد نقاط مشتركة في تقاليدها وطقوسها. كما تعكس طريقة المكسيك في الاحتفاء بموتاها صورة لمجتمع لا يخشى مواجهة الموت، بل يحتضنه كجزء من هويته. قد تقدم هذه الرؤية صديقي القارئ المثقف الجميل، درسًا ثمينًا لثقافات أخرى، مثل الثقافة العربية، حول إمكانية الاحتفاء بذكرى الأحبة بطريقة أكثر إيجابية وبشكل أكثر عمقاً.
وفي عالم يسعى بشكل متزايد لفهم بعضه البعض من خلال اختلافاته وتشابهاته، يقف يوم الموتى كرمز للغنى الثقافي في أمريكا اللاتينية، ودعوة لنا جميعًا إلى التذكر، والاحتفاء، والعثور على الحياة في الذاكرة. إن عالمية يوم الموتى، وجماله البصري، وعمقه الرمزي، تجعل منه نموذجًا ملهمًا للحوار الثقافي، مذكراً إيانا بأنه، في النهاية، الموت ليس سوى جزءٌ آخرٌ من القصة الإنسانية الكبرى التي نتشاركها جميعاً في ذلك العالم الأزرق.
|