القاهرة 05 نوفمبر 2024 الساعة 10:11 ص
عاطف محمد عبد المجيد
ما يبغيه د. صلاح فضل من كتابه "شعر العامية.. من السوق إلى المتحف" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، هو أن ينقل شعر العامية من سوق الحياة إلى متحف الفن، في ظل إدراك الكاتب أن اللغات هي كنز الشعوب ومحصلة معارفهم وخبرتهم ومجلى تطورهم ورقيهم، واللغات، يضيف، تختزن الإبداعات والمخترعات وتحفظ الأخيلة بمستوياتها الفصحى والعامية، وعدوى الحيوية تسري إليها من كينونة الشعوب الوجودية بامتداداتها التاريخية ونضرتها الحاضرة.
هنا يرى فضل أن هناك أوهامًا متجذرة تسيطر على عقول كثيرين من الغيورين بصدق على اللغة العربية والمشتغلين بعلومها، عندما يتصورون أنهم حراس على حدودها دون أن يستحضروا مساحاتها الممتدة وأصقاعها المختلفة، وبذلك، يقول الكاتب، يحصرونها في مناطق معزولة ويعلنون الحرب على مناطق أخرى يسلبون منها حق المواطنة.
من هذه الأوهام، يذكر فضل، الخلط بين السياق التاريخي والواقع الحي، ورغم نشأة اللغة العربية عبر مراحل ما زالت غامضة إلا أن التاريخ أبقى لنا نماذج شعرية فائقة في القصائد والمعلقات، وأخرى نثرية فيما أُثر عن الكهان وبعض الكتابات، وكانت تتوزعها لهجات كثيرة تتعدد بتعدد القبائل، أفصحها لهجة قريش.
كما يؤكد الكاتب أن نظرية الصفاء اللغوي المضادة لمنطق النمو والتطور قارة في الضمير اللغوي للعلماء، واكتسبت الصيغ القديمة نوعًا من القداسة والديمومة لم يخرج عليها سوى بعض العلماء الذين رصدوا ما أطلقوا عليه تسمية الغريب في اللغة، أي الذي تقادم وشاخ وخرج عن دائرة الاستعمال، أو الوافد الذي انتقل من لغات أخرى واكتسب شرعيته بالتعريب أو غيره من الوسائل.
كذلك يرى الكاتب هنا أننا كي نبريء اللغة العربية من شيخوختها الطاغية ونعيد إليها شبابها وحيويتها، علينا أن نميز بين نوعين من المعاجم، أحدهما يستوعب كل ما عرفته العربية في مراحلها التاريخية المختلفة من كلمات وصيغ وأسماء وعبارات، يتم تنظيمها في سياقها التاريخي المتطور بإعلان مولد كل كلمة ومراحل تطورها الدلالي، ويقتصر النوع الثاني من المعاجم على المواد اللغوية التي ما زالت حية نامية متجددة، لنعرف أطوارها ودلالاتها وأصولها البعيدة والقريبة وسياقاتها المتعددة بإيحاءاتها المختلفة.
في كتابه هذا يدعونا فضل إلى أن نقيم صلحًا وسلامًا وتقاربًا بين لهجاتنا العامية ولغتنا الثقافية العليا، فنحن نولد في حضن هذه اللهجات، وبقدر ما نظفر به من تعليم وثقافة، نتقن القراءة والكتابة والمحاضرة والحديث بالفصحى، دون أن نكف في حياتنا الحميمة والخاصة عن استخدام اللهجات، كما يستخدم المثقفون مستوى من العامية شديد القرب من الفصحى بكلماتها وتعبيراتها ومجازاتها وفنونها القولية.
وما تزخر به العاميات من أشعار بليغة، وسرديات ممتعة وأمثال حكيمة، ثروة لغوية لا ينبغي إهدارها ولا تجاهلها، والأدب الشعبي، على حد رؤية الكاتب، مظهر عبقرية الشعوب ومكنز ذخيرتها الوجدانية.
في "شعر العامية" أيضًا يذكر فضل أننا لدينا أجيال من شعراء العامية يقفون في مستوى إبداعاتهم جنبًا إلى جنب مع كبار مبدعي الشعراء الذين يكتبون بالفصحى، مؤكدًا أن سلالة عبد الله النديم، وبيرم التونسي، وصلاح جاهين وفؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب، لا تقل أثرًا عن سلالة شوقي وحافظ وناجي وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل وصلاح عبد الصبور وحجازي وأمل دنقل، بل لعل السلالة العامية تكون قد نفذت بالغناء وتذرعت بالموسيقى فوصلت إلى أعماق الوجدان الشعبي بأبعد مما بلغته الشعرية الفصيحة.
كذلك يدعو فضل المشتغلين بالفصحى إلى الكف عن اعتبار الإبداع الشعبي انتكاسًا لهم وعدوانًا عليهم، بل هو، يرى الكاتب، إضافة نوعية في التمثيل الجمالي للحياة بكل مظاهرها وتجلياتها القوية، ومن الوهم أن نتصور أن انتصار الفصحى لن يكون سوى بالقضاء المبرم على كل اللهجات، وهذا أبعد ما يكون عن منطق الحياة.
كما أن ما يسعى فضل هنا إلى تأكيده هو أن طبيعة التطور اللغوي والتشعب اللهجي والتثاقف واختلاف المواطن والمنازع تقضي بأن تكون العلاقة الجدلية من التبادل والتلاقح بين المستويات المختلفة هي التي تسمح للشعوب أن تنمو وللفكر أن يزدهر وللثقافة أن تتنوع وللإبداع أن تكون له تجلياته، في عصر اللغة والصورة والسينما والفنون الرقمية الجديدة، وهذا لا يعفي من مسئولية تشجيع الإبداع الفصيح وتعزيزه وعقد المسابقات له، لأننا رعاته والمحافظون عليه دون عداء أو مقاومة للأنواع الأخرى كما يقول.
يسعى فضل هنا أيضًا إلى التأكيد أنه لا مجال للتنافس وتوهم التضارب بين العامية والفصحى، راجيًا ألا يستنتج أحد مما يسوقه هنا أنه يدعو إلى أن تحل اللهجات العامية محل الفصحى، ولا أن تغزو المجامع اللغوية كما يتوهم بعض المتعصبين، بل إن قصارى ما ينادي به هنا في كتابه هذا هو الكف عن هذه الحروب المفتعلة والاعتراف بأن لبعض اللهجات إبداعًا شعريًّا وسرديًّا وفنيًّا يضخ في العربية دمًا حارًّا ساخنًا ويمنحها قدرًا عظيمًا من الحيوية، وأنه يستحق النظر إليه نقديًّا باحترام وتقدير.
كذلك يصل فضل إلى القول بأنه آن للنقد الأدبي أن يعلن بوضوح، في عصر التعدد الثقافي الخلاق، أن ثنائية اللغة بين الفصحى والعاميات المختلفة في أقطار الوطن العربي بأكمله لا يمكن أن تعد ظاهرة موضوعية أو سلبية أو شرًّا لا بد منه، بل هي نعمة كبرى أتاحت هذا الازدواج الثري بين الثقافة المكتوبة والمنطوقة.
في كتابه "شعر العامية.. من السوق إلى المتحف" وإلى جانب مقدمته المستفيضة التي يدعو فيها إلى النظر إلى إبداعات العامية نظرة أخرى تمنحها حقها وقيمتها، ولا ترى في ذلك تقليلًا أو هضمًا لمكانة اللغة الفصيحة، يقدم صلاح فضل قراءة في شعر ثلاثة من كبار المبدعين في العامية المصرية الحديثة، أولهم يُنسب إلى تونس وقد ولد في الإسكندرية وامتص عروق لغتها وحياتها وهو بيرم التونسي، والثاني هو صلاح جاهين الذي جسّد روح الدلتا عندما رفض الحياة البرجوازية الوادعة التي يضمنها له والده القاضي، وذهب إلى أحراش بحيرة المنزلة ليعيش مع العمّال ويشرب حيواتهم ولغتهم، والثالث هو عبد الرحمن الأبنودي الذي نبع من طين صعيد مصر، وجسّد الإنسان المصري في شتى حالاته، محاولًا الالتزام بالنزعة اليسارية التي غلبت عليه.هنا يركز فضل على الجوانب الشعرية في النصوص متفاديًا البطانة الأيديولوجية المتاخمة لها.
|