القاهرة 22 اكتوبر 2024 الساعة 10:12 ص
بقلم: د. حسين عبد البصير
يُعد شارع النبي دانيال واحدًا من أبرز الشوارع التاريخية في مدينة الإسكندرية، حيث يمتد عبر قلب المدينة جامعًا بين عبق الماضي وروعة الحاضر. أُنشئ الشارع مع تأسيس الإسكندرية على يد الإسكندر الأكبر في عام 332 قبل الميلاد، ليكون جزءًا من الشبكة التخطيطية التي وضعها المهندس الإغريقي دينوقراطيس، وقد شُيِّدت المدينة لتكون عاصمة للإمبراطورية التي جمعت بين الشرق والغرب. على مر العصور، شهد شارع النبي دانيال تطورًا حضاريًا وثقافيًا، ليصبح من الشوارع الرئيسية التي تعكس تاريخ المدينة وتنوعها الثقافي والديني.
يعتبر شارع النبي دانيال مجمعًا للأديان الثلاثة: الإسلام، والمسيحية، واليهودية. وهو ما يُميزه عن غيره من شوارع الإسكندرية. يبدأ الشارع من ميدان محطة مصر وصولاً إلى شارع فؤاد، ويمتد بطول يتجاوز الكيلومتر، حيث يمر بمجموعة من المعالم الدينية البارزة. في مقدمة هذه المعالم يأتي مسجد النبي دانيال، الذي يعود إلى العارف بالله محمد بن دانيال الموصلي. بمرور الزمن، تحوَّر اسم المسجد ليصبح "مسجد النبي دانيال" نسبة إلى النبي المعروف في العهد القديم. المسجد مسجل كأثر إسلامي في قوائم وزارة السياحة والآثار، ويعتبر من أشهر المعالم الدينية في المدينة، لما يحمله من دلالات دينية وتاريخية. في منتصف الشارع يقع المعبد اليهودي المعروف باسم "كنيس إلياهو هنابي"، الذي يعود بناؤه إلى عام 1881 ميلادية على يد الجالية اليهودية في الإسكندرية. يحتوي المعبد، الذي يعتبر من أكبر المعابد اليهودية في مصر، على 63 نسخة قديمة من التوراة، وهو مسجل في عداد الآثار منذ عام 1987 ميلادية. كما تم ترميمه حديثًا للحفاظ عليه كجزء من التراث اليهودي في مصر. وفي المقابل، نجد الكنيسة المرقسية، التي تُعد أقدم كنيسة في أفريقيا. يعود تاريخها إلى فترة دخول القديس مرقس الرسول إلى مصر، حيث أقام أول كنيسة مسيحية في منزل صانع أحذية مصري كان يدعى أنيانوس، الذي كان أول من آمن بالمسيحية في مصر. ومن هذا المكان، انتشرت المسيحية إلى باقي أفريقيا. تحتفظ الكنيسة المرقسية بطابعها الأثري، على الرغم من عمليات الترميم التي شهدتها على مر السنين.
إلى جانب قيمته الدينية، يُعتبر شارع النبي دانيال مركزًا ثقافيًا مهمًا، فهو مقر لأكبر سوق للكتب المستعملة في الإسكندرية. يزخر السوق بالكتب الأدبية والعلمية والنادرة التي تجذب عشاق القراءة والمثقفين من كل مكان. كما يضم الشارع عددًا من المراكز الثقافية، منها المركز الثقافي الفرنسي الذي يساهم في تعزيز التواصل الثقافي بين مصر وفرنسا.
في السنوات الأخيرة، شهد شارع النبي دانيال مشروعًا ضخمًا لتطويره وتحويله إلى ممشى تراثي. بدأت المرحلة الأولى من المشروع بإعادة ترميم واجهات المباني التراثية التي تعود إلى القرن التاسع عشر الميلادي، مع تحسين البنية التحتية للشارع وتطوير شبكات المرافق. تمت إعادة تأهيل مسجد النبي دانيال، ومسجد سيدي عبد الرازق، والمركز الثقافي الفرنسي. كما جرى توحيد اللافتات التجارية في الشارع بأسلوب متناسق يعكس الطابع الحضاري للإسكندرية. وتم تركيب أنظمة إضاءة ديكورية جديدة على طول الشارع لإبراز التفاصيل المعمارية للمباني القديمة، مما أضفى على الشارع لمسة جمالية خاصة. وتشمل المرحلة الثانية من المشروع تمديد الممشى التراثي ليشمل 700 متر إضافية، وتحسين الأرصفة وتشطيب الأرضيات لتتناسب مع الهوية البصرية للمنطقة، مع إقامة بازارات حديثة وسوق للكتب.
يُعتبر شارع النبي دانيال جزءًا لا يتجزأ من وجدان السكندريين، فهو رمز للتعددية الثقافية والدينية التي لطالما كانت سمة مميزة للإسكندرية. وتظهر هذه التعددية بوضوح من خلال وجود المعابد والكنائس والمساجد جنبًا إلى جنب في شارع واحد، حيث يعكس تآلف الأديان الثلاثة التي تتعايش في تناغم تام. ويجسد الشارع روح المدينة التي لطالما كانت مركزًا للتفاعل بين الحضارات المختلفة.
إن تحويل شارع النبي دانيال إلى ممشى تراثي يجعله وجهة مفضلة للسكان المحليين والزوار على حد سواء، حيث يجمع بين عبق التاريخ وروح الحداثة. وقد ساهمت مشروعات التطوير في الحفاظ على هوية الشارع التراثية، مع تحديثه ليناسب متطلبات العصر الحديث. سوف يظل شارع النبي دانيال علامة بارزة في تاريخ الإسكندرية، وشاهدًا على عصور من التسامح والتعايش بين الأديان والثقافات المختلفة.
|