القاهرة 07 مايو 2024 الساعة 11:26 ص
بقلم: د. هويدا صالح
"الرحلة" من منظور السرديات الأنثربولوجية هو الرهان الأساس لكتاب "الخطاب والمعرفة" للباحث المغربي الراحل إبراهيم الحجري، والذي صدر عن المركز الثقافي العربي ببيروت، حيث قارب فيه الباحث العلاقة بين السرديات والأنثروبولوجيا، كما حاول مقاربة خطاب الرحلة المغربية الأندلسية باعتبارها خطابا سرديا متخذا من المنهج الأنثربولوجي ومفاهيمه أساسا لتحليل هذا الخطاب.
وقد قدّم للكتاب الأكاديمي المغربي سعيد يقطين بمقدمة معمقة حاول أن يكشف فيها عن أساس ومنهجيات تحليل الخطاب لدى الباحث وما يمكن أن تقدمه علوم السرد وعلوم الأنثربولوجيا من مقاربات لخطاب الرحلة، حيث يرى إن الحجري توقف في تحليله لخطاب الرحلة على جوانب تتصل بـالشخصية، وصيغ الحكي، والتبئير، والفضاء. وبعد تناوله لهذه الجوانب المتصلة بالرحلة، عمل على توسيعها في الباب الثاني الذي كرسه للرؤية التي تحكم صاحب الرحلة لمعرفة كيفية اشتغال نسق التفكير والقيم لديه، فاتحا، بذلك، مجال البحث على الأبعاد الأنثروبولوجية للمتن الرحلي.
كما حاول الحجري رفد النظرية السردية بمفاهيم ومقاربات منهجية جديدة، معتمدا على المدونة الرحلية بوصفها متنا سرديا أقرب إلى العمل الإثنوغرافي الذي هو فرع من فروع الأنثروبولوجيا، بعد أن سبق له تجريب هاته المقاربة على السرد الروائي في كتابه "المتخيل الروائي العربي" الصادر عن دار النايا (2014)، يقول الباحث في مقدمة كتابه الجديد: (لقد راهنت، لأجل بلوغ المرمى المنشود؛ على مقاربة منهجية تنطلق من السرديات أساسا، لتعرج على مجال الأنثروبولوجيا، استلهاما لأدواتها ومفاهيمها الإجرائيتين، موضحًا كيفية الانتقال من السردي إلى الأنثروبولوجي بشكل يجعلهما يخدمان بعضهما، حيث إن "باب الخبر" سمح لي باقتحام عالم الأسماء والأزياء والصحة والمرض والزواج والطعام وغيرها من الظواهر التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات. كما قادني الفضاء السردي إلى تعرف عالم العمران بتجلياته المختلفة في عالم القرون الوسطى، وما يحيل عليه كل نموذج عمراني وفق ما يوحي به من رموز وجماليات وأشكال لها صلة وثيقة بالمتخيل الذهني البشري في كل مجتمع على حدة. في حين أن عنصر "التبئير" أحالني على محاورة المتخيل الرمزي للمقدس والفلكلور والغناء والرقص والموت والسحر والألعاب وغيرها من البنيات الذهنية، وتعرف ردود الأفعال الواعية واللاواعية ضدا على عوامل الطبيعة، وكذا تجاه الظواهر القاهرة للإنسان، مما يدل على أن كل هذه التمظهرات ما هي سوى انعكاس وامتداد لثقافة المجتمع ورؤاه وتمثلاته للكون والطبيعة والحياة".
ويقول الدكتور سعيد يقطين في تقديمه لهذا العمل: "تكمن خصوصية "الخطاب والمعرفة" لإبراهيم الحجري في أنه حاول مقاربة هذا الخطاب الرحلي العربي بالانطلاق من كونه أولا خطابا سرديا. لذلك التمس السرديات، باعتبارها علما للسرد، فسعى إلى البحث أساسا في تحديد "سردية" هذا الخطاب. فتوقف على جوانب تتصل بـالشخصية، وصيغ الحكي، والتبئير، والفضاء. وبعد تناوله لهذه الجوانب المتصلة بالرحلة، عمل على توسيعها في الباب الثاني الذي كرسه للرؤية التي تحكم صاحب الرحلة لمعرفة كيفية اشتغال نسق التفكير والقيم لديه، فاتحا، بذلك، مجال البحث على الأبعاد الأنثروبولوجية للمتن الرحلي".
ويضيف يقطين أن "الباحث وُفق في اختيار المتن موضوع الاشتغال بجعله رحلة ابن بطوطة محور دراسته. ولا جرم أن هذه الرحلة تعتبر من أهم الرحلات ليس العربية فقط بل العالمية أيضا. وخير دليل على ذلك ترجماتها المتعددة والدراسات الأجنبية الكثيرة حولها. ثم انطلاقه من رحلات مغربية وأندلسية باعتبارها متنا محيطا. لقد يسر له هذا التوجه معالجة الرحلة معالجة دقيقة ومتأنية، سواء في الباب الأول أو الثاني".
وحول مشروعية هاته المقاربة يؤكد الأستاذ يقطين أن "الرحالة، وهو يتنقل في البلدان، وبين الناس، مغتربا عن وطنه، ينظر إلى العالم المرتحل إليه بنظرة "الأجنبي". لذلك، فهو يرى ما لا يرى أبناء البلد الذي انتهى إليه. وفي الوقت نفسه، يتميز عن أهل بلده بتعرفه على عوالم لم يسبق لهم أن رأوها أو سمعوا بها. وحين يدون مشاهداته وسماعاته، فإنه ينقل لنا عالمًا ينبض بالحياة. لا يغري هذا العالم فقط، القارئ الأجنبي الذي يتعرف على بلدان أخرى لم يسبق له أن رآها. بل إنه أيضا يفتح أنظار أهل البلد على ما لا يرونه بحكم الألفة والعادة. ومن هنا تأتي أهمية "خطاب الرحلة" وخصوصيته في تقديم "العالم" وتمثيله".
وقد قسّم الحجري البحث إلى بابين: الأول خصصته لتحليل البنى السردية في الرحلات، مراعيا خصوصية المتن المدروس؛ وميزات نوع الرحلة الذي حقق، على مستوى التدوين، تراكما مهما في العصور الوسطى خاصة، فتناولت عناصر السرد داخل هذه النصوص كلا على حدة: الشخصية، صيغ الحكي، التبئير، والفضاء، مبينا ما يميز كل عنصر عن نظيره في النصوص المتنوعة، ومركزًا على هيمنة الخبر على السرد، ومبرزًا تأثير ذلك على العالم السردي ككل.
كما خصص الباب الثاني لمقاربة المادة السردية التي أفضى إليها الخطاب الرحلي مقاربة تستند إلى المنظور الأنثروبولوجي من خلال توظيف بعض المفاهيم الإناسية في تحليل العالم الذي تقدمه لنا المتون الرحلية وفق الرؤية التي تحكم صاحب الرحلة؛ ومعرفة كيفية اشتغال نسق التفكير والقيم لديه.
وقد استفتح هذا الباب بعتبة فسر فيها كيفية الانتقال من السردي إلى الأنثروبولوجي بشكل يجعلهما يخدمان بعضهما، حيث يرى أن "باب الخبر" سمح لنا باقتحام عالم الأسماء والأزياء والصحة والمرض والزواج والطعام وغيرها من الظواهر التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات. كما قادنا الفضاء السردي إلى تعرف عالم العمران بتجلياته المختلفة في عالم القرون الوسطى، وما يحيل عليه كل نموذج عمراني وفق ما يوحي به من رموز وجماليات وأشكال لها صلة وثيقة بالمتخيل الذهني البشري في كل مجتمع على حدة. كما يرى أن عنصر "التبئير" أحالنا على محاورة المتخيل الرمزي للمقدس والفلكلور والغناء والرقص والموت والسحر والألعاب وغيرها من البنيات الذهنية، وتعرف ردود الأفعال الواعية واللاواعية ضدًا على عوامل الطبيعة، وكذا تجاه الظواهر القاهرة للإنسان، مما يدل على أن كل هذه التمظهرات ما هي سوى انعكاس وامتداد لثقافة المجتمع ورؤاه وتمثلاته للكون والطبيعة والحياة.
وقد توصل الباحث إلى عدة نتائج تؤكد على أن النصوص السردية الرحلية، بقدر ما تتوفر على وثائق تاريخية واجتماعية وعلمية وجغرافية واقتصادية متنوعة ومتداخلة، فهي أيضًا تزخر بمادة إثنوغرافية غنية تفيد في معرفة الإنسان في تلك المرحلة من كل الجوانب. كذلك رأى أن النصوص الرحلية تندرج بوصفها خطابا متخللا من قبل أنواع أدبية متعددة، ونوعا أدبيا ضمن جنس السرد، على الرغم من اعتماده على المشاهدات والمدونات السّفرية والسيرالذاتية والغيرية، في إطار النصوص الأدبية، فهي لا تعدم وجود انفلاتات الخيال، كما أن المادة التي تقترحها، تدخل، بالأساس، ضمن إطار المتخيل، مما يجعلها تتميز، عن باقي النصوص السردية ذات البعد الخيالي المحض، بكونها مزدوجة القيمة، فهي، من جهة، تعرض حقائق ومشاهدات من صميم التجربة الإنسانية. ومن جهة أخرى، تفرد جانبا مهما من متونها للأساطير والقصص العجيبة والأفكار المتخيلة ورؤى المقدَّس وغير ذلك. كذلك يرى الحجري أنه إذا كانت السرديات قد تناولت الجوانب الخطابية والجوانب الحكائية زمنا طويلا، وحققت نجاحا ملفتا في تحديد البنى العميقة للصوغ الأدبي لجنس السّرد، بما في ذلك الجوانب المشتركة، وكذا المميزة والفارقة، فإن الانفتاح، بالخصوص، على ما حققته الأنثروبولوجيا بتوجهاتها المختلفة؛ قادرة على منح السرديات آفاقا أخرى تعمق امتدادها خارج النص بوساطة المكونات السردية نفسها. إن المكونات السردية التي استفاض السرديون في تحليلها لا تحدد فحسب طبيعة المحكي وأساليب صوغه، بل، من منظور أنثروبولوجي، قادرة على أن تكون قنوات تنتقل، عبرها الرؤى المتخيلة، ويتحول، معها التحليل السردي، بناء على ذلك، إلى مقاربة تحليلية من منظور السرديات الأنثروبولوجية التأويلية. كما يؤكد الباحث على أن الحدود بين العلوم الإنسانية ومجالاتها، أصبحت لاغية، لا بحكم تمحورها حول موضوع واحد هو الإنسان، ولا بحكم نظرة القصور إلى المنهج التخصصي الخالص فحسب، بل لكون المقاربة كلما كانت تشتغل داخل وعي نسقي بالتحام كل العلوم وتضامنها وتحالفها؛ كانت النتائج التي تتوصل إليها أفضل على المستوى الإجرائي، وكلما نظر الباحث إلى منهجه وموضوع بحثه في استحضارٍ واعٍ لتموقع تخصصه داخل بنية الكل الحاضنة للتقاطعات والتداخلات بين علوم الإنسان؛ كان مسار تحليله للظواهر، وانتقائه لبيانات موضوعه، وخلاصات نتائجه أكثر شمولية وانسجامًا ودقة.
|