القاهرة 22 يوليو 2023 الساعة 04:57 م

بقلم: د. حسين عبد البصير
انتشرت في الآونة الأخيرة ادعاءات تزعم أن النبي إدريس كان هو الإله المصري القديم "أوزير" (أو "وسير" في اللغة المصرية القديمة)، أو "أوزيريس" في النطق اليوناني الشائع. وقد ذُكر من قبل أن نبي الله إدريس في الإسلام هو "أخنوخ" في اليهودية، والذي جاء ذكره في التوراة..
فما قصة أخنوخ، والإله أوزيريس، ونبي الله إدريس؟ وهل كانت هناك صلة بينهما؟!
وكما ذكرنا، فمن المعروف أن اسم المعبود المصري القديم هو أوزير في اللغة المصرية القديمة. وأوزيريس هو النطق اليوناني لاسمه المصري القديم، والذي وجد صدى عند البعض، وبناءً على السجع و"الريتم" أو الإيقاع اللغوي في نهاية مقطعي الاسمين، قارنوا بين الإله أوزير، أو أوزيريس في النطق اليوناني، وبين نبي الله إدريس عليه السلام، وجعلوا منهما شخصًا واحدًا. وذلك ليس صحيحًا، وفقًا لما سوف نذكره لاحقًا.. لكن ما قصة الرب المصري القديم أوزير، سيد الموتى والعالم الآخر في مصر القديمة، وأخنوخ، ونبي الله إدريس؟
• رب الموتى
تعتبر قصة أوزير (أو "وسير") و"إيست"، أو "إيزة"، أو "إيزيس"، (في النطق اليوناني المعروف لنا)، من أشهر القصص والأساطير في مصر القديمة والعالم كله. وكان المعبود أوزير سيد الأبدية، ورب الموتى، وحاكم العالم الآخر، ورمز الخير والهناء في مصر القديمة. وتم قتله عن طريق أخيه الشرير ست. وتعددت الآراء حول المكان الذي دُفن فيه المعبود أوزير؛ فهناك من رأى أنه لا يخرج عن كونه هليوبوليس، وآخر رأى أنه أبيدوس، وثالث قال إنه أبو صير. وتجمع أغلب الآراء على اختيار المكانين الأخيرين ليكون أحدهما مقام أوزيريس. وترجع معظم الآراء أبيدوس.
• أبيدوس
تعد أبيدوس أهم البقع الدينية في مصر القديمة، فهي المركز الرئيسي لعبارة الإله أوزيريس. وأبيدوس هي الاسم اليوناني لتلك المنطقة التي عُرفت في مصر القديمة بـ "أبدجو"، وعرفت في المرحلة القبطية بـ "إبوت". وتقع على حافة الصحراء على الجانب الغربي من الإقليم الثامن من أقاليم مصر القديمة. وتعرف الآن بـ "العرابة المدفونة" في البلينا، وتبعد حوالي "11 كم" إلى الجنوب الغربي منها، في محافظة سوهاج في صعيد مصر. وتعود أقدم آثار أبيدوس إلى حضارة نقادة الأولى في عصر ما قبل التاريخ في تلك المنطقة. وكانت أبيدوس تتصل قديمًا بنهر النيل بقناة مائية صغيرة. وفي عصر بداية الأسرات المصرية، أصبحت أبيدوس أهم مكان للدفن في أرض مصر. وأقام ملوك الأسرتين الأولى والثانية مقابرهم بها. وأصبح معبد معبودها المعبود المحلي "خِنتي إمنتيو" (وتعني "إمام الغربيين" والمقصود بهم الموتى) مركزًا دينيًا مهمًا. وفي عصر الأسرتين الخامسة والسادسة، اتحد ذلك المعبود مع المعبود أوزيريس. وأخذ الأخير كثيرًا من صفات الأول، وطغى وجوده على وجود الأول حتى أصبح أوزيريس مقدمًا على "خِنتي إمنتيو"، وأصبح اسمه "أوزيريس خِنتي إمنتيو". وفي عصر الدولة الوسطى، أصبحت أبيدوس المركز الديني الشعبي والرئيس في مصر القديمة. وطغت شهرتها الدينية على ما عداها من المراكز الأخرى. وبدأ ملوك تلك الدولة بناء معابدهم الجنائزية بها. وفي العصر الدولة الحديثة، بنى ملوكها معابدهم الجنائزية الرائعة بها مثل معبد الملك سيتي الأول ومعبد ابنه الملك رمسيس الثاني. وعلى الرغم من أن شهرة أبيدوس الدينية امتدت طوال عصور التاريخ المصري القديم إلى دخول المسيحية، فإنها لم تكن في أي يوم من الأيام صاحبة أي نفوذ سياسي ولم تكن عاصمة لمصر القديمة.
• أوزير
يعد المعبود أوزير أهم وأشهر ورأس مجمع الآلهة المصرية القديمة. وظهرت عبادته في عصر الأسرة الخامسة عندما ذُكر اسمه في "متون الأهرام" الخاصة بالملك "ونيس" آخر ملوك الأسرة، وذُكر أيضًا في مقابر أشرافها. واعتبره المصري القديم إلهًا خالصًا له القدرة على الخلق والإبداع والابتكار وتم تمثيله كرب للعالم الآخر وسيد للموتى ومن ثم الأبدية. وبرغم اعتقادهم بأن كل المعبودات عرضة للموتى فيما عدا أوزير، فقد تعرض أوزير لمحاولة غدر وخيانة من قبل أخيه الشرير "ست" الذي قتله ووزع أجزاء جسده عبر الأرض المصرية. ونجحت أخته وزوجته الوفية إيست أو إيزيس في تجميع أجزاء جسده وإعادته للحياة مرة أخرى، وفقًا للأسطورة الأوزيرية.
وإذا حاولنا تحديد مكان عبادة أوزير الأول، يصعب علينا ذلك. لكنه ارتبط بهليوبوليس (عين شمس والمطرية في شرق محافظة القاهرة حاليًا) وجاء ذكره في "متون الأهرام" مع إيزيس وست ونفتيس كواحد من أبناء الرب "جِب" (رب الأرض) والربة "نُوت" (ربة السماء) وكواحد من الآلهة التسعة (التاسوع) العظيم الخاصة بمدينة عين شمس. وتشير النقوش في هليوبوليس إلى أن أوزيريس تم تصويره مع بقية أفراد التاسوع المقدس. ولعل أهم مكانين ارتبط بهما الإله هما: أبيدوس و"أبوصير". وفي "أبوصير"، اتحد مع معبودها القديم وأخذ كثيرًا من صفاته. وفي أبيدوس، اتحد مع معبودها القديم "خنتي إمنتيو "، كما سلف القول، واتحد كذلك مع ملوك الموتى. وأصبح سيدًا للغرب، وحاكمًا لعالم الموتى، وإمامًا للغربيين أي الموتى الذين كان يتم دفنهم في الغرب عادة.
وتم تصوير الإله في هيئة آدمية وكانت له شعر مستعار ولحية يخصان المعبودات. وصُور أيضًا على شكل مومياء ذات أرجل متصلة ملتصقة ببعضها البعض إشارة إلى طبيعة الإله الجنائزية وارتباطه بعالم الموتى. وظهر في عصر الدولة الوسطى بالتاج الأبيض فوق رأسه إشارة إلى أصله الصعيدي. وارتدى كذلك فوق رأسه تاج يُعرف بـ "الآتف". وارتبط الرب أوزيريس بالزراعة والبعث والاخضرار والهناء وإعادة إخصاب التربة المصرية. وكان له الدور الأعظم في محكمة الموتى في العالم الآخر. واتحد مع عدد مع المعبودات الأخرى المهمة في مصر القديمة.
• البحث عن مقبرة أوزير
أعتقد علماء المصريات أن مقبرة أوزير أما أن تكون في واحد من المكانين المهمين بالنسبة للرب أوزير: أبوصير أو أبيدوس، أو على الأقل يحتويان على أهم أجزاء جسده. ويعتقد أن أبيدوس تحتوي على رأس الإله أوزير. وفي أبيدوس، يوجد مكانان مناسبان لذلك. الأول هو الأوزيريون الذي بناه الملك سيتي الأول من ملوك والأسرة التاسعة عشرة وعصر الدولة الحديثة. والثاني هو مقبرة الملك "جِر" من ملوك الأسرة الأولى.
• إملينو في أم الجعاب
تمتد جبانة أبيدوس خلف القرية في الصحراء. وقُسمت إلى قسمين: القسم الشمالي الغربي وعرفة الأثري الفرنسي أوجست مارييت باشا بـ "الجبانة الشمالية"، والجزء الجنوبي الشرقي ويعرف بـ " الحبانة الوسطى". وتقع جبانة أم الجعاب (أو "أم القعاب") على معبدة حوالي 1.7 كم من الحافة الزراعية. وعُرفت بهذا الاسم لوجود كميات هائلة من الفخار بها. وتحتوي على آثار من فترات تاريخية متعددة. وبنى ملوك الأسرتين الأولى والثانية مقابرهم بها. وأصبحت مكانًا للحج وتقديم التقدمات ونذر النذور على اعتبار أن إحدى تلك المقابر هي مقبرة أوزير، وتحديدًا مقبرة الملك "جِر". وتمتلئ أم الجعاب بالفخار بكثرة، وخاصةً فوق مقبرة الملك "جِر". وبدأ العمل من فوق المقبرة الأثري الفرنسي "إميل إملينو" لإعادة اكتشاف الأوزيريون عام 1898 ميلادية. وعندما بدأ موسم حفائره الأول لفت نظر إملينو كثرة الفخار المنقوش باسم أوزير فوق مقبرة الملك "جِر". وعثر أثناء حفائره على تمثال صغير لأوزير مما أكد ظنه بأن مقبرة الملك "جِر" هي مقبرة أوزير. وبعد أربعة أيام من الحفائر، ظهرت جدران حجرات تشكل مقبرة تشبه جميع مقابر المنطقة. وكانت مكونة من عدد من الحجرات. وظهرت حجرة الدفن على شكل مربع تقريبًا. وظهرت مقصورة خشبية مركزية، وكانت محاطة من ثلاث جهات بمخازن من الطوب اللبن. وكان يحتوي بعضها على بعض بقايا الأثاث الجنائزية مثل جرار التخزين الضخمة، وكان بعضها فارغًا من أي شيء أو يحتوي على لوحات أثرية صغيرة. وربما تم فرش أرضية تلك الحجرات الخشبية الرئيسة بالخشب. وأتت النيران على المقبرة بأكملها. وحدث ذلك بين الأسرة الثانية وقبل بداية عصر الدولة الوسطى. وأثناء قيام رجال إملينو بتنظيف الجزء الغربي من المقبرة، عثروا على تمثال كبير من البازلت الأسود يمثل الرب أوزير راقدًا على نعشه أو سريره على جانبه الأيسر، وتم تشكيل جانب السرير على شكل أسدين. وكانت الصقور تحرس (رمز الرب حورس) كل جانب من جوانب السرير. وترقد الربة إيست أو إيزيس فوق الأسدين حتى تشبع نفسها وتحمل بالطفل الصغير حور من أبيه أوزير. وفي إحدى الحجرات على الجانب الشرقي من المقبرة، عثر إملينو على جمجمة نسبها إلى أوزير بناءً على النذور التي وجدها على سطح المقبرة من لوحات وغيرها. واعتقد أن مدخل المقبرة الذي كان على شكل سلم يوصل إلى حجرة الدفن التي تمثل مقام الرب العظيم كما ذكرت النصوص عن أوزير. وبالرغم أن فحص الجمجمة أثب أنها صغيرة وربما كانت لامرأة، عارض إملينو هذا الرأي وقال إن أوزير ربما كان صغير الرأس بناءً على ظهوره في تماثيله. وادعى أيضًا أن المقبرة كانت المستقر الأخير لكل من المعبودين حورس ابن أوزير وأخيه الشرير ست!! وابتداءً من عام 1899 ميلادية، بدأ العالم الأثري الانجليزي الشهير السير وليم فلندرز بتري مؤسس علم المصريات الحديث حفائره في أبيدوس. وأثبتت حفائره أن ما كان يعتقد إملينو أنه مقبرة أوزير ما هي إلا مقبرة الملك "جِر". وأوضحت حفائره في موسمها التالي عام (1900-1901 ميلادية) أنه تم تعديل مقبرة الملك "جِر" في تاريخ ما متأخر؛ كي تكون مقبرة لأوزير، وحتى يكون بها سرير أوزير المنحوت والمقام فيها والذي عثر عليه إملينو، وأن السلم المؤدي إلى مدخل حجرة الدفن أضيف؛ كي يكون مناسبًا لزيارة الحجاج إلى أبيدوس.
• الحج إلى أبيدوس
بداية من النصف الثاني من الأسرة الثانية عشرة على الأقل، بدأ الحجاج يتوافدون على أبيدوس من جميع أنحاء مصر القديمة كي يشهدوا الاحتفال السنوي بمعبودهم الأكبر أوزير. ومن لوحة الموظف الكبير " إيخر نِفرت" من عهد الملك سنوسرت الثالث والمحفوظة في متحف برلين، نعرف ماذا كان يحدث في ذلك الاحتفال. ويقول "إيخر نفرت":
"فعلت كل شيء طلبه جلالته، ونفذت أمر سيدي من أجل أبيه، أوزير-خِنتي إمنتيو، سيد أبيدوس، عظيم القوة، الموجود في إقليم ثني. وكان الابن المحبوب من أبيه أوزير-خِنتي إمنتيو. وزينت مركبه الخالد العظيم، وصنعت لها مقصورة تظهر وتشرق بحسن وبهاء خنتي إمنتيو، من الذهب، والفضة، واللازورد، والبرونز، وخشب السدر. وصاحبت المعبودات في رحلتها. وصنعت مقاصيرها المقدسة من جديد. وجعلت الكهنة يمارسون واجباتهم بحب، وأن يعرفوا طقوس كل يوم، عيد رأس السنة. وسيطرت على العمل فوق المركب، وزينت المقصورة وصدر سيد أبيدوس باللازورد والفيروز، والشفاه الإلهية بكل حجر كريم. وغيرت ملابس الإله في حضوره... ونظفت ذراعه وأصابعه. ونظمت خروج الرب "وب واووت"، فاتح الطرق العظيم، عندما قرر الانتقام لأبيه. وطردت المتمردين من المركب. وهزمت أعداء أوزير. واحتفلت بهذا الخروج العظيم. وتبعت الإله عند ذهابه. وجعلت المركب يبحر. وأدار الدفة الرب جحوتي (رب الحكمة). وأمددت المركب بمقصورة وبالزينات الجميلة الخاصة بأوزير عندما تقدم إلى منطقة "باقر" (منطقة في أبيدوس). وأرشدت الإله للطرق التي تقوده إلى مقبرته في منطقة "باقر". وانتقمت لـ "ون نفر" (اسم من أسماء "أوزير") في هذا اليوم ذي القتال العظيم، فطردت كل أعدائه من على الشاطئين. وجعلته يتقدم في مركبه العظيم. وأخرجت للناس جماله. وجعلت أصحاب المقابر في الصحراء الشرقية سعداء. وشاهدوا جمال المركب وهي تتوقف بأبيدوس، عندما أحضرت أوزير-خِنتي إمنتيو إلى قصره، وتبعت الإله إلى بيته، وقمت بتطهيره، وأوسعت له مقعده، وحللت له كل مشكلات إقامته بين حاشيته المقدسة".
تم تحديد موقع مقبرة أوزير في منطقة "باقر" التي يبدو بوضوح أنها ليس أكثر من منطقة أم الجعاب نفسها. وفي وقت ما من عصر الدولة الوسطى، تم اعتبار إحدى المقابر الملكية القديمة على أنها مقبرة الإله أوزير. غير أن هذا الاقتراح لم يكن له ما يدعمه. والأكثر منطقية أن تكون جبانة أم الجعاب هي جبانة ملوك مصر الأوائل، ومن باب أولى أن أوزير تم دفنه بها. واعتبرت مقبرة الملك "جِر" مقبرة أوزير؛ لوجودها في مقدمة الجبانة، وذلك أنسب للحجاج؛ حتى يمارسوا احتفالهم السنوي بمعبودهم أوزير. ومع نهاية الأسرة الثانية عشرة وبداية الأسرة الثالثة عشرة، زادت مساحة الجبانة بشكل كبير وامتدت حوالي 1.5 كم إلى الجنوب الغربي من قرية كوم السلطان الحالية. وأصبحت أبيدوس المركز الرئيس لعبادة الرب أوزير. وأخذت عملية الحج أثناء الحياة والموت تزداد بشكل كبير. ورغب كثير من المصريين في أن يتم دفنوهم في أبيدوس بجوار معبودهم الأكبر أوزير، سيد الأبدية والعالم الآخر حتى ينعموا برفقته في العالم الآخر أو على الأقل كانوا يتركون أشياءهم التذكارية في ذلك المكان المقدس بين معبد أوزير ومقبرته.
وهكذا تطور مقام أوزير من مكان بسيط لا يحتوي إلا على لوحات نذرية بسيطة إلى مزار كبير رمزي لا ينقصه سوى وجود مومياء المعبود أوزير. وتم إقامة الآثار واللوحات النذرية حول ضريح معبود المصريين الأكبر المعبود أوزير أثناء زيارتهم السنوية لأبيدوس؛ كي يشهدوا أو يشاركوا في الاحتفال ببعث وقيام أوزير بعد أن يتركوا آثارهم فوق مقبرة الملك "جِر" التي اعتبرت مقبرة أوزير التي تم دفنه بها.
• أوزيريون سيتي الأول
الأوزيريون هو اصطلاح استخدمه الإغريق للإشارة إلى المقاصير الخاصة بالرب أوزير. وكان العالم بِتري أول من أطلقه من علماء المصريات على ذلك المبنى الموجود خلف معبد الملك سيتي الأول بأبيدوس حين اكتشفه في شتاء العام 1901 -1902 ميلادية. واكتمل تنظيفه العام 1926 ميلادية. ويقع خلف المعبد الجنائزي الخاص بالملك سيتي الأول وعلى نفس المحور وله نفس التخطيط والنقوش ويشبه مقبرة ملكية. ويدخل إليه من خلال ممر طويل منحدر. والحجرة الرئيسة به عبارة عن قاعة كبيرة تشبه الجزيرة. وتحيط بها المياه من كل جانب. وفي قلبها، يقع التل الأزلي الذي يرمز إلى إعادة بعث وقيام أوزير. وربما تم دفن أوزير في ذلك المكان. ويحمل سقف تلك الحجرة عدد من الأعمدة الجرانيتية الضخمة، وبقي وسط سقف الحجرة مفتوحًا. وكانت المقبرة مغطاة في السابق بتل أرضي محاط بأشجار على مسافات منتظمة. وتمثل تلك المياه الأزلية وإعادة عملية الخلق من العدم والمحيط الأزلي المعروف باسم "نون" العظيم عند المصريين القدماء. وهناك حجرة أخرى لها سقف منحدر بنقوش ملكية تشبه تابوتًا حجريًا. والنقوش غير مكتملة، ويغطي سطوح الممرات الداخلية فصول من كتاب البوابات (من كتب العالم الآخر عند المصريين القدماء)، والأجزاء الخارجية بعض فصول من كتاب الموتى، أو كتاب "الخروج في النهار"، كما كان يعرف في مصر القديمة. بالإضافة إلى بعض المناظر التي تمثل الملك سيتي الأول والملك مرنبتاح. وتاريخ المبنى مختلط. ويعود في الأصل إلى الملك سيتي الأول. وأكمل نقوشه حفيدة الملك مرنبتاح. واستمرت زيارة ذلك الأوزيريون إلى القرن الثالث الميلادي كما ذكر المؤرخ "سترابو".
• أوزيريون أهرامات الجيزة
الشيء الغريب حقًا أنه يوجد بهضبة أهرامات الجيزة بالقرب من الطريق الصاعد الخاص بالملك خفرع (من ملوك الأسرة الرابعة وصاحب الهرم الثاني بهضبة الجيزة) حيث تم العثور على بئر عميق مكون من ثلاثة مستويات. والمستوى الأول والثاني منها عبارة عن فجوات في الجدار بها تابوت مكسور، أو غطاء تابوت. ولكن الشيء المهم هو المستوى الأول والأخير الذي به مياه كثيرة لعلها المياه الأزلية التي بزغ منها خلق الكون. وتحيط المياه بتابوت يستقر في مربع حجري. ويحمل سقف تلك الحجرة أربعة أعمدة حجرية ضخمة. فهل تم دفن جثمان الرب أوزير في هضبة أهرامات الجيزة؟ وهل كان الأوزيريون، مقام أوزير في الجيزة؟ أم أن ذلك المقام هو أحد مقامات الرب أوزير العديدة؟
في النهاية، أقول إن قصة الرب أوزير هي قصة مثيرة مثل حياته وموته ودفنه وأسطورة بعثه وحمل زوجته المخلصة إيست أو إيزيس منه في طفله وولي عهده الرب حور أو حورس.
لقد كانت تلك هي قصة الأسطورة وصناعتها في مصر القديمة، مبدعة الآثار والمليئة بالكثير من الغموض والسحر والجمال والأسرار.
• أخنوخ في التوراة والعهد الجديد
بحسب روايات عدد من العلماء والمؤرخين والمفسرين المسلمين مثل الطبري والقرطبي وغيرهم، فإن نبي الله إدريس المذكور في القرآن الكريم هو نفسه أنس أو أنوش أو أنوخ أو خنوخ أو إنوك أو أخنوخ المذكور في التوراة. وجاء ذكره في التوراة "أنه مشى مع الله ولم يعد" في سفر التكوين (5:22-29). ورفعه الله من دون شرح مستفيض إلا أن "الله أخذه ولم يعد". وذُكر في العهد الجديد ثلاث مرات ثلاث مرات في لوقا 3:37))، وعبرانيين 11:5))، وفي يهوذا )14:1-15).
• نبي الله إدريس
كان نبي الله إدريس أحد الأنبياء الكرام الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالي في كتابه القرآن الكريم حيث ذكر صراحة أنه نبي، وهذا يوجب علينا الإيمان به والاعتقاد في نبوته دون شك؛ لأن القرآن قد ذكره باسمه وحدث عن شخصيته؛ فوصفه بأنه نبي وصديق. وهكذا جاء ذكره في القرآن الكريم في حيث قال الله تعالى: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا. وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا" (سورة مريم: الآيتان 56و57). وذكر أيضًا في القرآن الكريم في حيث قال الله عز وجل: "وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ" (سورة الأنبياء: آية 85). وقد قال البعض إن نبي الله إدريس هو المشار إليه في حديث معاوية بن الحكم السلمي، لما سأل رسول الله ?، عن الخط بالرمل فقال: "إنه كان نبي يخط به، فمن وافق خطه فذاك".
وصل إلينا كلام كثير وأوصاف وأفعال عديدة نُسبت إلى نبي الله إدريس عليه السلام. وذكر كثير من علماء التفسير، والأحكام عنه أشياء كثيرة، كما ذكروا عن غيره من الأنبياء، والعلماء، والحكماء، والأولياء. فذكر بعض العلماء والمؤرخين المسلمين أن نبي الله إدريس كان أول الأنبياء من بني آدم، وأُعطي النبوة بعد آدم عليه السلام، وذكروا أنه كان أول من خط بالقلم، وقد أدرك من حياة آدم ثلاثمئة سنة وثماني سنين. وذهب بعض العلماء من الصحابة ومن بعدهم إلى أن إلياس وإدريس اسمان لنبي واحد، وأن إلياس هو إدريس وإدريس هو إلياس. وقال البخاري عن ابن مسعود، وابن عباس، إن إلياس هو إدريس.
قال البعض عن نبي الإله إدريس أنه هرمس الهرامسة، أي حكيم الحكماء، وخاط الثياب، وكان مثالاً للحكمة والعلوم الرياضية والفلك. وفي هذا ما يتناسب مع كلمة المعلم الأول وحكيم الحكماء، وأن هذا النبي إدريس علّم البشرية أشياء كثيرة قبل الحضارة. ومن الجدير بالذكر أن بعض العلماء والمؤرخين المسلمين زادوا وذكروا أن نبي الله إدريس قد حكم مصر، مثلما ذكر الإمام السيوطي في كتابه "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" إن نبي الله إدريس بين من دخلوا مصر من الأنبياء، وذكر أنه عاد إلى مصر، وحكمها وزاد في مسار نهر النيل، وقاس عمقه وسرعة جريانه وكان أول من خطط المدن ووضع قواعد للزراعة وعلّم الناس الفلك والهندسة. وقال إن البعض يدّعي أن أحد أهرامات مصر هي قبر النبي إدريس عليه السلام. وذكر المقريزي أيضًا في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"- أو الخطط المقريزية- أن إدريس كان ملكًا لمصر، وكان أول من بنى بها بيوتًا للعبادة، وأنه أول من علم البشر علم الطب.
• لا صلة!
غير أن الحقيقة أنه لا توجد هناك أية صلة بين الرب المصري القديم أوزير، أو أوزيريس في النطق اليوناني، ونبي الله إدريس عليه السلام، وليس كذلك أية صلة بين مصر وبناء الأهرامات و"أبو الهول" وعلم التحنيط وغيرها من الأمور التي نُسبت لنبي الله إدريس عليه السلام وذلك النبي. وذكر البعض هذه الأمور ونسبها لنبي الله إدريس دون علم أو دراية. ولم يمدنا علم الآثار في مصر وبلاد الشرق الأدنى القديم بكل ما جاء ذكره في الكتب السماوية المقدسة.
|