القاهرة 19 يوليو 2023 الساعة 10:55 ص

بقلم: أحمد محمد صلاح
من المؤكد أن أي حضارة بشرية في العالم تحصل علي لقب "حضارة" من فعل التدوين، أي الكتابة، واكتشاف الكتابة وإن كان به بعض الشد والجذب بين الحضارة المصرية القديمة والحضارة البابلية، إلا أن المسالة هنا كانت كيف دونت الأحداث وليس من سبق، وإن كان فعل السبق قد قمنا بتفنيده في مقالة سابقة.
ولكن ما تميزت به الحضارة اليونانية عن الحضارة المصرية القديمة والبابلية هي أنها استطاعت اختزال الحروف، وتحويل الكلمات المنطوقة إلى كلمات مكتوبة بصورة تسمح بقراءتها بشكل أسهل من تلك الموجودة على جدران المعابد أو البرديات في مصر القديمة وبابل.
كانت المشكلة الحقيقية لدي اليونان عند بدء التدوين هي كيف يمكن كتابة الكتب، خاصة وأن الفلسفة لم تكن تدون إلا قليلا، وذلك في البدء، أي في القرن السادس قبل الميلاد، لذلك كانت محاولات التدوين وبدء الكتابة المختزلة هي بداية تلك المصادر، الكتب الفلسفية
بدا التدوين كما أسلفنا في القرن السادس قبل الميلاد، وأصبح سنة مألوفة في القرنين الخامس والرابع ومع ذلك فكان هناك فلاسفة حرموا على أنفسهم تدوين الحكمة، لأنها أرفع من أن تقيد على الأوراق، وكانت حجتهم أن الحكمة دائمًا في تطور وتتطلع إلى الكمال، وتدوينها من شأنه أن يوقف التطور ويجعل الحكمة جامدة، لذلك لم يدون فيثاغورس فلسفته، ولا طاليس ولا سقراط، بل إن أفلاطون لم يكن يعد المحاورات التي كتبها تعبيرًا عن فلسفته وإنما للتسلية فحسب، أما فلسفته الحقة فتلك التي كان يلقيها على مسامع طلابه في الأكاديمية ويتلقونها عنه سماعا.
ولكن الثابت أن معظم الفلاسفة كانوا يلجؤون إلى تأليف الكتب ووضع كتاباتهم بشكل علمي إلى حد ما، وكانت تلك الكتب متداولة بين الطبقة المثقفة في زمانهم، ومما يروى في تلك الفترة وذكرها الدكتور أحمد فؤاد الأهواني في كتابة "فجر الفلسفة اليونانية" أن فيلولاوس الذي كان من اتباع الفيثغورثيين كان أولا من ألّف كتابا عن مذهبهم، فأذاع بذلك فلسفتهم التي ظلت سرًا حوالي قرنين من الزمان، ويقال إنه فعل ذلك لحاجته إلى المال، وإن أفلاطون اشترى نسخته من أقربائه بمبلغ كبير، واستقي نظريته التي أودعها محاورة طيماوس من ذلك الكتاب.
ويقال كذلك إن انكساجوراس كتب كتابا واحدًا جيد التأليف حسن الأسلوب وأنه أذاعه بين الناس بثمن زهيد جدًا، حتى إنه كان يباع في ملاعب أثينا بدراخمة واحدة وذلك في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، وأن الجمهور كان يعرف كل ما جاء فيه لسهولته.
ثم تنبه حكام اليونان إلى ضرورة التدوين واقتناء الكتب وإنشاء المكتبات وحفظ الكتب، ويقول التاريخ إن بستراتوس حاكم أثينا، وبوليقراطس طاغية ساسون كانا أول من اقتنيا دورًا للكتب في أواخر القرن السادس قبل الميلاد.
وأصبحت تجارة الكتب في أثينا رائجة خلال القرن الخامس قبل الميلاد، واحتفظت جميع المدارس الكبرى مثل أكاديمية أفلاطون ومدرسة أرسطو بمجموعات ضخمة من الكتب، وأنشأ بطليموس مكتبة مشهورة في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، وكانت تحوي نفائس من الكتب ولكنها تعرضت لحريق شهير.
ولكن المشكلة التي ظهرت ونحن نراجع المصادر للفلسفة اليونانية أن هناك العديد من الفلاسفة الذين رفضوا كتابة حكمتهم كما أسلفنا، فضاع الكثير من تلك الحكمة.
|