القاهرة 18 يوليو 2023 الساعة 10:55 ص

بقلم: د. حسين عبد البصير
أثيرت في الفترة الأخيرة زوبعة كبيرة حول ماهية الملك الذي زامن سيدنا موسى عليه السلام. وهناك مزاعم غير علمية تخلط عددًا من الأمور بشكل غير علمي أو منطقي أو منهجي على الإطلاق، ولا تقوم على أي أساس علمي ولا يدعمها أي دليل أو مصدر أثري أو أي مرجع علمي إلا الربط غير الموفق بين عناصر عدة غير متآلفة من التاريخ المصري القديم والقرآن الكريم وكتابات علماء المسلمين القدامى والعهد القديم من الكتاب المقدس دون أي أسانيد علمية مطلقًا. وبُنيت تلك الفرضية غير العلمية على تأويلات لغوية بحتة بناء على اللفظ الأعجمي الممنوع من الصرف في اللغة العربية "فرعون".. وفيما يلي أحاول أن أرد على تلك الفرضية غير العلمية.
• حقيقة "الفرعنة"
في البداية أود أن أقول إن لدى عدد كبير من المصريين وغيرهم اعتقاد غير صحيح بأن "الفرعنة" والتجبر والاستبداد والديكتاتورية والطغيان صفات حكام مصر منذ عصر الفراعنة، ويطلقون عليهم جميعًا لقب "فرعون" وجمعهم "فراعنة" دون أدنى استثناء. وكذلك يطلق المصريون أنفسهم وغيرهم على الشعب المصري كله لفظ "فراعنة". وجاء هذا الاعتقاد نتيجة ما ورد في الكتاب المقدس (العهد القديم) والقرآن الكريم عن طغيان وتجبر وتكبر وتأله الملك المصري القديم الذي أطلق عليه لقب "فرعون" دون أن يُسمى، وعاش في عهده نبي الله موسى عليه السلام.
لقد كان الحاكم في مصر القديمة منذ بداية توحيد مصر - حوالي عام 3000 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام أي منذ أكثر من 5000 سنة- رأس الدولة والسلطة المركزية متمثلة في جميع السلطات التشريعية والحربية والتنفيذية، فضلًا عن رئاسته للسلطة الدينية والكهنة. وكان الملك المصري يحكم مصر نيابة عن آلهة مصر الكبار باعتباره ابن الآلهة والوريث الشرعي لهم على الأرض. وهكذا كان الحاكم المصري مصدر السلطات مجتمعة.
• لفظ فرعون
جاء لفظ "فرعون" من القصر الذي كان يعيش فيه الحاكم المصري القديم. وكان يطلق عليه "بر عا" أو "بر عو". وهو تعبير مصري قديم مشتق من مقطعين وهما "بر"، وهو اسم يعني "البيت"، وصفة هي "عا"، وتعني "الكبير" أو "العظيم" نسبة إلى الحاكم. وكان يُستخدم هذا المسمى حين الإشارة إلى الحاكم ومقر حكم الدولة المصرية القديمة منذ عصر الدولة الحديثة (أي منذ حوالي 3500 سنة). ثم تحول لقب "بر عو" إلى "فرعو" في اللغة العبرية، واُضيفت "النون" في اللغة العربية فتحول إلى "فرعون". وكان يُستخدم لفظ "فرعون" استخدامًا إداريًا فقط، ضمن صفات الحاكم المصري العديدة. ونظرًا لظهور هذا الوصف الملكي المصري الجديد منذ عصر الدولة الحديثة لذا لم يستخدمه القرآن الكريم عندما أشار إلى حاكم مصر في عهد سيدنا يوسف عليه السلام، وأطلق عليه لفظ "الملك". وهذا أقرب إلى أدبيات العصر الحالي عندما تُطلق لفظة "البيت الأبيض" عند الإشارة إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أو سياساته.
مع التسليم بما جاء في الكتب السماوية عن فرعون موسى عليه السلام؛ فإنه لا يجوز اتهام كل حكام مصر القديمة بنفس صفات الطغيان والتأله والتجبر التي كان عليها ذلك الملك؛ فكان من بينهم الصالح والطالح والمؤمن والكافر والقوي والضعيف والعادل والظالم.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال إطلاق لقب "فراعنة" - الذي كان يُطلق على الملوك المصريين القدماء منذ عصر الدولة الحديثة فقط- على كل المصريين القدماء؛ لأنه من غير المنطقي أن يُطلق لقب "قيصر" - الذي كان يخص الإمبراطور الروماني- على كل الرومان أو الروم.
• فرعون لقب وليس اسمًا
هكذا فإن لقب "فرعون" لم يكن يدل على تجبر كل الحكام المصريين، وكذلك لم يكن يدل على شعب معين أو جنس محدد؛ وإنما هو وصف إداري بحت يشير إلى الحكام المصريين منذ عصر الدولة الحديثة وإلى نهاية تاريخ مصر الفرعونية فقط في عام 332 قبل الميلاد عندما احتل الإسكندر الأكبر مصر، وتحولت مصر إلى مستعمرة يحكمها الغرباء لقرون عديدة.
لم يكن الهكسوس من العرب كما تزعم تلك المزاعم. واحتل الهكسوس شمال مصر إلى مصر الوسطى في الفترة من 1750 قبل الميلاد إلى 1530 قبل الميلاد فيما يعرف تاريخيًا بـ"عصر الانتقال الثاني". ولم يكن بين ملوكهم ملك يُسمى فرعون. ولم يعش سيدنا موسى عليه السلام بينهم ولا في زمنهم. وأسماء الملوك الخمسة لا يوجد من بينها "نب تاوي" وإنما "نبتي" أي المنتسب للسيدتين الربتين "نخبت" و"واجيت". ولا يجوز الربط بين تفسيرات العلماء المسلمين القدامى لأسماء بعض الشخصيات، التي جاء ذكرها في القرآن الكريم دون أسمائها، وبين الأسماء المصرية القديمة. ومن المعروف أن اللغة المصرية لم تفك أسرارها إلا في عام 1822 على يد العلامة الفرنسي جان-فرانسوا شامبليون. فكيف للعلماء المسلمين القدامى معرفة الأسماء المصرية القديمة على نحو صحيح في زمنهم البعيد من العصر الحديث؟ وأين مصادر هذا الزعم؟ وأين قال علماء المصريات هذه الفرضية؟ واللغة الآرامية ليست لغة الأعراب، ومن المعروفة أنها كانت لغة الشرق الأدنى القديم في الألف الأول قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وأن اللغتين العربية والعبرية من اللغات السامية الغربية.
• الأمانة العلمية ضرورة
إن على أي كاتب يستخدم التاريخ المصري القديم مسرحًا لأعماله حتى وإن كانت خيالية، أو يقدم أية دراسة عن التاريخ المصري القديم، أن يتبع المنهج العلمي، وأن يسير وفقًا للحقيقة العلمية التي لا خلاف عليها عن العصر الذي يكتب عنه حين التصدي لأية فترة تاريخية، ولا يجوز إطلاق الأحكام والآراء دون وجود ما يدعم أي فرضية من دلائل أثرية، وأن الربط بين الديني والتاريخي والأثري عادة لا يكون في صالح الديني الثابت في مواجهة التاريخي والأثري المتغير وفقًا لأحدث الاكتشافات الأثرية التي في تزايد مستمر وتغير بشكل دائم، وذلك حتى يكون الكاتب صادقًا مع نفسه أولًا ومع قرائه ثانيًا.
|