القاهرة 04 ابريل 2023 الساعة 11:20 ص
بقلم: سالم الشبانة
في فراغ غويط نحيا؛ كأننا نعوم في حوض عظيم كرواد الفضاء، لكن بلا حبال تشدنا لنقطة ما، يشير الفيلسوف الألماني ليبنتز Leibniz إلى أن الفراغ نابع من إدراكنا للأشياء، لو لم تكن هناك أشياء لما كان هناك وجود لمفهوم الفراغ، وقد اعتبر أن مفهوم الفراغ تعميم أو توسيع لمفهوم المكان؛ فالمكان ليس شيئا حقيقيا ولكنه مجرد علاقة بين شيئين.
ما البيت إذن! فراغ قديم، لم يكن البيت مجرد بيت؛ فمستطيل الفراغ الذي تصل مساحته نصف فدان تقريبا، بفناء واسع وحجرات طينية في زاوية من ضلعه الخلفي وشجرة جازورين عالية أمام البوابة؛ هذه الفتحة في السور الطيني بلا باب يغلقها.
مدح كارل أونوريه البطء في كتابه مديح البطء، وكتب ميلان كونديرا رواية البطء؛ كان نقيس مفردات حياتنا بزمن عضوي يتمطى كقط أليف على حافة الشباك متأملا العالم في كسل وتراخ، كان البطء فردوسنا الذي يتسع عبر ساعات اليوم التي تكاد لا تنتهي، ربما هذا الفقر المادي، وفقر المعرفة الذي كان يركد في خفوت لا نلاحظه، لكن البيت كان بيتا: دفء المشاعر البسيطة العميقة، مغامرة الجسد الأولى، اكتشاف الذات ومفردات العالم خلف غابة البوص الصغيرة حول البئر المردومة.
متى كان البيت الأول! ربما فوق ظهر جمل فجر يوم ربيعي بعيد رتب لنا أبي مكانا بين الحمل وغطّانا بلحاف أنا وأخي في ضباب النعاس حركة مشي الجمل الرتيبة لا تتناسب مع حركة السيارات التي تعبر مسرعة كوحش معدني غاضب بصوت يصّم آذاننا. بيت الشعر_ الذي لم يصنع من وبر الجمال؛ بل خيمة من أجولة خيش فارغة خاطها أمي بمسلة وخيط الكتان_ الذي أقامه أبي على عجل في جرن يملكه الفلاح الذي سيحمل أبي حصاد زرعه على جمله هو وغيره.
البيت الذي حَجَره أبي بقدمه؛ خط في الرمل المشاع مستطيلا على قدر طاقته وقال: هذا بيتي. ثم بنى سياجه بأربطة من أعواد الذرة، وبنى فيها خصا وحجرتين من الطوب اللبن جعلهما مخزنا لحبوب القمح والذرة.
بيوت كثيرة، فراغ عريض ضمني كالقبر، تنقلت فيه كقطعة شطرنج على لوح عظيم ما بين قرى ومدن عديدة ارتحلت إليها برغبة الأب المستبدة، وبرغبتي في الفرار من جو كابوسي عشته مرة أخرى. سكنت أخيرا بيتا في المدينة البعيدة على الساحل الشرقي لبحر يغفو كملاءة مجعلكة، بحر وصحراء يتعانقان في شبق، سماء واطئة بلا غبار ولا شوارع كالحة، ثم تباغتنا حرب بلا موعد كضيف ثقيل كريه الرائحة، القلق الوحشي، والخوف المجهول كوثبة الضبع في الظلام، فيصير البيت حصارا والمدينة سجنا.
ما البيت! أهو الجدران التي ترتفع بلا رادع كعشب همجي، ندم قديم كخطيئة تهرع نحو تتمتها، ربضت على كتفي بأعراف وتقاليد بالية كوجه مومس عجوز؛ فالشمس القوية لم تعمل عملها في عقول وعقائد تطل بوجه بشع، والبحر الذي يشهق دخان القذائف، كل هذا لم يمنع القلب أن يقف مندهشا أمام الجمال الخام كأن الله فرغ توّا من خلق العالم.
البيت ذراعان مفتوحان في المسافة الفاصلة، ضحك صاف، صراخ في النداء والغضب، يد تصلح نافذة معطوبة، تربط حبل غسيل يتأرجح في الريح، تسقي نبتة تتأتئي في خفوت. البيت امرأة فارغة من كل شيء إلا الحب.
|