القاهرة 07 فبراير 2023 الساعة 09:33 م

قصة: د. محمد سمير عبدالسلام
تتصاعد الآن أشجار الغابة الضخمة من حولي؛ صوت نشوئها الآخر يشبه صرخة أو أغنية لمنقار بجعة قديمة يتشكل بين الفضاء وفجوة رمادية بداخلي، تحتله المساحات الفارغة أحيانا فيبدو مثل روائح الزهور، أو يمتزج بصوت ممثل يغني، ويخاطب صورة تشبه الموناليزا تجلس على أريكة كبيرة داخل بقعة سوداء في حلم، بينما يخرج من بعيد قصر ذهبي مليء بغرف مثل رؤوس الديناصور الطائر تنمو ببطء وسط منحنيات كثيفة متداخلة مثل شبكة وتحوي عددا كبيرا من خشبات المسرح الدائرية؛ أخيرا يتشكل القصر الآن في هيئة بومة كبيرة تنظر إلى بعينين واسعتين جدا؛ وتأتيني من جهتهما أصوات معارك قديمة، سيوف، ودببة، وصهيل، وضحكات امرأة تقول:
هذه المياه لا تروقني، أعيدوا الآن تمثيل المشهد في سرداب أو ممر في الجانب الأيمن من بطن البومة، هيا سأقوم أنا أولا بالجري في المنحنى الهابط، وأضحك هكذا ويتبعني ديناصور طائر، بعدها تتصارع الطبول وسط أصوات الدببة والصهيل، وتخرج المياه البنفسجية من هذه الفجوات في الهواء.
المرأة تضحك بالقرب مني، وبالقرب من قصر البومة أيضا، تطل علي من نافذة عين البومة المستديرة السوداء ومن تلك الفجوة الرمادية المتحركة بداخلي، ولا أتمكن من رؤيتها، مجال صوتها يتردد في فضاء بحيرة بالقرب من قلعة قوطية قديمة تتموج فيها الرياح والعواصف، وتتصارع ممزوجة بزئير مكتوم.
لم تأتيني دائما فارغة وهوائية أيتها النغمة؟
أراك الآن تعانقين قصر البومة وتدورين من حولي، وتضعينني في مخروط مائي معلق في هواء الغابة بينما تخرج من أحلامي صور المعركة، وعيون الدب، وأغنية البجعة، وصوتك الآخر الذي يطارد فراغ الممر، ونجري باتجاه منحنى آخر مملوء بشبكة من منحنيات صغيرة متداخلة يأتينا من بينها أصوات لحيوانات تمر في شبكة المنحنيات مثل أسهم صاعدة وهابطة، وتجري يمينا ويسارا وفي العمق ثم تختفي، وتولد مرة أخرى، يأتيني صوت الزرافة منخفضا وممزوجا بطبول داكنة، وأصوات غربان تختلط مساحاتها بطبقات الفراغ الأبيض، تتشكل الفجوات في المشهد بين المنحنيات والأسهم؛ الأصوات تشكل لوحة جديدة تبدو الزرافة فيها مثل آلة التشيللو التي تخرج من الغرفة باتجاه عين البومة الآخرى، بينما تتقرق الحيوانات الأخرى في أقواس تبدأ من مجال الزرافة الذي يأتيني الآن مثل ضحكة المرأة في السرداب، وتنتهي في غرف قصر البومة الأخرى؛ الآن تمتص الفجوات اللوحة الأولى ويخرج منها فيل يجري في كل الاتجاهات بين الأسهم والفجوات، ثم نراه ساكنا وسط حديقة من أزهار الليلك البنفسجية، سنظر إلى في رعب، ثم يضحك، ويتأمل ويختفي وأراه مثل بقعة رمادية في فضاء أزرق داكن.
أعود الآن إلى نقطة البدء فتنتصب أمامي نيران مخروطية متوهجة تقع بين مجالي ومجال قصر البومة وتتصاعد بقوة نجو الأعلى، يخرج منها صوت حاد للكمان ممزوج بضحكات نسائية ساخرة، وأشكال دمى تشبه شخصيات كهوف ما قبل التاريخ ذات الأعين المتقاربة الواسعة، النيران تراوح بين صوت أخشاب متكسرة، وصرخات مبهمة على مسرح قديم، وصوت رجل يشبه والد هملت، وأصوات صبار يخرج يتصاعد، يحتق ويختفي ويتجدد، ويزحف نحوي ونحو القصر.
المخروط الناري الكبير ينقلب من الأرجواني إلى الأزرق، ثم يسود ويختفي بينما يتشكل مخروط ناري آخر غير مرئي في الموضع نفسه، يتصاعد أيضا ويرقص في الهواء، ويمتلئ بشخصيات ألعاب الكمبيوتر القوطية؛ مثل تلك الفتاة التي تستسلم لضحكات الوحش الحلمي وسكينه المزهر، الفتاة تضحك في مجال آخر بداخل مجال القتل نفسه، ترقص رقصة زوربا بداخل مجال الوحش الذي يحدق في الفراغ، ويريد أن يسألني عما يحدث، عن صوت الفتاة الآخر بداخله؛ فأشير إلى مخروط النيران اللامرئي الذي احتلته الآن العواصف، وتجسدت فيه إحدي فتيات فيرمير وأحاطت بها مجموعة كبيرة من أقفاص طيور فارغة ومناقير كبيرة وصغيرة قد تشكلت في زوايا منفرجة، ويحيط بها جناحان كبيران يرفرفان دون اكتمال للصورة، بينما تتضخم عين البجعة فيما وراء الجناحين، وتمتزج بفراغ النيران الأبيض، وصوت ضحكاتها الساخرة المتكررة؛ أشعر الآن باقتراب عين الطائر من فجوتي الرمادية فأرتفع تدريجيا عن أرض الغابة وأجدني معلقا في الهواء مثل عين الطائر التي بدأت تجذب فجوتي الزرقاء الداكنة، وتمتصها داخل النار اللامرئية؛ ما هذا الخدر المفاجئ؟ ما هذه الصرخة البنية الداكنة التي تتصاعد بداخلي؟
ما هذا الوهج الخفي أيتها النار؟ أين عين البجعة ؟ وما هذا المسرح الدائري المعلق في فراغك الأبيض الضبابي؟ لم تتصاعد نغمات الكمان من المعركة المعلقة مثلي في الهواء؟ لم تعبث السيوف الحمراء وحدها دون جنود أوحيوانات؟ أين الآن فتاة فيرمير الجميلة؟
الآن تأتيني فتاة أخرى من وسط مخروط النيران اللامرئي تتحدث بصوت فتاة فيرمير في مسرحية شبحية معلقة في الهواء بينما ترتدي لثام فتاة ماجريت الحلمي وتوشك أن تعانقني فأضع يدي على وجهي الذي بدا محتجبا في المخروط الناري الخفي وأتساءل مرة أخرى عما وجدته من أصدقاء في قصر البومة.
|