القاهرة 27 ديسمبر 2022 الساعة 11:26 ص
حوار: صلاح صيام
داخل كل مبدع رحلة قطعها -بحلوها ومرها-- ليصل إلى المتلقي الذى غالبا لا يعرف عنه شيئا سوى ما يصل إليه من إنتاجه، ومن ثم نرصد حياة المبدعين ونخوض في أعماقهم علنا نقدم للأجيال الحالية التي فقدت البوصلة وأصابها شيء من الإحباط، صورا مشرقة تعينهم على تحمل متاعب الحياة، وتكون نبراسا لهم في قادم. اليوم موعدنا مع المبدعة السورية ميادة سليمان لتتحدث عى رحتلها الإبداعية.
أنهيت المرحلة الابتدائيّة وكنت من المتفوّقات، ولا سيّما في اللغة العربيّة، وقد بدأتْ موهبتي تظهر منذ الصّفِ الرّابع الابتدائيّ حين كنت أقرأ مواضيع التّعبير فتعجب معلّمتي لذلك طلبت منّي أن أشارك في مسابقات روّاد طلائع البعث، وكنت أفوز لكن لا أكمل المراحل كلّها بسبب تمضيتي العطلة الصّيفيّة في حمص مع أخوالي، ومنذ هذه السّنّ كنت قارئة نهمة أقرأ بشغف كلّ ما تقع عليه عينايَ، وكنت قد خصّصتُ دفترًا أكتب عليه خواطري وبعض القصص وأطلعُ أبي عليه، وكان يشجّعني ويعطيني بعض الملاحظات الّتي أفادتني كثيرًا في حياتي الأدبيّة .
وفى المرحلة الإعداديّة والثّانويّة بدأ اهتمامي يزداد أكثر باللغة العربيّة وشجّعني على ذلك أساتذة هذه المادّة ففي الصّفّ السّابع كانت معلّمة اللغة العربيّة تحبّني كثيرًا، وذات يوم في امتحان اللغة العربيّة وضعت لنا سؤال الموضوع الأدبيّ من خارج الكتاب كي تكتشف مواهبنا، وكان الموضوع أنْ نصِفَ فقيرًا مرتميًا على قارعة الطّريق، وكيفيّة مساعدته، وشعورنا تجاهه، كنت الوحيدة في قاعة الامتحان الّتي تكتب، فقد كان صعبًا على طالبات معتادات أن يتلقّينَ مساعدة في كتابة مواضيعهنّ، وبعضهنّ كنّ يوكلنَ هذه المهمّة لأحد أقاربهنّ كي يكتب لهنّ، أمّا أنا فبدأتُ أسرح بعالم الخيال الجميل، وأنا أتخيّل ذلك الفقير بثيابه الرّثّة وهو يرتجف من شدّة الجوع والبرد، كتبت كلامًا جميلًا أذهلَ المعلّمة، وكانت قد طلبت منّا شواهد شعريّة أو أدبيّة تناسب الموضوع، وهنا كانت ورطة الجميع؛ إذ إنّنا لم نكن نحفظ شواهد ملائمة للموضوع، فلجأتُ إلى الحيلة، وقمتُ بكتابة سطرين أدبيّين جميلين للمعلّمة ووضعتهما بين قوسين على أنّهما لأحد الأدباء، وعندما عدت إلى المنزل كنت خائفة أن تكشفني معلّمتي، فسألت أبي: هل تحفظ المعلّمة جميع أبيات الشّعر، وجميع أقوال الأدباء؟ فضحك، وقال لي: طبعًا لا، عندها حكيتُ له ما فعلتهُ، فسألني: ماذا كتبتِ؟ فقلت له: كتبت بما معناه: "ما أجمل أن تساعد الآخرينَ إن وهبتكَ الحياةُ هذا الكرمَ الإنسانيّ" فقال لي أبي بإعجاب: ما كتبتِه يابابا لا يقلّ جمالًا عن كلام الأدباء! مرّ أسبوع وتفاجأتُ ذات يوم حين بدأت المعلّمة تعطينا علامات الامتحان وتطلب منّي الوقوف، صمتَت قليلًا قبل أن تنطق علامتي، فبدأ قلبي يضطرب بخوف وقلتُ في سرّي: لعلّها كشفتني، وستوبّخني أمام صديقاتي، ولكنّها قالت بفخر وفرح: زميلتكنّ ميّادة نالت أعلى علامة على جميع شُعب الصّفّ السّابع، صفِّقنَ لها! علا التّصفيق، وطار قلبي من الفرح، ولا سيّما حين قالت لي: موضوعك الأدبيّ رائع، لقد قرأه خالي، وهو كاتب قصص وقال: هذه الطّالبة ستكون يومًا ما كاتبة قصص موهوبة! لا أستطيع أن أصف تلك الفرحة الّتي غمرت قلبي الصّغير يومها، لكن عدت إلى المنزل وعانقت أبي بغبطة وامتنان لتشجيعه الدّائم لي، ثمّ نلتُ شهرةً في المدرسة بعد أن طلبت منّا المعلّمة أن نكتب موضوعًا عن الصّداقة مع شواهد مناسبة، ولمّا كنت أحبّ أن أكون متميّزة، فقد عمدتُ إلى كتابة أبيات من تأليفي، بدلًا من الاختيار من كتابنا المقرّر: لي صديقٌ إن غبتُ عنهُ يومًا يأتي ويسأل عن أخباري، صديقٌ وفيٌّ لم أرَ مثلَهُ لا يُبالي بِبُعدِ داري، مُحِبٌّ للخيرِ وللمعرفةِ ومُحِبٌّ لِصُحبةِ الأخيارِ.
فسألتني المعلّمة: لمن هذه الأبيات الجميلة؟ فردّيت: لي، أنا كتبتُها فذُهلت وقالت لي: اكتبيها لي على ورقة، سأمليها على الطّالبات كي يكتبنها في مواضيعهنّ، وكانت سعادتي كبيرة، وأحسست بالزّهو وكأنّني شاعرة كبيرة، استمرّت شهرتي تزداد في العامين التّاليين ولا سيّما في الصّفّ التّاسع، فقد كان معلّم اللغة العربيّة يمتدحني جدًّا في الصّفوف الأخرى، وذات مرّة كتبتُ موضوعًا عن الأمّ أعجبه كثيرًا، حتّى أنّهُ بعد أن أنهيت قراءته أمام صديقاتي أعاد قراءته بصمت ودهشة، ثمّ قال لي: اكتبيه لي على ورقة كي تقرأه ابنتي وتتعلّم منكِ! وكانت الطّالبات في الفرصة يأتينَ إلى صفّي ويسألنَ: مَن ميّادة سليمان؟ فأقول: أنا، لماذا؟ فيكون جوابهنّ: لقد تحدّث المعلّم عنك كثيرًا، ووددنا أن نتعرّف عليكِ، وفي بعض الأحيان كانت الطّالبات يأتين إليّ كي أعرب لهنّ بعض الكلمات الّتي صعُبَ عليهنّ إعرابها، وأحيانًا يطلبنَ رأيي بمواضيعهنّ، فأقوم بتصحيح بعض الأخطاء لهنّ، أو أقترح لهنّ أفكارًا كي يكتبنَها.
أتممت الشّهادة الإعداديّة بتفوّق، ولا أستطيع نسيان ذلك اليوم حين كنت أتقدّم لامتحان اللغة العربيّة وهو اليوم الأخير في امتحان الشّهادة الإعداديّة، يومَها وقف بقربي الأستاذ المراقب وقرأ كلّ كلمة كتبتُها في موضوعي الأدبيّ، وذهب إلى المعلّمة المراقبة معه وهمس لها: تلك الطّالبة كتبت موضوعًا رائعًا فاقتربت المعلّمة منّي، وقرأتْ ما كتبتُ، وذهبت إليه وأبدت إعجابها الكبير. وكان هذا المعلّم يروح ويجيء، ويقرأ كلّ إجاباتي حتّى سلّمتُ ورقتي فقال لي: موفّقة أيّتها المجتهدة الموهوبة! وبقيت على شغفي هذا حتّى أنهيت المرحلة الثّانويّة، وبدأتُ دراسة الفرع الّذي أحبّهُ في الجامعة ألا وهو: الأدب العربيّ.
|