القاهرة 04 ديسمبر 2022 الساعة 05:13 م

اثنا عشر تقريرًا وبحثًا ودراسة قرأتها على مدار ثلاثين يومًا قبل انطلاق مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ COP27، وبعد انتهائه في نوفمبر الماضي بشرم الشيخ، وجميعها تشير إلى مبدأ شديد الأهمية والخطورة وهو "التبعية" التي أودت بالدول الأوروبية إلى حافة الهاوية بسبب اعتمادها على تأمين الطاقة من روسيا، ولكن اللافت للنظر في هذا الأمر أن هذا هو المبدأ نفسه التي فرضته تلك الدول ذات النزعة الاستعمارية على الدول النامية قبيل استقلالها.
واستوقفتني دراسة أكاديمية للدكتور عبد القادر دندن أستاذ العلوم السياسية في جامعة عنابة بالجزائر، وهي بعنوان: "إشكاليات التبعية الأوروبية لروسيا في الطاقة.. تفسير من منظور نموذج مركبات أمن الطاقة"، إذ هدفت إلى تحليل علاقات الطاقة بين روسيا والدول الأوروبية لمعرفة أهم عوامل التأثير في هذه العلاقة المعقدة -بحسب الدراسة- خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
وهنا؛ أريد أن أفسر ما هو التعريف الأمثل لـ"التبعية"، خاصة وأنها نظرية ظهرت في ستينيات القرن العشرين كأحد روافد العلوم الاجتماعية، وتشير إلى تبعية جماعة تعاني من فقر سياسي واقتصادي إلى جماعة رأسمالية تسيطر وتتحكم في نوع العلاقة بينهما، وتمتد سطوتها على القضايا الثقافية والحضارية والإعلامية في الدول النامية، وهكذا ظهرت هذه النظرية لتحليل العلاقة الرابطة بين دول العالم الثالث بالنظام الرأسمالي العالمي.
وتقوم نظرية التبعية في علم الاجتماع على أن الدول الغنية دائمًا في حاجة إلى الدول الفقيرة، حتى يستمر نمو اقتصادياتها التي تقوم على سلب موارد الأخيرة، فكشفت هذه النظرية عن أسباب توقف التصنيع الوطني في الدول النامية، بحجة كونها غير قادرة على الصناعة مدعية ذلك كي تستمر الدول النامية في تبعيتها، وتظل تحت سلطة وسطوة ومجبرة على شراء الصناعات من الشركات الاستعمارية.
ويسمح لنا الموقف أن نطبق مقولة "لقد انقلب السحر على الساحر" ونحن نشير نحو أوروبا التي ذاقت مرارة مبدأ التبعية التي رسخت لها وطبقت على الدول التي استعمرتها لمئات السنين، وجنت أوروبا ويلات تبعيتها لروسيا في الطاقة، وكانت هي الخاسر الأكبر من الحرب الروسية الأوكرانية.
ووفقًا للدراسة السابقة تمتاز خريطة مركب الأمن الطاقوي الأوروبي بوجود عملاق طاقوي روسي يمتلك موارد طاقوية أحفورية كبيرة، وتمثل أوروبا السوق الرئيسية للنفط والغاز الروسي، وتذهب أهم صادرتها إلى ألمانيا وإيطاليا والجزء الشرقي من أوروبا، وتعتمد الاقتصاديات الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا على موسكو في مصادرها الطاقوية، وكانت الحرب الروسية الأوكرانية هي الأسواء في تاريخ العلاقات الأوروبية الروسية، نظرًا لولاء أوكرانيا إلى الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وانعكس هذا التوتر في العلاقات على أمن الطاقة في أوروبا.
وهنا لعبت نظرية التبعية دورًا مهمًّا وبارزًا في رسم طبيعة العلاقات بين أطراف الإشكالية القائمة الآن بين روسيا وأوكرانيا ودول الغرب -أوروبا- والولايات المتحدة الأمريكية، فقد شنت روسيا حربًا على أوكرانيا، والأخيرة موالية للدول الأوروبية التي تعتمد بشكل كبير على مصادر الطاقة في صناعتها على روسيا الموقع عليها عقوبات اقتصادية من الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الحرب على أوكرانيا، فيما تواجه الدول الأوروبية ضغوطا أمريكية لفرض حصار شامل على الإمدادات الطاقوية الروسية، مما جعل أوروبا واقعة بين مطرقة التبعية للموارد الطاقوية الروسية وسندان ضرورة وقف الدعم المالي لروسيا في حربها ضد أوكرانيا.
إن هذا التوتر الذي يشهده الغرب الآن، يعد ظاهرة لم يتوقع حدوثها، ولم تحوه النظريات العلمية أو الدراسات المستقبلية، فكان من غير المتوقع أن تشتبك تلك القوى العظمى في حرب باردة جديدة، وتنقسم إلى فريقين للمرة الثالثة، وتدور الدوائر على المستعمر الأكبر من الدول الغربية الرأسمالية، فيبات المستعمِر مستعمَر، ويبات المتبوع تابعًا.
|