القاهرة 23 نوفمبر 2022 الساعة 10:10 ص
تحرير: حسين عبد الرحيم
ما زلت أذكر ما حدث في عام 1990م ، وفي نفس المكان ، شارع " المبتديان " ، والمنبي العتيق لمؤسسة دار الهلال ، مكتبي المتواضع ، نعم المتواضع والبسيط بمجلة " الكواكب " ، التي كنت يوماً أرأس تحريرها مع نخبة مثقفة من الكتاب ومحرري الفن ، وكله إلا محرري الفن من الجيل الجديد ، ومرة أخري ، وليست أخيرة ، أعود لموقف صديقي العزيز الساحلي محمود عبد الرحمن ، الذي اقترح عليَّ في اجتماع مجلس التحرير إجراء حوار غير تقليدي مع الملحن والمطرب المجدد ، والذي توقف نشاطه نسبياً هذه الأيام 2008 م وبعد مرور أكثر من ثمانية عشر عاماً ، إنه الفنان المرهف سليل المجد والإرث الررومانتيكي ، أحمد السنباطي ، خليفة الراحل العظيم رياض السنباطي . وكان اليوم ، أو ذكري ما سأتحدث عنه اليوم ، قد حدث منذ ساعات ، فمع حديث ذي شجون أفاض به وفي صاحبه وسيرته الفنية ، المحرر الموهوب محمود عبد الرحمن ، أصغر محرري مجلة الكواكب ، جاءت سيرة " آل السنباطي " يومها قال محمود وبعدما اعترض وللمرة الخامسة عشرة علي ضرورة تغيير ديكورات مكتبي ، أو مكتب رئيسة التحرير ، بما يتناسب مع مكانتي وقيمتي كناقدة وكاتبة سيناريو مهمة ، كما ذكر محمود ، وكما رفضت أنا أيضاً بإشاحة من وجهي ، مرددة في هدوء موجهة كلامي لابن خط القناة المولود في بورسعيد : لا يهم يا محمود ، فالعبرة ليست بالمكاتب ، بل هي بإجادتك مهنتك بشكل راقٍ وحيادي ، وختمت كلامي مع محمود بعبارة ، ما زلت أسير، وأتعامل بها بل هي حكمتي المفضلة ، فيا ليت البساطة والتواضع يكونان هما الأرضية التي ينطلق من خلالها سلوك كل القادة في كافة المواقع ، أعود للبدء ، وذات صباح شتوي معتق بالحب والاحترام والصحبة والونس بين الأحباء في العمل والمهنة ، بدأ الاجتماع الأسبوعي لمناقشة الخطة الأسبوعية للتحرك في تنفيذ العدد الجديد من مجلة الكواكب .
كان يوم أربعاء ، وحذر لذيذ يسري في جسدي ، وأنا العاشقة وبهوس لأطياف صباحات الشتاء الضبابية في الكثير من الأحيان ، سألت محمود الذي حضر في الصباح الباكر ، واستأذن في الذهاب للاطمئنان علي سكنه بعدما سقط عليه سقف غرفته المفروشة التي يقطن بها بأحد أحياء " العباسية "، وأخطرني الصديق العزيز عادل سعد ، الحالم دوماً بالسفر ، بأن محمود انصرف بعدما سلم علي حضرتك منذ ساعة وقت خروجك من المصعد ، مفضلاً أن أبلغك أنا خبر سقوط سقف غرفته ، نتيجة هطول الأمطار ليلتين متواصلين ، فهو خجل أن يواجهك بالأمر وقت قدومك من بيتك فقلت لعادل سعد :
وإيه رأيك يا عادل ؟
في ماذا يا أستاذة ؟!
هذا المحرر نشيط جداً ، وأظنه فقيراً جداً أيضاً ، ولكنه يملك من الكبرياء الكثير والكثير ولذا فقد أردت يا سيد " سعد " أن أعرض عليك ، وأنت تحديداً ، أن نقف بجانبه في موضوع سكنه هذا ، وقال عادل سعد من دون تردد " يا ليت يا أستاذة " ، لكن محمود من النوع الكتوم ، فهو نادراً ما يتحدث عن ظروف حالته وأحواله المعيشية ، بعدها بدقائق ، وقبل أن يحسم الموضوع ، مساعدة أولا مساعدة ، وهل سيوافق محمود علي اقتراحي بإقراضه مبلغاً من المال ليؤسس به سكناً ملائماً بديلاً عن سكنه الذي تهدم كلية كما عرفت من مدير التحرير سيد فرغلي ، المهم ، وما أردت أن أخوض فيه وبدقة ، أن المهاتفة التي وصلتني كانت من الملحن الشاب أحمد السنباطي ، الذي أبلغني بأن هناك مقابلة " انترفيو " ستتم بينه وبين المدعو محمود عبد الحميد بعد أربع ساعات في منزل السنباطي ، وبفيلته المعروفة بترعة المريوطية ، قلت خير يا سيد أحمد ، يا عزيز يا ابن الأعز .
قال عفواً يا أستاذة فولدي " رياض " مريض ، وسيتعذر إجراء المقابلة مع الأخ محمود ، قلت خيراً ، ودعته بالقول : عموماً اتركني ساعة يا أحمد لأن هناك ظرفاً ما تعرض له محمود منذ ساعات ، وبناءً علي تطورات الموضوع سأتصل بك بعد ساعة ، وضعت سماعة الهاتف ، وفوجئت بانهمار المطر من جديد ورأيت نثار الماء عبر شرفة مكتبي المطل علي حي السيدة زينب ، وحاصرتني السير : سيرة " رياض السنباطي " الملحن العظيم ، والمطرب الشجي الأسى في بعض الأغاني والقصائد المغناة بصوته ، مثال " أشواق " التي أبدع فيها بنبرات صوته الرومانتيكي الحالم ، الذي تحسه في توقه إلي الخلود ، باحثاً عن فضاءات أخرى أكثر حنوا ، ورحمة وعدلاً في المشاعر والحب والدفء.
(3) مهاتفة محمود نجم الكواكب
تركت القلم وعدت أطل للنافذة المنفرجة في صمت ، محاولة تجاهل صخب الشوارع الأمامية والخلفية التي كانت يوماً هادئة ، وقد اخترتها برغبتي ، أما الآن فصارت علي النقيض ، وصرت وأسرتي نحيا فيها رغماً عنا ، لنترك حديث الضاحية والصخب ، لأستعيد من جديد ما كان مع ناس وأماكن وزمان بعيد عزيز علي نفسي منهم " محمود عبد الرحمن " ؟! و " عادل سعد " و" طارق سعد الدين " و " باكينام قطامش " و " أمينة الشريف " ، وآخرون ، محررون ومحررات في مجلتي ، محررو فن يعملون بالقطعة وبمكافأة غير ثابتة ، والكل يحلم بالتعيين ، وهناك من يسعي لتثبيت أقدامه في العمل كمحرربالمجلة ، وأنا أقود رئاسة التحرير بهذا الفريق المدهش ، واحد من الشرق ، والثاني من الغرب ، والثالث جنوبي ، وآخر من الدلتا " دلتا مصر العزيزة " ، والأول من خط القناة بورسعيدي ، محمود عبد الرحمن كان هو الحكاية في هذا الزمان الذي مضي ، وانفلت وتوارى ، كيف ؟ لا أعي ، غلبني بكائي عقب المهاتفة ، لن أنكر هذا ، ولكني حاولت جاهدة أن أجتر من جديد ، لأستعيد ما كان ، وعملت بالمتابعة والسؤال في ما بعد المكالمة أن " محمود " صار كاتباً كبيراً مسؤولا ً عن تحرير إحدى الصحف الفنية ، المدهش في هذه الوقفة الزمانية ، أنني تذكرت بدايات محمود وقت أول اجتماع جمعني به في مكتبي في صبيحة شتاء 1989 ، وصمته الدائم ، وشروده ، والانصراف من اجتماع التحرير مبكراً ، وحضوره في اليوم التالي مبكراً ، وقد نجح في إجراء الحوارات أو التحقيقات المتفق عليها ببراعة ، قلت في نفسي ، وأنا خاضعة للذكري سبعة عشرة عاماً ، أو ثمانية عشر قد مضت علي أول لقاء به ، وها هو الآن قد صار صحافياً كبيراً ، وما زال يعاني ضيق ذات اليد وشظف العيش ، زاد شرودي وهمي ، ليس فيما طلبه من مساعدة ، فقد سبق في الماضي أن طالبته أنا بأن أساعده في حياته باقتطاع مبلغ مالي من راتبي ، ليعينه علي الحياة ، ورفض هو يومها بشدة ، فقد كان محمود عفيف النفس ، خجولاً ، صامتاً علي الدوام ، 19 سنة مرت ، وهو بنفس الكبرياء والمودة التي فرطت فيها أنا كثيراً ، حتى كدت أن أنساه ، فعندما كان يأتي علي بالي أقول في نفسي لعله عاد لبلده علي ساحل القناة هناك في بورسعيد .
المدهش في الأمر أعزائي ، أن هذه المكالمة قد فتحت لي باب الجحيم الفكري الذي أرقني لمدة خمسة أيام ، فقد طرحت علي نفسي سؤالاً واحداً : كيف كان الصحافي يعمل في مصر منذ عشرين عاماً ، وكيف يعمل الآن ؟ الوضع تغير كثيراً ، الأمور انقلبت وساءت إلي أدني درجة ، محمود كان يأخذ عشرين جنيهاً مصرياً مقابل إجراء أي حوار لمجلة " الكواكب " وكان يقدم أربعة أو خمسة موضوعات في الشهر ، كان المبلغ يكفيه ، وهو مبلغ ضئيل للغاية ، أما الحال الآن فقد تبدل ، وصار علي النقيض شكلاً وموضوعاً ، ابن عبد الرحمن يتقاضي اليوم ألفين "2000" من الجنيهات مقابل عمله بتحرير إحدى المجلات وموضوعاته ليست بنفس الرونق ولا الجمال الماضي ، ورغم ذلك صار مثله مثل صحافيي الأيام التي نحياها ، لا يميزه شيء إلا نحولة جسده وفقر هيئته ، فماذا حدث لشباب مصر وصحافييها وكتابها ؟ وهل العيب في شباب اليوم أم في القائمين علي مؤسسات العمل والإدارات أو الهيئات أو أنظمة الحكم والتشريع والمنح والمنع ؟ ماذا حدث في مصر والأوطان العربية ؟ وما هو الفارق بين ظروف اليوم الأربعاء التاسع من أبريل 2008 ، وصبيحة يناير 1989 بمكتبي ، وحولي محررو الفن بمجلة " الكواكب " داخل مبني دار الهلال العتيق ، وفي منتصف الدور الثالث " ماذا حدث " ؟! عبارة أرددها كثيراً منذ أن هاتفني محمود عبد الرحمن ، هل العيب في الزمن أم الناس أم الأماكن ؟ أماكن البلاد عند كل منا ؟ وهل أخطأ محمود عبد الرحمن عندما ترك بورسعيد وأتى للقاهرة ليحقق حلمه في حياة كريمة ، وفي مهنة إبداعية برع فيها وما زال ؟ ، وهل أخطأت أنا " حسن شاه " عندما تركت العمل بالنيابة أو المحاماة كدراسة للحقوق وسلكت مجال الصحافة والنقد والكتابة للسينما كمبدعة شاملة ؟ ، وهل أخطأت أو أجرمت في حق نفسي عندما تركت هدوء مكان ميلادي الريفي ، وأتيت إلي صخب القاهرة ؟ ، أقول الآن وبأعلى صوت : لا ، أظنني لم أخطئ ، لكن اللوم كل اللوم يقع علي قسوة زماننا أنا ومحمود عبد الرحمن وآخرين ، عذراً فقد عملت في أروحنا ونفوسنا بل وأجسادنا , وهذا دون مبالغة ، الناس والزمن والأماكن ، فصرنا ضحية للأحلام والطموحات واختياراتنا المعرفية الإبداعية ، فزدنا اغتراباً داخل أوطاننا.
|