القاهرة 23 نوفمبر 2022 الساعة 10:03 ص
تحرير: حسين عبد الرحيم
في عام 1997م ، وفوق مقاعد " البلكون " وبداخل سينما " راديو " الواقعة وسط العاصمة المصرية " القاهرة " ، وفي تمام السادسة إلا خمس عشرة دقيقة ، كنت قد نزلت من سيارتي الخاصة ، وترجلت لأخترق الجموع المحتشدة أمام مبني الرقابة علي المصنفات الفنية القديمة ، للحاق بالزميلات والزملاء المتراصين أمام مدخل السينما المعد خصيصاً ، ومن قبل لجنة المشاهدة بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي دورة 1997 م ، لعرض الفيلم الجريء " سوق المتعة " لمؤلفة الذكي السيناريست وحيد حامد ، بطولة محمود عبد العزيز وإخراج سمير سيف ، أخيراً وبعد ساعتين من اللهث في طرقات ودهاليز المسرح الصغير بدار الأبرا ، ومركز الإبداع الفني ، وكذلك قاعة المركز الثقافي الفرنسي " ومسرح الهناجر " وهي أمكنة ومواقع القاعات التي كانت تحتضن فعاليات المهرجان السينمائي الأقدم والأهم في المنطقة العربية قاطبة ، لكونه يحمل الصفة الدولية منذ ما يزيد علي خمسة وعشرين عاماً ، صعدت السلم المظلم ، ومع الصديقات العزيزات ، وبعض الأحبة من محرري ونقاد وصحفيي السينما ، دخلنا في صحبة وديعة ، وعندنا أمل أن نشاهد فيلماً مختلفاً ، وقد كان ، وبعد مرور ثلاثين دقيقة ويزيد ، وبعد أن أظلمت صالة عرض سينما " راديو " عادت مصابيح صالة العرض لتضيء من جديد ، فسألت بعدما كان هناك ضوء أبيض باهت قد اخترق شاشة العرض الكبيرة لبدء دوران الشريط السينمائي ، هاجت الجماهير وماجت ، وزادت حدة الغضب واستنكار ما حدث .
توقفت ماكينة العرض ، وتحسست مقعدي ، لأسأل " مارى غضبان ":
ماذا حدث يا ماري " ألن يبدأ الفيلم ؟ " ، فقالت ماري بغضب " أصل الست ليلي علوي وصلت " ورأيت النادل في الصالة يسحب النجمة من أصابعها ، ليجلسها في مقعد من القطيفة الحمراء يتقدمني ، ومع دوران الشاشة من جديد سمعت صوت المؤلف وحيد حامد ينادي :
يا ليلي ، لولا ، تعالي بجانبي يا حبيبتي هنا الرؤية أوضح ، وأنصت للهمهمات والهمسات من أمامي وخلفي ، والكل في حالة دهشة شديدة لما يحدث ، ما كل هذه الفوضى من نجوم ونجمات ومؤلفين كبار ، اقتحموا صالة العرض بعد دوران الماكينة بنصف ساعة ويزيد بعدما توقفت الآلة لأكثر من ثلاث مرات بسبب " ليلي علوي " والتي أحترمها فعلاً ، ولكن كيف يحدث هذا من نجمة كبيرة ؟!
قلت : ما علينا ، المهم مشاهدة الفيلم الذي سمعت لجنة المشاهدة بكافة أعضائها ، ومعها النقاد والحضور ، يؤكدون أن فيلم " سوق المتعة " هو الفيلم الوحيد المنافس ، السمفونية السينمائية الأخرى " أرض الخوف " من بطولة عبقري التمثيل العربي الراحل أحمد زكي ، ومن إخراج الطليعي بحداثة " داود عبد السيد " ولملمت شتات نفسي من جديد محاولة طرد الزهق الناتج عن كل هذا العبث والفوضى وعدم احترام المواعيد في مصر المحروسة !
أخيراً بدأ الفيلم ، وسمعت المؤلف يهمس في أذن ليلي علوي في خفوت بكلمات غير واضحة قلت يجوز يتحدث عن فيلمه ، لحظات وزادت التفاتات النجمة الكبيرة ، والتي لا تشارك في فيلم " سوق المتعة " ولكنها حضرت كمشاهدة ونجمة كبيرة ، قلت خيراً ، وعرض الفيلم ، وانتهي في حوالي التاسعة والنصف ، عكس المقرر ، فقد زاد اللغط والترحاب ومقابلة ضيوف التمثيل الأوائل في مصر لمدة ساعة ، قلت ما علينا ، بدأت الندوة ، وبدلاً من أن يقف كل مشاهد في موقعه ، وبالترتيب لإلقاء مداخلته حول الفيلم عبر المايك الموضوع في الدور الثاني ، مكان مقاعد الدرجة الأولي " بلكون " فوجئت بمحرر صغير السن كان يتدرب معي بمجلة الكواكب منذ عشر سنوات ، يسمي " محمود سعد " :
الفيلم أثار العديد من الإشكاليات ، مثال : جدوى وردود أفعال القهر الذي يتلبس جسد وروح وعقل بل وخطى المجرم المسجون الذي خرج لتوه من محبسه ، فنسي أنه عاد كما كان حراً طليقاً ، ليمارس حياته بشكل طبيعي بعيداً عن خمسة وعشرين عاماً في الزنزانة ؟! وهذه كانت التيمة أو قصة وموضوع الفيلم ، وصدقت وقتما زاد الهرج والمرج للسباق خلف المايك من كافة النقاد ومحرري الصحف ، وتقدم عزيزي الزميل القديم المتدرب الأسبق في مجلتي " الكواكب " ليطرح سؤاله ، كان أحد الحضور قد قام ، وقد اجتاحه هالة من السخط والرفض تحولا إلي جنون وخروج عن المألوف ، فسب كافة صناع الفيلم ، واتهمهم جميعاً بتسييد " العري " بل جرح وهاجم النجمة المفضلة لقلبي وعقلي " إلهام شاهين " والتي كانت تقوم ببطولة " سوق المتعة " فجسدت دور فتاة " منحلة " وأدت إلهام الدور بأعلي حرفية واقتدار ومهارة تحسد عليها ، فسببت الكثير من الغيرة عند نجمات كثيرات ، أو قل عند نجمة كبيرة بعينها ؟! فانتفضت واقفة لتزاحم الحضور والنقاد ومحرري الصحف ، وخلفها وقف خمسة أفراد من قوى المنع والاقتراب ، يطلقون عليهم " بودي جاردات " ، وتقدم " محمود سعد " ، للتحدث وإلقاء مداخلته في دورة الطبيعي خلف المايك ، فما كان من بودي جاردات النجمة الكبيرة إلا أن دفعوه بقوة وأزاحوه بعيداً عن " المايك " مرددين في شكل عنيف وبسلوك بلطجية " إبعد ، خلي ست الكل تتكلم ".
(2)
منع " البودي جارد " زميلي محمود من الكلام ، وعند هذا الحد صرخت بأعلي صوت وقتما أضيئت الأنوار في الصالة ، واقتربت من المايك ، وقلت : عفواً يا سادة يجب علي الفنانين الكبار أن يكونوا أول الملتزمين بالنظام في إدارة الندوات وكذلك التحدث ، وتقدم الناقد طارق الشناوي رافضاً أسلوب البلطجة الصادر عن بودي جاردات النجمة التي كانت بصحبة وحيد حامد ، وزاد توتري مع توجيه اللكمات لوجه " محمود سعد " فاندفعت أصرخ من جديد ، فتوقفت الندوة ، والتف حولي كل من في صالة العرض ، ممثلات وممثلين ونقادا وفنيين وحضورا ومحاسيب " هدئي من نفسك يا أستاذة إحنا آسفين " كل هذا وما تركه الفيلم من متعة نفسية وعقلية وفكرية ما زال فائراً في نفسي .
وتحدثت " لولا " عن جمال النص السينمائي وعبقرية مؤلفه والأداء الموهوب لدور السجين المقهور الذي جسده محمود عبد العزيز ، وفجأة التفتت النجمة " لولا " يميناً ويساراً واستدارت للخلف فالأمام مرة أخري ، لتستحوذ علي كاميرات التلفزيون المشرعة بالعشرات وتصمت متناسية أو متجاهلة الدور الرائع الذي جسدته زميلتها إلهام شاهين علي مدار ساعتين ويزيد ، قلت في نفسي : عيب ولكنني أدركت أصول الأشياء ، فرددت في نفسي : هل للغيرة الفنية دور فيما حدث من تجاهل للنجمة الكبيرة إلهام من صديقتها لولا ؟ ولكن ، لماذا ؟ دقائق وعادت ليلي علوي من جديد ، لتعتذر عن نسيان حبيبتها أو حبيبة قلبها " إلهام " مرددة : نسيت أن أهنئ رفيقة عمري " إلهام " شاهين علي هذا الأداء العفوي !
ـ قلت ماذا تقصدين بعفوي ؟ ، ودور إلهام المجسد علي الشاشة بعيد كل البعد عن العفوية ، فالدور مدروس بعناية فائقة ، وأظن أن كل مشهد ظهرت فيه إلهام في " سوق المتعة " كان يصلح لطرح دراسات نظرية وتطبيقية عن ما هية ومفهوم التمثيل الأكاديمي أو التعبيري ، وحزنت كثيراً في هذه الليلة ، وقمت من مقعدي أطل لساعة يدي ، كان الوقت قد قارب العاشرة وخمسين دقيقة ، قلت لمحمود سعد بعد أن هدأت خاطره :
ـ قم يا محمود دافع عن وجهة نظرك بحرية ، ووقفت خلفه ، معي كل ناقدات وصحافيات مصر، لنستنكر هذه الأساليب الجاهلة والأسلوب التصفوي في إزاحة الصحافيين والكتاب الجادين ، وقلت مؤيدة ما قاله محمود : " سوق المتعة " ليس مسرحاً لتصفية الحسابات يا سادة ، وعلي كل هؤلاء البلطجية البودي جاردات الانصراف من قاعة العرض فوراً ، وترك المايك للنقاد والصحافيين ، بكي " محمود سعد " وربتّ علي كتفه ، بعدها جفف دمعه ، وسار خلفي يهبط درجات السلم ، وكان الليل قد انتصف ومحمود يسحب حقيبته " الهاند باج " متباطئاً واهناً ، يردد في أسى: تفتكري يا أستاذة أن الطبخة تمت علي يد لجنة المشاهدة ، وأن الجائزة ستصل " لسمير سيف " بدلاً من داود عبد السيد ، مخرج " أرض الخوف "؟!
ذهبت لمنزلي مكلومة أحلم بدوران وانفلات الأيام ، لتعلن النتائج النهائية في المسابقة الرسمية ، وصدقت توقعات محمود سعد ، وتمت الطبخة المعروفة ، ذهبت جائزة أحسن فيلم ، وأحسن إخراج وأحسن سيناريو . " لسوق المتعة " ، وذهبت جائزة واحدة لأرض الخوف، أحسن ممثل للعبقري أحمد زكي ، قلت ها هي حركات وسياسات الإرضاء ، زاد غضبي من ممارسات لجان جوائز الأفلام المصرية في مصر المحروسة ، وسألت نفسي كثيراً بعد حفل الختام ، وكيف إذن ستتقدم السينما في مصر أو في الوطن العربي ؟!
كتبت مقالي في مجلة "الكواكب" ، وأثنيت ثناء شديداً علي أداء موهبة أحمد زكي في " أرض الخوف " ، وجاء لمكتبي محمود سعد ، ليهنئني علي جرأة المقال ، ودور الناقد وضمير الكاتب بعيداً عن لجان المشاهدة والتقييم ، ومرت خمسة أسابيع ، وعرض الفيلمان في وقت واحد ، ورأيت الآلاف يتسابقون علي مشاهدة " سوق المتعة " ، ورفع شريط " أرض الخوف " من دور العرض بعد ثلاثة أسابيع ، وحزنت كثيراً وأصابني الكدر والقنوط، لأن المشاهد المصري الذي اعتاد التردد علي صالات السينما ، وفي القاهرة تحديداً لم يستوعب موضوع ورموز فيلم " أرض الخوف " ، ومرت أشهر قليلة ، وتم اختيار " أرض الخوف " لتمثيل مصر في مسابقة الأوسكار الدولية بالولايات المتحدة الأمريكية، كأميز وأبرز فيلم مصري ، وذهبت احباطاتي ، ومرت السنوات كأنها دقائق ، ورحل أحمد زكي ، فبكيته كثيراً في يوم رحيله.
وفي نفس اليوم ، وفي السابع والعشرين من مارس 2008 م ، تضطرني الظروف المنزلية للنزول لوسط العاصمة لشراء احتياجات عائلية مهمة من محل شهير يقع بجانب سينما " راديو " ، وأتذكر " أرض الخوف " و " سوق المتعة " وتخترق ذاكرتي صورة النجم الكبير قيمة وقامة محمود عبد العزيز ، الذي شاهدته يبكي منذ ساعات علي شاشات التلفزيون المصري ، ليرثي نفسه وأمته المصرية والعربية والفن المصري العربي في وفاة أحمد زكي ، الذي أكد عبقريته التمثيلية ممثلون عالميون كبار أمثال " روبرت دى نيرو " ، و " وودي آلان " قلت في نفسي ، وأنا أتحسس طريقي بجانب المبني العتيق لسينما راديو : كيف يصنع الفن والفنان في هذا السوق الزائف؟
|