القاهرة 15 نوفمبر 2022 الساعة 11:23 ص
بقلم: عاطف محمد عبد المجيد
انطلقت الفلسفة على مدار القرن العشرين عازفة عن بناء أنساق شامخة، لتغدو تياراتها واتجاهاتها مناهج أكثر من أن تكون مذاهب، أي أسلوب للبحث وطريقة للنظر، وليست مصفوفة من الحقائق، أو بناءً مهيبًا من الأفكار المطلقة. لقد غلب الاهتمام بالواقعي والعيني والمعيش والفعلي والنسبي والمتغير، والنأي عن المطلق والمجرد والذهني الخالص.
ومن ناحية أخرى تواترت متغيرات القرن العشرين عميقة وشاملة، يتصدرها فارس الحلبة المعرفية في العصر الحديث بجملته: العلم وتطبيقاته التكنولوجية والتي بلغت حد التلاعب بقدس أقداس الحياة وبيئاتها، وأفْضتْ إلى ثورة المعلومات والاتصالات والنانو، وما إليه. هذا ما تقوله المترجمة د. يمنى طريف الخولي في مقدمتها للطبعة الثانية لكتاب "أنثوية العلم..العلم من منظور الفلسفة النسوية" لمؤلفته د. ليندا جين شِفرد.
الخولي التي ترى أن هذا الكتاب هو كتاب جديد في المكتبة العربية، جديد في موضوعه وأسلوبه وأهدافه، تقول كذلك في مقدمتها هذه إن الفلسفة في القرن العشرين لم تعد تقتصر على منطق العلم ومنهجه، بل أصبحت تنشغل بقضايا مستجدة كفلسفة البيئة وأخلاقيات العلم وقيم الممارسة العلمية، وعلاقة العلم بالأبنية الحضارية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، هذا فضلًا عن علاقته بالأشكال الثقافية المختلفة، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى. بل تؤكد الخولي على أنه في هذا الإطار برز على ساحة الفلسفة الغربية تيار يمثل إضافة حقيقية، وتجسيدًا لقيم ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية، ويعكس متغيرات وطبائع الفلسفة النسوية التي ظهرت بوادرها منذ سبعينيات القرن العشرين.
• الفلسفة النسوية
لقد قامت هذه الفلسفة، مثلما ترى الخولي، من أجل رفض مطابقة الخبرة الإنسانية بالخبرة الذكورية، ورفض اعتبار الرجل الصانع الوحيد للعقل والعلم والفلسفة والتاريخ والحضارة جميعًا، كما قامت من أجل إبراز الجانب الآخر للوجود البشري الذي طال قمعه وكبته.
الفلسفة النسوية تعمل، من وجهة نظر الخولي، على خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر إلى ذكورية وأنثوية، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية سادت لتعني الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع. تذكر الخولي أيضًا أن الفلسفة النسوية تعمل على فضح ومقاومة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمَّش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطور والارتقاء المتناغم الذي يقلب ما هو مألوف ويؤدي إلى الأكثر توازنًا وعدلًا.
ولقد وجدت الفلسفة النسوية طريقها لكي تكون فلسفةً للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة، وفلسفة لتحرر الثقافات والقوميات وشعوب العالم الثالث من نيِّر الاستعمارية والمركزية الغربية.هذا وتخْلُص الخولي إلى القول بأن فلسفة العلم النسوية كانت مياهًا جديدة تدفقت في نهر فلسفة العلم ونظريته المنهجية، تبحث عن علم أكثر إنسانية وكفاءة وفاعلية، أكثر ديمقراطية ومسئولية إزاء الأطراف الأخرى.
• داخل المختبر
المترجمة تؤكد على أن السؤال المحوري الذي يجيب عنه هذا الكتاب مفاده أن العلم أكثر حيوية وفاعلية وجاذبية من أي منشط إنساني آخر، فلماذا يبدو صعبًا ثقيل الظل عسير المراس؟ ولماذا تُجرّده النظرة الشائعة من أبعاده الإنسانية؟ لماذا يشعر العلماء المتكرسون أنهم بمعزل عن نبض الحياة؟ حتى باتت الصورة النمطية للعالِم الجهبذ أنه لا يشعر ولا ينفعل ولا شأن له بتيار الحياة المضطرم خارج أبواب المختبر أو حتى في أعماق النفس البشرية المتفانية داخل المختبر؟!
بل الأخطر من هذا: كيف ينتج عن العلم دمار بيئي يهدد الحياة على سطح الأرض؟ وانطلاقًا من هذه النقطة يحاول هذا الكتاب الووصول إلى إظهار الجانب الحي المحجوب، أو المخفي المطمور من العلم عن طريق البحث عن عناصر الأنثوية في واقع الممارسة العلمية، وفي البحوث والكشوف العلمية الراهنة.
وفي الأخير لا ترى الخولي شكَّا في أن النسوية الجديدة من أنضر وأنبل تيارات الفكر الغربي المعاصر، لأنها فلسفة للمرأة وللبيئة ولتحرر القوميات، ولم تأْل جهدًا في معالجة هذه القضايا الثلاثة باعتبارها متشابكة ومتداخلة.
• السائد والمحجوب
أما مؤلفة الكتاب د. ليندا جين شفرد فهي عالمة كيمياء حيوية، تستند على متابعة جيدة لفلسفة العلم ودراسة عميقة لعلم نفس يونج، كما تستفيد من الأساطير القديمة وحضارات الشرق، في نقدها لفلسفة العلم المطروحة. وتلجأ ليندا إلى أسطورة إيزيس تجسيدًا لقيم الحب والنماء والوفاء ولملمة الأشلاء ومحاربة الشر، مشيرة إلى أن الحضارة الفرعونية حققت التوازن بين الجوانب الذكورية والقيم الأنثوية، فيما فشل العلم الحديث في فعل هذا.
وعلى امتداد صفحات كتابها تجري المؤلفة الموازنة بين القيم الذكورية السائدة في العلم والمقابل الأنثوي المطمور المخفي المحجوب، وجدوى العمل على إظهاره وكيف سيغنم العلم مغنمًا وفيرًا منه ومن التكامل بين الجانبين.
ليندا التي تعلمت وهي صغيرة ماذا يعني أن يكون المرء عالِمًا، دخلت مجال العلم في أواخر الستينيات، فور أن بدأت حركة تحرير المرأة تتشكل، وكانت النسوية تعني لها المتطرفات اللئي أحرقن مشدَّات صدورهن، بينما كان الرجال يحرقون بطاقات تجنيدهم.
ترى المؤلفة أنه في الوقت الذي يُحمّل فيه البعضُ العلمَ مسئولية الدمار الذي لحق بكوكب الأرض، يرى آخرون أن العلم أداة يمكن أن تستخدم فيما يفيد، إلى جانب هذا تؤكد ليندا على أن النسوية فلسفة نقدية للحضارة، لا توضع إلا في سياق نقد الحضارة الغربية، ومن هنا كان ارتباط النسوية الجديدة بفلسفة ما بعد الحداثة، التي هي في جوهرها موقف شكي نقدي من منطلقات الحداثة.
وهكذا كان المنطلق الأساسي للنسوية الجديدة ما بعد الحداثية هو نقد ورفض مركزية النموذج الذكوري للإنسان التنويري الحداثي العاقل، الوجه الآخر للمركزية الأوروبية ومركزية الحضارة الغربية التي سادت العالمين.
ليندا التي ترى أن استبعاد المرأة من العلم يعكس استبعادًا للأنثوية وبخسًا لقيمتها، تذكر أن المفاهيم الذكورية كالسيد العلوي الذي لا يُبارى في القدرة على الفعل والتعقل والروية، والأنثى الدنيا الأرضية التي تمثل السلبية والمادة والفناء، ليست مفاهيم عمومية شاملة، إذ نقضت الكوزمولوجيا المصرية، على سبيل المثال، كثيرًا من الخصائص المميزة التي تُقرن الآن بالذكورية والأنثوية.
• الحامل العظمى
في كتابها هذا تذكر ليندا أن كوكبة من النسويات كن قد انشغلن بالسؤال عن سبب قلة النساء في العلم، أما هي فتندهش من كثرة عددهن، بالنظر إلى القيود التي كانت مفروضة على التعليم، وقواعد المجتمع وضغوطه، وكذلك السقف الزجاجي الذي يعوق المسار المهني، أجرهن الضعيف، افتقادهن لتقدير الجمعيات العلمية المهنية. كذلك تثبت أن هناك نساء كثيرات عبر القرون آثرن امتهان العلم، فصارعن أشكال الظلم في صمت، خضْن حياتهن كراهبات متدثرات بمعاطف المختبر البيضاء، وتجنبن الظهور كي لا يصرفهن شيء عن العمل العلمي الجاد.
نساء كثيرات أنكرن الثمن الباهظ الذي دفعنه مقابل النجاح في العلم، خوفًا من أن ينصرف الجميع عن صحبتهن، فيما تعترف أخريات بتضحياتهن بالحياة الاجتماعية وبالعلاقات الشخصية.
وفي حديثها عن التلقي الذي تعتبره أحد خصائص الطراز البدائي للأنثوية، تقول ليندا إن التلقي الأنثوي يهب العلم انفتاحًا على الإنصات للطبيعة والاستجابة فيما يشبه الحوار أو التشارك مع الطبيعة، وهذه مقاربة مختلفة تمامًا عن اتجاه الكيميائي روبرت بويل في القرن السابع عشر إلى الطبيعة التي أطلق عليها "الحامل العظمى من الرب لحركتها الذاتية".
|