القاهرة 18 اكتوبر 2022 الساعة 08:17 ص
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
حين يشرع الروائي المبتدئ في كتابة رواية ربما يكون اهتمامه مُنصبًّا، أساسًا، على الحكاية/الحدوتة مأخوذًا بتداعي السرد وألاعيب الحكي، بينما حين يكتب الروائي المتمرس رواية فإن أول ما يهتم به هو تسريب فلسفته وثقافته وخبرته الحياتية، وبث رسالته التي يريد أن يقوم بتوصيلها إلى قارئه، دون أن يُهمل وضْع متعة ما في ثنايا روايته، حتى لا يملّها متلقيها، وكي لا تصبح رواية جافة تحمل فلسفة غير قابلة للتلقي..
في روايته "غربة المنازل" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، وبطلها الأول فيروس كورونا / كوفيد 19، يطرح الروائي المصري عزت القمحاوي سؤاله الأهم: من كان يتوقع أن يركع العالم لفيروس تافه في عصر انتصار العلم؟
هنا تصور الرواية حالة اجتياح الفيروس المخيف للعالم، وفرْضه العزلة الإجبارية على الجميع، دولًا وأفرادًا. لقد فرض الوباء على الناس أن يعيشوا حالة من الغربة، مُحددًا إقامتهم في منازلهم التي تعيش بدورها غربة أخرى، وترى الرواية أنه لا وباء دون شَدّة الجندي وحاوية التاجر، معيدة إلى الأذهان، على هامش هذا الفيروس المستجد، الأوبئة الأخرى التي أصابت العالم من قبل وكان انتشارها على وقع الحروب التي يدخلها الجندي مضطرًا والتاجر مختارًا، من الطاعون إلى الكوليرا إلى الحمى الصفراء وغيرها. كما تصف حالة الفزع والرعب التي أصابت العالم كله حال ظهور فيروس كورونا، مؤكدة أن الخوف هو قدَر الإنسان، ولا أحد يمكنه أن يتعالى عليه أو ينجو منه.
• التباعد الاجتماعي
الرواية التي يجعل كاتبها عناوين فصولها تواريخ لأيام من العامين 2020 و2021 وهي تواريخ تتعلق بأحداث حقيقية في مسيرة انتشار الفيروس، تقول إنه لا شيء سهل في الحياة، والأشياء التي تبدو لنا بسيطة هي فقط تلك التي لا تعنينا، ولهذا فكل شخصية لديها ألمها الخاص الذي يستغرقها، حتى ليبدو ضيق حذاء أو ألم ضرس أهم من حرب بالنسبة للشخص الذي ينتعل حذاءً ضيقًا أو يعاني من ألم الضرس. كذلك ترى أن ما يهتم به البعض ويتعلقون به حد الشغف، قد لا يثير أي اهتمام لدى البعض الآخر.
غربة المنازل التي تقول إن أحدًا لم يكن يعرف أن فيروسًا غامضًا سيجعل رائحة الموت تلتهم كل أثر للعطور، ترى أن الصين قبل أن تصبح مصدرًا للأوبئة كانت دائمًا موطنًا للعجائب: أشجار تلد بشرًا، ظباء ترضع أطفالًا، قرود تتكلم، فلماذا لا يكون هذا الكوفيد إحدى مزحات الخيال؟
تعزز من ذلك الشك الذي أصاب بعض الناس في الواقع، المقارنة التي تعقدها الرواية بين ما كان يحدث وقت الأوبئة قديمًا وحديثًا وردود أفعال السلطات المتكتمة والمنكرة لوجود الوباء وما حدث مع كوفيد 19 الذي اتخذ اسمه دون أن يراه أحد وقبل أن تظهر خطورته.
إلى جوار هذا الشك فإننا نحاول أحيانًا إنكار بعض الأشياء لنجعل عجلة الحياة تستمر دون أن ينمو خوفنا، لكن الحقيقة تصدمنا ولا تترك لنا مجالًا لهذا.
يحاول الطفل الذي بداخل المؤرخ بديع العطَّار ـأحد شخصيات الروايةـ إنكار الخوف، فيصدمه المؤرخ الراشد بالحقائق التي لم يعد من سبيل لإنكارها.
• مدينة الغبار
تجري الأحداث في مدينة غير محددة تمنحها الرواية اسم "مدينة الغبار" ربما لجأ الكاتب إلى هذا الرمز للإشارة إلى الضبابية التي تسود العالم وافتقاده إلى الشفافية في كل شيء، تقول إن الصين هي مصنع العالم في السلم والحرب، وإن العالم رغم أنه لا يزال متمسكًا بوحشيته إلا أنه قد تخلى عن فقر الماضي وقذاراته اللذين حملا كل أوبئة الماضي، لكن كوفيد 19 لم يكن بحاجة إلى مستنقعات لينتقل عبر العالم.
غربة المنازل التي تثير لدينا الشك أحيانًا في كوننا أشخاصًا حقيقيين في عالم حقيقي تود أن تقول أيضًا إن من يرضى لنفسه أن يتحول إلى خيال مآتة، عليه أن يقبل أن يكون بلا قيمة تُذكر، مثلما تقارن بين الريف والمدينة، بين العشوائيات والمناطق الراقية، بين قاع الهرم المجتمعي وبين قمته، وفيها نعرف أن الردع بوجود سلاح أفضل من استخدامه، وأن من يعتاد على القيد يشعر بالقلق من الحرية حين يغيب، وأن أي أمر يُسند إلى غير أهله فإنه يبوء بالفشل، كما أن كثيرين يسكنهم الجبن يقومون بطعن الآخرين من الخلف وهم في حالة اختباء، مثلهم مثل فيروس كورونا المختفي الذي لا يعلن عن نفسه.
• هوة المعرفة
الرواية التي لا تغفل دور منصات التواصل الاجتماعي وأثرها في المجتمع، تسلط بقعة الضوء على تفاوت الطبقات وأثر الفقر على كثيرين، ولا تعتبر الحديث مع الذات مرضًا نفسيًّا، بل مجرد تحوّر بيولوجي تفرضه الوحدة، ترى أن المؤرخين لا يدونون الحقيقة، بل يرسمون ظلالًا قد تشبه وجهها. كما تقول إن الحياة صراع بين قوى التلاحم وقوى التفسخ، وتلفت انتباهنا إلى أن هناك أشياء عديدة مثلها مثل العُملة قد تصلح في مكان ولا يكون لها أي قيمة في أماكن أخرى، ويريد كاتبها أن يبعث برسالتين إلى كل من تقع روايته تحت عينيه، أولهما تدعو إلى أن يُكمل طريقه الذي يسير فيه مهما تعرض لمضايقات ومثبطات هِمم، والثانية تقول إننا في أحايين كثيرة لا نعرف قيمة ما لدينا من أشخاص أو أشياء.
هنا نقرأ أيضًا أن أثقل شيء على الملك رعيته، لكنه لا يكون ملكًا بدونها، ولذلك تتقبل السلطة الرعية وتعرف كيف تصنع توازنها بحيث لا يتفشى الإحباط، حيث إن نظرة السخرية أو اليأس الواحدة تنتج نصف مليون جسيم من فيروسات الكآبة والعدمية، وأن المشاعر الخطيرة المخبأة في النفوس تكبر وتتوالد بأسرع من تكاثر كوفيد 19.
في غربة المنازل حيث راحت الأجساد تعبر عن مشاعرها، من حزن وكآبة وفرح وانتشاء، من خلال الأرداف بعد أن تكممت الوجوه ولم تستطع أن تعبر عن مشاعرها من خلالها، تنتقد الرواية توريث الوظائف والتحايل على اللوائح والقوانين، وانحطاط الوعي الذكوري في تعامله مع المرأة، كما يفتح الكاتب عزت القمحاوي في الوقت نفسه بابًا عبر العلم مستشرفًا ما قد يحدث مستقبلًا، وما قد يحدث حين الوقوف على هوّة المعرفة المخيفة: هل يمكن للعلم أن يتوصل إلى طريقة لاستخلاص أفكار لم تخرج للنور من مخ بعد موته؟ وكيف نستطيع إنقاذ ذاكرة كمبيوتر بعد أن يصمت، ولا نستطيع ذلك مع المخ البشري؟
|