القاهرة 11 اكتوبر 2022 الساعة 12:38 م
بقلم: أشرف قاسم
تعتبر مرحلة الشباب في حياة المرء هي مرحلة التحديات، والصراع مع الحياة من أجل إثبات الذات، وتكوين الشخصية المنفردة، بعيدًا عن سلطة الأب، وسطوة العائلة، ولذا تظل تفاصيل أحداث تلك المرحلة محفورة في الذاكرة لا تنسى حتى أرذل العمر، فهي مرحلة تحقيق الطموحات الكبرى، حيث يكون المرء في أوج قدرته على العطاء والمواجهة.
ولذا نجد البكاء والتحسر على الشباب حين يبلغ المرء مرحلة المشيب، حيث يبيض الشعر، وينحني الظهر، ويخلو الفم من الأسنان، وتتكاثر على المرء الأمراض والسقام، ويرحل رفاق الصبا والشباب واحدًا تلو الآخر، ويفقد القدرة على المشي كما كان في السابق، ولذا يقول الإمام علي بن أبي طالب:
شيئان لو بكت الدماءَ عليهما
عينايَ حتى تأذنا بذهابِ
لن تبلغَ المعشارَ مِن حَقَّيْهِما
فَقْدُ الشبابِ وفُرقةُ الأحبابِ
وفي المشيب يكون الضعف والوهن وفقد القدرة على الحركة، وها هو ابن نباتة المصري يقول:
تَبَسُّمُ الشيبِ بِوجهِ الفتى
يوجبُ سَحَّ الدمعِ من جَفنِهِ
وكيف لا يبكي على نفسِهِ
مَن ضحكَ الشيبُ على ذَقْنِهِ
وقد ذَمَّ العربُ قديمًا مَن كان يُحاولُ إخفاءَ بياضِ شَعْرِهِ الأشيبِ بِالخِضابِ والحِنَّاءِ، لأنهم كانوا يرون أن لكل مرحلة في حياة المرء جمالها، فليس من المروءة أن نخفي جمال الشيب، الذي يحمل في معانيه الوقار والحكمة، قال ابن الرومي:
يا أيها الرجلُ المُسَوِّدُ شَيْبَهُ
كيْما يُعَدَّ به مِن الشُّبَّانِ
أقصِرْ فلو سَوَّدْتَ كلَّ حَمامةٍ
بيضاءَ ما عُدَّتْ مِن الغِربانِ
والأنباري يرى أننا نستطيع أن نخضب الشعر الأبيض الذي شاب باللون الأسود ولكن كيف سنعيد سنين الشباب التي وَلَّتْ؟، فيقول:
رأيتُ الشيبَ تكرهه الغواني
ويُحْبِبْنَ الشبابَ لما هَوينا
فهذا الشيبُ تخضبه سوادًا
فكيف لنا فنسترقُ السنينا
وكانت المُعايرة بالشيب إحدى ظواهر مجتمعاتنا العربية منذ قديم العُصُر، وقد رصد بعضُ الشعراء تلك الظاهرة رصدًا دقيقًا، فكانت المرأة تُعَيِّرُ الرجلَ بِشيبِ رأسِه، علامةً على كِبَرِه، وأنه لم تعد تُرجى منه غاية، يقول أبو العلاء المعري:
إذا ما عانقَ الخمسين حَيٌّ
ثَنَتْهُ السِّنُّ عن عُنقٍ وجَمْزِ
وتهزأ منه رَبَّاتُ المَغاني
كما هَزِئَت بِرؤيةِ أمِّ حَمْزِ
فلا أعرفك بين القوم توحي
بطعن في مُحَدِّثِهم وغَمْزِ
ويقول الشريف الرضي:
أرابَكِ مِن مَشيبيَ ما أرابا
وما هذا البياضُ عَلَيَّ غابا
لئن أبغضتِ مِنِّي شَيْبَ رأسي
فإني مُبْغضٌ مِنكِ الشبابا
يَذُمُّ البِيضُ مِن جَزَعٍ مَشيبي
وَدَلُّ البِيضِ أولُ ما أشابا
وكما كانت المرأة تًعَيِّرُ الرجلَ بِشيبه كان هناك أيضًا مِن الرجال من يعيرون المرأة بشيبها الذي يرونه أشدَّ قسوة ووطأة من شيب الرجل، ومن ذلك ما قاله دعبل الخزاعي:
إنَّ المشيبَ رداءُ الحِلْمِ والأدَبِ
كما الشبابُ رداءُ اللهوِ واللَّعِبِ
تعجبتْ أنْ رأتْ شيبي فقلتُ لها
لا تعجبي مَنْ يَطُلْ عُمْرٌ به يَشِبِ
شيبُ الرجالِ لهم زَيْنٌ ومَكْرُمَةٌ
وشَيْبُكُنَّ لَكُنَّ العارُ فاكتئبي
فينا لَكُنَّ وإنْ شيبٌ بَدا أرَبٌ
وليس فيكن بعد الشيب مِن أَرَبِ
على الجانب الآخر كان هناك من يعتبرون المشيب مرحلة الحكمة، وصواب الرأي، وجمال المرء الرزين ومن ذلك ما قاله علي ابن الجهم:
وَجَرَّ خُطامًا أحكم الشيبُ عِقده
وقَدَّمَ رِجْلًا لم تجد مُتقَدَّما
فلم أرَ مثلَ الشيبِ لاحَ كأنه
ثنايا حبيبٍ زارنا مُتَبَسِّما
فلما تراءَتْه العيونُ تَوَسَّمَتْ
بديهةَ أمرٍ تُذعِرُ المُتَوَسِّما
فلا وأبيكِ الخير ما انفكَّ ساطعٌ
من الشيبِ يجلو مِن دُجى الليل مُظلِما
إذا لم يَشِبْ رأسٌ على الجهلِ لم يكنْ
على المرء عارٌ أن يشيبَ ويهرَما
خليليَّ كُرَّا ذِكْرَ ما قد تقدما
وإنْ هاجت الذكرى فؤادًا مُتَيَّما
ومَن ضَعُفَتْ أعضاؤه اشتدَّ رأيُه
ومَنْ قَوَّمَتْهُ الحادثاتُ تَقَوَّما
وكما ذم البعضُ المشيبَ فقد امتدحه فريقٌ آخر رأى فيه جمالَ المرحلةِ وعنوانَ الحكمةِ والوقارِ، يقول علي بن الجهم:
لا يَرُعْكِ المشيبُ يا ابنةَ عبدِ اللهِ فالشيبُ هيبةٌ ووَقارُ
إنما تَحْسُنُ الرياضُ إذا ما
ضَحِكَتْ في خِلالِها النُّوَّارُ
ويقول دعبل الخزاعي:
أهلًا وسهلًا بالمشيبِ فإنه
سِمَةُ العفيفِ وحِلْيةُ المُتَحَرِّجِ
وكأنَّ شيبي نَظْمُ دُرٍّ زاهرٍ
في تاجِ ذي مُلكٍ أغرِّ مُتَوَّجِ
|