القاهرة 01 اكتوبر 2022 الساعة 11:25 ص
بقلم: د. حسين عبد البصير
تواصل الحضارة المصرية القديمة إبهار العالم، ولا سيما من خلال علم التحنيط الذي تُعَد أسراره من عبقريات المصري القديم، فبالإضافة إلى الألغاز المتعلقة بتقنيات المواد المستخدمة والوصفات الكيميائية المتبعة، أُضيف لغز جديد، حول التأريخ الحقيقي والدقيق لبدء قيام المصريين القدماء بعمليات تحنيط جثث موتاهم.
قبل أن يتطور علم التحنيط، وقديمًا، أي عصر ما قبل الأسرات، كان المصري القديم يعتمد على التحنيط بالطرق الطبيعية، فكان يقوم بدفن الجثث في حفر غير عميقة في الرمال، فالحرارة الشديدة كانت كفيلة بحفظ الجثث من التلف وامتصاص السوائل، ومع بداية عصر الأسرات زاد الإيمان بفكرة حياة ما بعد الموت، وأهمية الجسد لتتعرف عليه الروح، فصار المعتقد السائد أن الأمر لا يتوقف عند تحنيط الجسد والحفاظ عليه من التحلل، وإنما يجب أن يصل للحفاظ على شكل وملامح المتوفى، بحيث تتمكن الروح من معرفة الجسد الذي يخصها، فتبحر العلماء في ذلك العلم حتى وصلوا إلى أقصى درجاته، ولعل ذلك يظهر جليًا في صمود مومياوات يعود تاريخها إلى أربعة آلاف عام قبل الميلاد دون أن يصيبها تحلل.
إلا أنه في دراسة أجراها علماء من مختلف التخصصات بجامعة ماكويرى بأستراليا، حللوا خلالها مومياء مصرية ترجع إلى عصر ما قبل الأسرات (من حوالي 3700 إلى 3500 قبل الميلاد)، وكانت محفوظة بمتحف تورينو بإيطاليا منذ عام 1901، وقدمت نتائج تلك الدراسة دليلًا قويًّا على أن التحنيط كان موجودًا قبل 1500 عام، أي قبل ما هو متعارف عليه تاريخيًّا..
وتقول "جانا جونز" أستاذ الآثار بجامعة ماكويرى بأستراليا، والباحث الرئيس بالدراسة: "إنه كان يُعتقد في السابق أن هذه المومياء كانت محنطة طبيعيًّا بسبب عوامل الجفاف وحرارة الجو في مقابر الجبلين بمصر الوسطى، والتي يرجح أن يكون قد عُثر على المومياء فيها، ولكن تخبرنا المعلومات الجديدة أن المصريين القدماء الذين عاشوا في حقبة ما قبل الأسرات لديهم بالفعل معرفة بعمليات التحنيط اللازمة للحفاظ على الجسد، وأنهم مارسوا نظامًا لمعتقد ديني متطور حول الآخرة".
أطلق على ذلك العلم الكثير من الأسماء، منها كلمة "وتي"، وهي كلمة مصرية قديمة تعني "التكفين"، كما أطلق عليه كلمة "مومياء"، وهي لفظة فارسية تعني اللون الأسود، فعادة ما يتغير لون الجثة بعد عملية الحفظ إلى ذلك اللون. وتعد كلمة "تحنيط" هي الاسم الأشهر لذلك العلم. وهي كلمة عربية اشتقت من كلمة "حنوط"، التي تطلق على مواد يستخدمها المحنط في حفظ الجثمان.
وقد ظل ذلك العلم سرًا من أسرار المصريين القدماء، حتى أننا لم نكن نعلم عنه سوى ما ذكره المؤرخ اليوناني هيرودوت في كتاباته حين دون بعض طرق التحنيط أثناء زيارته لمصر في القرن الخامس قبل الميلاد، غير أنه مع الاكتشافات الحديثة زادت معلوماتنا عن ذلك العلم، خصوصًا عندما اكتشفت البعثة الأمريكية التابعة لجامعة ممفيس الأمريكية المقبرة رقم 63 بوادي الملوك، والتي احتوت على 8 توابيت بداخلها بقايا أدوات ومواد خاصة بالتحنيط، والتي استخدمت في حفظ مومياء الملك الذهبي توت عنخ آمون، مما فتح بابًا كبيرًا لكشف أسراره الخفية.
استخدم المحنط المصري القديم عدة أساليب مختلفة في عمليات التحنيط، فكانت هناك طريقة يستخدمها مع الملوك وكبار رجال الدولة، ولكنها باهظة التكاليف، وفيها تبدأ عملية التحنيط داخل خيمة الإله أو المكان المطهر حيث كانت توضع الجثة على منضدة التحنيط الحجرية، ويبدأ المحنط بكسر عظمة الأنف باستخدام أزميل ومطرقة، ثم يتناول خطاف معقوف ويقوم بإخراج محتويات المخ من الفتحة التي صنعها، ويملأ الجمجمة بطبقة سميكة من البيتومين والكتان المشبع بالصمغ أو بالراتنج المستخلص من النباتات، حتى يحفظها من الكائنات الدقيقة التي تتوالد داخل الجثث.
أكدت الدراسات التي أُجريت على مومياوات بعض الملوك منهم تحتمس الأول والثاني والثالث، على أن رأسها تحتوي على المخ، أن المصري القديم لم يتبع تقنية نمطية في تحنيط الأجساد، ومع الدراسات المتوالية لمومياوات المصريين القدماء على مدار الأسر المصرية المتتابعة، ثبت أن المحنط لم يلتزم بطريقة واحدة في التحنيط، حتى إنه من الصعب أن نجد مومياوين متشابهتين سواء في طريقة التحنيط أو في المواد المستخدمة.
في الخطوة الثانية، كان المحنط يقوم بها ليتخلص من كل المواد الرخوة التي تسبب التعفن البكتيري، فيشق الجانب الأيسر من أسفل البطن، ومنها ينزع كل الأعضاء الداخلية، ويغسلها جيدًا ثم يغمرها بملح النطرون، ويقوم بمعالجتها بمادة الراتنج الساخنة، ثم توضع في أربعة أوانٍ كانوبية على شكل أولاد الإله حورس، فالكبد يوضع في وعاء "إمستي" على شكل إنسان، والرئتين توضع في إناء "حابي" على شكل قرد، والمعدة في وعاء "دوا موت إف" على هيئة رأس "ابن آوى"، بينما كانت توضع الأمعاء في وعاء "قبح سنو إف" ذي رأس الصقر.
ولا يترك المحنط في الجسد سوى القلب والكليتين، ثم يقوم بغسله من الداخل والخارج بمحلول مكون من أكثر من 15 مادة، منها نبيذ البلح، ونبات المر، والحناء، وزيت خشب الأرز، والبصل، ثم يملأ تجاويف الصدر بلفائف من الكتان المشبع بالراتنج والعطور ومحلول النطرون، وهي مواد تمنع التحلل البكتيري، بعد ذلك تدفن الجثة داخل ملح النطرون لمدة تصل إلى 40 يومًا، حتى تجف الأنسجة تمامًا من كل السوائل والدهون.
ثم يُنقل الجثمان مرة أخرى إلى ورشة التطهير، ليتمكن الكهنة من تطهيره بمياه النيل، وتعد تلك الخطوة أهم ما في مراحل التحنيط، لتحديد الوقت اللازم لتحضير الجسد، إلى جانب إيمان المصريين القدماء بقوة النيل في بعث الإنسان مرة أخرى، وتكتمل عملية التطهير بإضافة زيت الأرز والزيوت النفيسة والعطور، وتدليك المومياء بالبخور والقرفة.
وفي النهاية، كان يُصب على المومياء الراتنج السائل، ومهمته إغلاق المسامات، باعتباره عازلاً للرطوبة والحشرات الدقيقة، بعدها يقوم المحنط بإغلاق العينين والأذنين والأنف بالشمع، ثم يلف المومياء بالكامل بعشرات الأمتار من الكتان المشبع بالصمغ، والذي يحمل في طياته التمائم ولفافة البردي الجنائزية، ويزينها بالحلي ويلقي عليها الزهور، ليتبقى أمامه الطقس الأخير لاكتمال المراسم الجنائزية، فيقوم بترتيل الصلوات.
وفي تلك الأثناء يقوم بطقس فتح فم المومياء، لتتمكن حواسها للعودة مرة أخرى في العالم السفلي، وأخيرًا يضعها في التابوت الذي يحمل قناعًا يشبه ملامح المتوفى، ومزخرف بعبارات من كتاب "الخروج في النهار" المعروف بكتاب الموتى، ثم يدفن داخل مقبرته التي تحتوي على كل الأغراض التي يحتاجها في رحلته إلى العالم الآخر.
أما العامة ومتوسطي الحال، فكانت توجد خطوات أكثر بساطة وأقل بذخًا في تحنيط موتاهم، وقد واستمرت تلك الطقوس حتى ظهور المسيحية، ولكنها تراجعت بشكل ملحوظ في العصر الروماني والهيلنستي، حتى أن جودة الحفظ كانت أقل من العصور السابقة، وإن كان أضيف إليه القليل، حيث أضيفت على المومياء لفة من الكتان يكللها قطعة ذهبية في المنتصف، بالإضافة إلى حفظ الأطراف أو الجسد بالكامل بطبقة من الذهب، وفي العصر البيزنطي توقف استخدام التحنيط وتطويره.
|