القاهرة 30 سبتمبر 2022 الساعة 11:29 ص
• التجريب لا يتأسس من فراغ ولا يمكن أن تجرب إلا إذا تمكنت من الأسس المسرحية الأرسطية
حاورته: نهاد اسماعيل المدني
يعتبر المسرح التجريبي مسرحا متفردا يقدم دوما أنماطا غيرتقليدية تختلف كثيرا عن المتعارف عليه في العروض المسرحية التقليدية، فمحتواه يحمل فكرا جريئا ومتنوعا ويقوم على فكرة التجريب في المسرح ولا يقتصر على تناول فكر معين فقط بل يلقي اسقاطات على بعض القضايا السياسية والفكرية وأحيانا يشتبك مع القضايا الدينية..
وقد كثر الحديث عن المسرح التجريبي لكن المصطلح ظل ملتبسا عند الكثيرين وظل يثير العديد من الأسئلة حول نشأة هذا المسرح وخصوصياته وعلاقته بما سبقه من المدارس المسرحية التي عرفها القرن العشرين، ولكن المسرح التجريبي اليوم هو الأكثر تداولا لأنه الأكثر تعبيرا عن حالة الانهيار الاجتماعي والإحباط النفسي بالمجتمعات، لأنه الأكثر قدرة علي استيعاب وتوظيف وإبراز القدرات الفنية لكل من الممثل والمخرج والتقني، وهو الذي حول المسرح العربي من حالة اجتماعية إلى حالة ثقافية..
ونحن اليوم نجري هذا الحوار مع أحد أبرز رموز المسرح التونسي والعربي المخرج التجريبي حتي النخاع أنور الشعافي، ليحدثنا عن تجربته مع التجريب وشغفه بالمسرح التجريبي..
• حدثنا عن تجربتك مع المسرح التجريبي؟
تخرجت عام 1988م ثم اخترت التكوين الميدانى، وكان اهتمامي الأكبر بالمسارح الأوروبية وحرصت على الذهاب إليها وخاصة فرنسا من خلال البعثة، حيث قمت بجولات فى المدن الفرنسا فى باريس وأفينيون ومرسيليا، ثم درست الإخراج فى أكبر مسرح بأوروبا وهو مسرح "شتوتجارت" بألمانيا، وتأثرت بالمسرح الألمانى الذى يعتبره الكثير مصدر الثورات المسرحية الجمالية وتأثرت برواده، فأنا مخرج تجريبي حتى النخاع وكل أعمالي تجريبية، وسأذكر بشكل مختصر مظاهر التجريب فى أعمالي المسرحية، فمسرحية "ترى ما رأيت"، التى عرضت فى ختام مهرجان قرطاج عام 2013 قدمت خلالها تكينك "الممثل عن بعد"، فكان هناك ممثلين من تونس وفى نفس اللحظة ممثلة فى مدينة "مونبييله" فى فرنسا، فعملت على طريقة إيهامية فالمسرح يتجاوز المكان لأنه فن طازج محكوم برقعة "الركح" وجعلته يتجاوز المكان.
ومسرحية "أو لا تكون" حصلت بها على عدة جوائز فى مهرجان الأسكندرية عام 2016، وكانت عن أربع مسرحيات لشكسبير، وقدمت خلالها تكينك "القماش الهوائى" وتقنية "السيرك الفني"، والذى تدور به الحوارات فى الهواء، وتدرب عليها الممثلين على ألعاب السيرك المختلفة، والحوار الذى له علاقة بالصراع والبنية الفوقية كانت تدور فى الهواء، وجعلت الربط بين الشخصيات الشكسبيرية شخصية "ياجو " بمسرحية عطيل وكان أدائه من تحت الأرض.
وفى آخر مسرحية قدمتها بعنوان "كابوس أينشتاين" للكاتب التونسى كمال العيادي، وهو مقيم حاليا بألمانيا، وأيضا عاش لفترة طويلة فى القاهرة، وفى هذا النص قام الكاتب كمال العيادي بتحقيق حلم أينشتاين بصنع آلة الزمن، ولكن حدث خطأ بآلة الزمن وضعه فى عصر الجاهلية فحدثت له مفارقات عجيبة، وقد دفعني هذا العرض للبحث النظرى، وتعلم نظرية النسبية العامة لأينشتاين قبل بدء التجربة، وتعامل الممثلون ببعض تقنيات "الرياضات القصوي" التى لها علاقة بنظرية أينشتاين، فالأدوات الإخراجية خارجة من صميم نظرية "النسبية العامة".
• تختلف مفاهيم وتعريفات "التجريب" فحدثنا عن مفهوم التجريب من وجهة نظرك؟
هناك نقطة هامة وبارزة لابد أن نسلط الضوء عليها فى المسرح الألمانى، فهناك اختصاص مسرحي ليس موجوداً فى العالم وهو "الدراماتورج"، وهو المرافق النقدي للمخرج وليس مساعد المخرج، وهو الذى يحرص على المصطلحات الفنية والأدوات الإخراجية للمخرج؛ لذلك هم يحصرون على المصطلحات ويفرقون بين التجريب والتجريبي، التجريب لا يأتى ولا يتأسس من فراغ فلا يمكن أن تجرب إلا إذا تمكنت من الأسس المسرحية الأرسطية، فكما نعلم عن تقنيات وشروط المسرح: الفعل، الأشخاص، صراع الزمان والمكان، والانزياح الكامل عن أدوات المسرح يعتبر تجريب، هانزلمان صاحب كتاب "مسرح ما بعد الدراما" الذي ثار تماماً على الأفعال ففى مسرحه لا وجود لشخصيات مكتملة فقد ضرب فى العمق المسرح الأرسطي، وهذا يعد قمة التجريب أن تستوعب المسرح فى أساسه، ولكن تنزاح وتهرب بعيداً عن الأسس المتعارف عليها.
• وماذا عن المسرح فى تونس؟
فى فترة من الفترات كان المسرح فى تونس رائداً، ولكن ربما الآن نشهد نوع من التراجع وهناك شىء لا يعرفه سوى المختصين، فعموم الجمهور العربي والتونسي لايعرفون من المسرح المصري إلا المسرحيات الكوميدية المعروفه على سبيل المثال مسرحية "الواد سيد الشغال" وهى مسرحية جميلة ومتميزة وبدون مبالغة يكاد يكون الجمهور التونسي والعربي يحفظون عن ظهر قلب حوارات هذه المسرحية، ويكادوا يحصرون المسرح المصرى فى المسرح الكوميدى، ولكن أقول مرة أخرى المسرح المصرى له ريادة في التجريب قد لا يعرفون مسرح الورشة المصرية، فقد شاهدت فى مهرجان أفينيون عرض المخرج فضل الجعيبي "يحيا يعيش" عام 2011، ثم فرقة الورشة المصرية التي عرضت عام 2017 مسرحية "طائر الفيوم" وهو عرض متميز للمخرج حسن الجريتلي بمواصفات عالمية، ودعينا نقول أن أغلب ما يقدم فى المسرح العربي ليس بمواصفات عالمية ولكن هذه المسرحية وغيرها بمواصفات عالمية.
• ما هي أبرز التحولات المستحدثة التى طرأت على التجريب؟
سبق وأن تحدثت عن مسرح ما بعد بعد الدراما، وهناك رجوع لدراما أرسطو ولكن بطريقة أخرى، وسأضرب مثالاً بأحد تجاربي الذى اعتمدت خلاله على طريقة "الفن الغير المكتمل" وطورت من هذه الطريقة ففى مسرحية "كابوس أينشتاين"، واللوحة الأولى بالتحديد فى هذه المسرحية تبدأ الموسيقى بها عند قرب نهاية المشهد وليس من بداية المشهد، وعادة الموسيقى تتزامن مع الكريوجراف، ونشاهد استكمال الموسيقى فى اللوحة السابعة أو الثامنة من المسرحية فيقوم المتفرج بترتيبها فى عقله، وقد ألفت ولحنت موسيقى العرض الفنانة الألمانية "نينا"، وهناك لوحة أخرى تبدأ الموسيقى بها منذ بداية المشهد ولكنها تتوقف وتتواصل فى ذهن المتفرج وأصبح يدندن بها، فالمفترج أصبح فاعلاً فى العملية المسرحية، وهذا مسرح ما بعد بعد الدراما واعتبر أن مسرح ما بعد بعد الدراما هو أساس التجريب الآن.
• هناك بعض النقاد التونسيين يرون أن هناك تراجعا للحضور التونسى فى المسرح فما رأيك؟
دائما أقول أنني أكتب بحروف غليظة وأتكلم بصوت عالي، ذلك هو الفنان، وأنا لا أجامل، بالفعل يوجد تراجع للمسرح التونسي ولكني متفائل بشباب جديد سيصنع ربيع المسرح القادم، وأود أن أتحدث عن الاستراتيجة التى تطبقها دولة الإمارات ليس فقط بعمل الهئية العربية ولكن فى المعهد العالى للفنون المسرحية، حيث تم انتداب فى العام الماضي أكثر من خمسين أساتذ تونسي يدرسون لشباب المرحلة الثانوية، فأنا متفائل بهذه الاستراتجية، واعتبر نفسى متابعاً جيداً للمسرح وأقول أني متفائل بشباب المنطقة العربية فى مصر والمغرب والإمارات لأنهم سيصنعون ربيعاً مسرحيا عربياً بمواصفات عالمية.
• حدثنا عن شعورك وانطباعاتك حيال تكريمك فى الدورة التاسعة والعشرون من مهرجان القاهرة التجريبي؟
التكريم تشريف كبير لي فحياتى المهنية بدأت فى المسرح تجريبياً تأسيساً وإبداعاً، وتربطني فى الواقع مجموعة من الصدف الجميلة، فرسالة تخرجي من المعهد العالى للفنون المسرحية بتونس كانت حول التجريب، وهو يواكب نفس الشهر والعام لإنطلاق أول دورة لمهرجان القاهرة التجريبي في سبتمبر عام 1988، وشىء آخر وهو أيضا صدفة أن دورة هذا العام تحمل اسم المسرحي الكبير "بيتر بروك" الذي بدأ بالتجريب وعمره خمس سنوات وأخرج "هاملت" بمسرح العرائس، وأنا أيضا بدأت فى عمر الثامنة كمخرج فى نادى الأطفال بقصص "كليلة ودمنة"، والصدف تتوالي وهى مفارقة جميلة أننى أقيم فى الطابق 29 وهذه الدورة هي ال 29، وهى مجموعة صدف جميلة، ومازلت أتعلم من هذا المهرجان الذي ولد كبيراً ويعرف المختصين أن هناك مهرجان تجريبي فى القاهرة ومهرجان تجريبي فى "هانوي" بفيتنام وعمره سبع أو ثماني سنوات فقط، وهناك مهرجان فى فنزويلا ولكنه توقف، إذن تجريبي القاهرة هو الأعرق والأفضل والأقدم وهو المرجع عالمياً.
• بنظرة سريعة لفعاليات الدورة ال29 ما المميز فى فعاليات هذه الدورة؟
دائما أدافع عن الجانب النظري ولدينا فى تونس مخرجين جيدين، ولكن لا يوجد مستند نظري صحيح فلا يعطون أهمية كبرى للتنظير الذى يعد مهماً للغاية، فمن الممكن أن تخرج شيئاً جميلاً ولكن بدون أرضية فكرية عميقة، والمميز في دورة هذا العام من المهرجان هو الإصدارات التى قدمت بطرق مختلفة سواء بطريقة رقمية أو ورقية، وكلها حول التجريب وتعد إضافه كبيرة جداً، فمصر هى بلد عريق وأنا دائما ماةأقول أن لا تمتلك عمقا تاريخيا فقط بل هى التاريخ، والتاريخ لون الشخصية المصرية، لذلك هى شخصية بتلوينات حضارية، وهى شخصية متسامحه لأنها قبلت مختلف الحضارات التى مرت بمصر.
يشار أن المخرج أنور الشعافي هو من أكبر المسرحيين في تونس، بدأ نشاطه المسرحي منذ مرحلة الطفولة في عمر ال8 سنوات فى نادي الأطفال، وعشق المسرح منذ هذه المرحلة، ثم بعد ذلك التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية بتونس وتخرج عام 1988م، وقدم رسالة بحث بعنوان "المسرح الحديث فى تونس بين التجربة والتجريب"، ودرس المسرح فى أكبر مسارح أوروبا وهو مسرح "شتوتغارت" بألمانيا، وتأثر بالمسرح الألماني بشكل كبير، وهو مخرج تجريبي من الطراز الرفيع فهو مخرج بدرجة باحث، شارك بفعاليات عديدة أهمها عام 1991 جمالية الحركة وفن المايم بالمهرجان العالمى للبانتومايم بشتوتغات بألمانيا عامى 1990 ،1991، الكوميديا دى لارتى بمسرح الورشات بفرنسا، 1989 فن الممثل بالكونسرفتوار الوطنى للمسرح بفرنسا، 1986 "تكوين الكوميديا " مع البولونى كازيمير غروشما لسكى وفن المهرج مع الفرنسى فيليب هوتيى، كما قدم العديد من الأعمال المسرحية منها على سبيل المثال "ترى ما رأيت" بختام مهرجام قرطاج ، "أو لا تكون " بمهرجان الإسكندرية ، "كابوس أينشتاين" وغيرها من العروض المسرحية.
|