القاهرة 27 سبتمبر 2022 الساعة 11:49 ص
بقلم: د. حسين عبد البصير
لا يوجد شعب في العالم كله يحافظ على عاداته عبر الزمن، ويبدع فيها باستمرار، ويصل الماضي بالحاضر في حياته، مثل الشعب المصري الذي يختلف كلية عن غيره من الشعوب قاطبة سواء في البلدان العربية والأجنبية. وتقوم ثقافة المصريين على الاستمرارية لا الانقطاع ومجاورة القديم للجديد دون غرابة أو دهشة. وتعتبر أشكال وطقوس العادات والتقاليد في مصر راسخة وعميقة قدم الحضارة المصرية القديمة نفسها.
ويعد الطعام المصري الحالي من أهم العادات الموروثة من مصر القديمة منذ أكثر من سبعة آلاف عام. ويعتبر الطعام في مصر القديمة من أهم الأشياء التي كان المصريون القدماء يحرصون على وجودها معهم في العالم الآخر مع الأثاث الجنائزي الذي كانوا يضعونه في مقابرهم، وكذلك من خلال تصوير الطعام والقرابين وموائد الطعام في المناظر العديدة التي تركوها على جدران مقابرهم ومعابدهم. وكان المصريون القدماء يقدمون القرابين عند زيارة موتاهم في المقاصير العلوية للمقابر، ونرى الكثير من القرابين المصورة على جدران المقابر، علاوة على تركهم قرابين فعلية في حجرة الدفن. وكانوا يعتقدون أن المتوفى سوف يستعملها عند بعثه للحياة مرة أخرى في العالم الآخر .
وهي نفس العادات التي يقوم بها المصريون حاليًا حين يزورون موتاهم ويقدمون الأطعمة المختلفة مثل الكحك والفطائر والبلح والجوافة في العديد من المناسبات رحمة ونورًا على أرواح موتاهم. وكان الخبز المصري القديم (أو "العيش" كما نطلق عليه في مصر المعاصرة أو "عنخ" أي "الحياة" في مصر القديمة) بأنواعه العديدة سيدًا على قائمة مائدة الطعام لدى المصريين القدماء. وكان يُصور بكثرة وببراعة فنية على موائد القرابين المصاحبة لمناظر مقابر النبلاء في مصر القديمة. وبلغت أنواعه أكثر من مائة نوع. وهناك الكثير منه مثل الملتوت والجرجوش والكسرة خبز "ت" والعيش الشمسي والبتاو الموجود في صعيد وريف مصر إلى الآن.
وكان الزواج رباطًا مقدسًا عند المصريين القدماء، وكذلك كان خاتم الزواج الذي كان المصريون القدماء أول من استخدمه بشكله الدائري للتعبير عن وحدة الرجل مع المرأة بشكل أبدي في الحب والحياة معًا في الدنيا والآخرة. وكان المصريون القدماء يوثقون عقود الزواج مثلما نفعل في عصرنا الحديث. وكان تتم كتابة عقد الزواج من عدة نسخ واحدة للعروسين وللتوثيق وحتى لا يضيع حق أي من العروسين. وكان المصريين القدماء يقومون بعمل كميات كبيرة من المأكولات والمشروبات؛ كي تظل مخزونًا في منزل الزوجية يكفيهما عدة أشهر، مثلما نفعل حاليًا عند زواج العروسين.
وكانوا يحتفلون بـ"سبوع" المولود الجديد بعد مرور سبعة أيام على ولادته؛ نظرًا لاعتقادهم بأن حاسة السمع كانت تبدأ عنده في اليوم السابع من ولادته. واستخدم المصريون القدماء البخور؛ لارتباطه ببعض الطقوس الدينية؛ ولطرد الأرواح الشريرة؛ ولرائحته العطرة التي كانت تعطر المعابد، وتطهر الأماكن من كل الروائح الكريهة. وتعد عادة تبخير المنازل بالبخور في الأعياد والمناسبات وأيام الجمع ولطرد الحسد في مصر المعاصرة من عاداتنا الموروثة من مصر القديمة. وتعد أيضًا صناعة العطور المحلية مستوحاة من مصر القديمة.
وتعتبر عادة "الأربعين" للمتوفى عادة مصرية قديمة، والتي ما يزال أغلب المصريين يقومون بها إلى الآن. وتتمثل في زيارة قبر المتوفى وإحياء ذكراه بعد مرور أربعين يومه على وفاته. وارتبط ذلك ببعض الطقوس الجنائزية في مصر القديمة. وهناك عادة أخرى من عادات القدماء المصريين ما تزال موجودة في مصرنا إلى الآن، وتتمثل في "الخرزة الزرقاء" و"الخمسة وخميسة" التي يتم ارتداؤها لمنع وردع الحسد والعيون الشريرة. وكان لابد من وضع خرزة زرقاء في عين العدو، وارتدائها في سلسلة الصدر، أو تعليقها على جدران المنازل، أو على أبواب البيوت. وكانت هي عين الإله الحامية التي كانت تحمى المصري القديم من الشر والحسد.
ومن العادات المتوارثة من العصور المصرية القديمة إلى أيامنا هذه، حرص المصريين القدماء على مواجهة السحر والشر بعمل تمائم وأحجية وتعاويذ وغيرها، والتي يضعونها في ملابسهم أو حول أعناقهم أو تحت غطاء رءوسهم أو على جسد موتاهم لحفظ أنفسهم من الشرور والسحرة وغيرها من الأمور السيئة.
واستمر المصريون المحدثون في السير على نهج أجدادهم المصريين القدماء في عاداتهم وطقوسهم التي كانوا يقومون بها عند زيارة مواقع وأماكن الآلهة التي كانوا يقدسونها في مصر القديمة، فكان هناك معبود أو شيخ أو ولي من أولياء الله الصالحين لكل منطقة يتبركون به ويتوجهون لزيارته بصفة دورية للحصول على البركات والتماس تحقيق طلباتهم من الإله بالتقرب من أماكن وأضرحة أولياء الله الصالحين.
وتستمر هذه العادات وغيرها في مصر الحالية مما يؤكد أن مصر القديمة لا تموت، وما تزال تعيش بيننا في مصر المعاصرة. ولعل القراءة الفلسفية والتأصيلية لهذه العادات والطقوس المصرية القديمة توضح حقيقة التواصل بين الماضي والحاضر في مصر الأبدية؛ نظرًا لما تمثله هذه العادات في مصر الحالية من امتداد طبيعي للطقوس المصرية القديمة، مما يؤكد على تواصلنا الأصيل والعميق بين الماضي والحاضر.
إن عادات المصريين القدماء، التي ما نزال نمارسها إلى الآن، هي صمام الأمان والضمان للصحة والحيوية وطول العمر بالنسبة للكثير من المصريين المعاصرين. وتعد مظاهر وطقوس العادات والتقاليد في مصر حرصًا على الحياة وحبًا لها واحتفالاً بها، وبحثًا مستمرًا عن الروح الحضارية الكامنة في المصريين دائمًا وأبدًا من خلال التواصل والترابط بين الأفراد وبعضهم البعض، وبينهم وبين ماضيهم العريق الذي لا يموت.
مصر ماضٍ لا يموت.. مصر هي التي علمت العالم.
|