القاهرة 27 سبتمبر 2022 الساعة 11:47 ص
كتب: أمير شفيق حسانين
فن المُنَمنَمات -بضم الميم الأولى وتسكين الثانية وفتح النونين- من أرقي الفنون المعْنية بالزخرفة، والمُنَمنَمات مفردها مُنَمْنَمة، ولها تعريفات عديدة، جميعها تصب في معنى واحد، فالمُنَمْنَمة هي الصورة المزَخْرفة في مخطوط، وهي أيضًا الرسم الدقيق المفصَل أو الحرف الزينيَ علي مخطوطة مزَخْرفة.
وإسم الفاعل من المُنَمْنَمة هو مُنمنِمْ -بكسر النون الثانية- وهوالشخص القائم بزخرفة ونقش الأشياء بخطوط وصور دقيقة، واسم المفعول منها مُنَمنَم أي مُزخْرَف، ومنها الفعل يُنمْنِم أي يُصمِم بخط صغير.. ويُقال نَمْنم الشيء أي زخْرفه بدقة، والكتاب المُنمْنَم أي المُزَيْن بتصاوير دقيقة مرْسومة باليد.
ولو تحدثنا عن أحد رواد فن المُنَمنَمات في القرن العشرين، نجد أنه الرسام الجزائري محمد راسم، الذي عشق المُنَمنَمات منذ سن منذ الرابعة عشرة، وقضى جزءًا من أيامه في الاستنساخ وتصميم نقوش السجاد، والمطرزات العربية، والزخارف على النحاس، والمنحوتات الخشبية، من أجل تزويد مدارس وورش الجزائر بالنماذج .
وُلِدَ الفنان محمد راسم في حي القصبة بالعاصمة الجزائرية عام 1896 م، حيث أكمل دراسته في مدرسة للتعليم المهني تتبع الاستعمار الفرنسي، وبعدها عمِل رسامًا بمكتب الرسم التابع لمديرية الفنون الأهلية الذي أشرف عليه -حينها- بروسبر ريكارد، مفتش التعليم الفني بالجزائر، حيث أدهشته إبداعات راسم في الفنية، وفي ذلك المكتب اكتشف راسم المُنَمنَمات الفارسية، ليتولي تِباعًا مهمة إنعاش ذلك الفن، خاصة في المغرب العربي، والذي لم يكن معروفًا هناك.
وينتمي راسم لعائلة من الحرفيين، تفوَق أعضاؤها في شتي أوجه الفن التشكيلي، حيث احترف والده وجده مجال الحفر على الخشب وطرقْ النحاس، في الوقت الذي برع عم الفنان محمد راسم في النقش علي الأحجار وشواهد المقابر، علمًا بأن شقيق محمد راسم، هو الخطاط والسياسي عمر راسم، واللذَينْ تعاونا سويًّا ونجحا في تأسيس مدرسة المُنَمنَمات الجزائرية في 1939 م.
اتسمت أعمال راسم بالدقة والشاعرية وثبات اليد في التصميم، بسبب اهتمامه بأدق التفاصيل لتظهر في النهاية على هيئة عمل بديع يمتاز بتداخل الألوان والزخارف، فزُيِنَتْ أعماله بالحِس الجمالي والتوفيق في اختيارالألوان، وبفضل عبقرية راسم وتحرياته العلمية، استطاع أن يثري تراث المُنَمنَمات دون المساس بأصالته ، كما حافظ على التقنيات الجمالية الخاصة بذلك الفن.
نجح محمد راسم، في وضع أُسس مدرسة المُنَمْنَمات الجزائرية بعيدًا عن الطرق النمطية لمُنَمْنَمات وزخارف المدارس الفارسية والتركية، فسعي لدمج تقنيات الرسم التقليدية الفارسية والمغولية، للنهوض بالمُنَمْنَمات، مُعطيًا لذلك الفن الساحر، خصائص لوحة التشكيل الفني الحديث وفق قواعد المنظور الأوروبي وتقنيات النظرية اللونية التي تميز بها "سيزان" .
ويُعد محمد راسم هو أول جزائري يفوز بالجائزة الفنية الجزائرية الكبرى، وكان ذلك عام 1933، وفي العام التالي عمل راسم مُدرسًا بمعهد الفنون الجميلة بالعاصمة الجزائرية، وإليه يُنسب الفضل في تعليم الكثيرمن الأجيال، الذين نبغوا وحافظوا علي تُراث أُستاذهم.
ومن أهم المحطات التاريخية في مشوار راسم الإبداعي، لقاؤه بالرسام المستشرق ناصرالدين دينيه عام 1914 م، والذي كلَف راسم بتزيين خمسة عشرة صحفة كاملة من الكتابات القرآنية المنقوشة بالألوان بكتابه "محمد رسول الله"، وفي عام 1917م أنتج راسم أول مُنَمْنَمة تحت عنوان "حياة شاعر".
حصل محمد راسم علي مِنْحة " كازا فلاسكويز"، والتي ساعدته علي زيارة بعض البلدان كالأندلس، فاستغل الفرصة لزيارة مساجدها وقصورها وحدائقها، والاستفادة في تجاربه الإبداعية من الخزفيات والمخطوطات التي احتوتها الأندلس، كما وُفِقَ راسم في زيارة لندن، حيث اطلع علي المخطوطات والمُنَمْنَمات العربية الإسلامية للفنانَين كمال بِهزار ويحيي الواسطي.
عُرِضَتْ أعمال محمد راسم في مُعظم أنحاء العالم، وخاصة في باريس والقاهرة، وبوخارست وروما، وستوكهولم وكوبنهاغن، والجزائر وتونس، عِلمًا بأن القسم الأكبر من مجموعة الفنان الشخصية -حاليا- في مأمن، بمتحف الفنون الجميلة في الجزائرالعاصمة.
وبدايةً من عام 1922م استقر أسطورة المُنَمْنَمات محمد راسم ثماني سنوات في باريس، أكمل خلالها تزيين صفحات اثني عشر مجلدًا لكتاب "ألف ليلة وليلة"، بتكليف من الناشر الفني "هنري بيازا"، كما جُمِعَتْ مُنَمْنَمات راسم في عدة مؤلفات منها: كِتابيْ " الحياة الإسلامية في الماضي" و"محمد راسم الجزائري".
وفي عام 1923م عرض محمد راسم أعماله الفنية في صالون الفنانين الجزائريين والمستشرقين، وفي نفس العام حصل راسم علي مِنحة من بلدية الجزائر العاصمة، وفي عام 1924 م حصل عِملاق المُنَمْنَمات علي وسام الرسامين المستشرقين الفرنسيين في باريس، وقد اقتنت عِدةْ متاحف ذات شهرة عالمية العديد من أعمال راسم، والتي وصلت للعالمية.
كان محمد راسم مُتمرسًا في مختلف أنماط المُنَمْنَمات ومُتضلعاً في تاريخها، فكان غالبًا ما يضع عناوين للوحاته مثل نمط فارسي أو نمط مصري تبعا للأسلوب الذي استخدمه، ويُذْكر أن راسم في الفترة الأخيرة من مسيرته الفنية، قال في وصفِه لأعماله أنه أراد ترسيخ ذاكرة الثقافة العربية التي كان الاستعمار الفرنسي يُحرفها بشكل مُتسارع. ????????
وقد اعتبر مؤرخ الفنون الشهير روجر بنجامين، أن راسم استخدم عمدًا المنظورغير المثالي والمحوّر نسبيًا من أجل تأكيد هويته المغاربية ومن أجل إعلاء تقليد المُنَمْنَمات على النماذج الأوروبية، وكما لاحظ بنجامين أن لوحات راسم شهدت -في الوقت ذاته- على فَهْمِه الدقيق للإيماءات والأزياء المحلية وتُعيد كتابة طرق الرسم الاستشراقية المُخزية.????????????
كان محمد راسم واثقًا بأن مقاومة الاحتلال الفرنسي، يمكن أن تتم من خلال الفن، فلجأ في رسوماته ولوحاته الباهرة إلى تصويرالأحداث التاريخية بالجزائر، والاحتفالات الدينية قبل الاحتلال، ولحظات من الحياة اليومية التي كانت سائدة لدى الجزائريين في الفترة التي سبقت احتلال فرنسا للجزائر.
وفي عام 1950 م انتُخِبَ راسم عُضوًا شرفيا في المؤسسة الملكية لرسامي المُنَمْنَمات لإنجلترا، والذي اعتُبِرَ أشهر البارزين في عالم المُنَمْنَمات الجزائرية، وعقب استقلال الجزائرعام 1962م، تم تعيين راسم مستشارا لوزير الثقافة.
وفي عام 1955م، أُصِيب المُبدع محمد راسم بمشاكل جسيمة في الرؤية، فتوقف على إكمال رحلته الإبداعية مع المُنَمْنَمات.. وفي 30 مارس من عام 1975م لقى راسم وزوجته السويدية، مصرعهما في بلدة الأبيار بالجزائر، في ظروف غامضة، حيث رجحَت التقارير الإعلامية -آنذاك- أن الفنان راسم وقرينته قد قُتِلا على يد لصوص اللوحات.
وفي عام 1992 م نظَم معهد العالم العربي، معرضًا استعاديا لأعمال ولوحات الرسام الجزائري القدير محمد راسم، وفي 24يونيو 2016م احتفل مُحرِك البحث جوجل بذكري ميلاد راسم، الذي يُعدْ أشهر مَنْ أحيا فن المُنَمْنَمات، حيث وضع "جوجل" على وجهة صفحته الرئيسية رسمًا يظهر الفنان مُتعدد المواهب، وهو مُمسِك بريشته، في إطار لوحة مرسومة على الطريقة المُنَمْنَمات.
|